}

على هامش مجزرة غزة: النظام العربي من هزيمة لأخرى

فيصل درّاج 1 مايو 2024
آراء على هامش مجزرة غزة: النظام العربي من هزيمة لأخرى
تقف غزة اليوم وحيدة صامدة (Getty)



في أكثر من حوار مع الصديق الراحل عبد الرحمن منيف كان يقول: حلّت هزيمة فلسطين وأنا طالب في جامعة القاهرة. عشتها مع غيري غضبًا وحزنًا وأسفًا على أمة لم تستطع الدفاع عن أرض عربية تعطف عليها مدينة القدس وتضيف إلى الطرفين صفة: مقدسة. كنا نردّد بأسى: "أنتم خير أمة أُخرجت للناس"، نسخر بحزن ونحزن ساخرين ونسأل: كيف نردُّ على "نكبة النكباء"، بلغة قسطنطين زريق، ونتساءل من أين جاءت وكيف الوقوف في وجهها. وبعد أن تشبعّنا خيبة صرخت، مع غيري، "وجدتها"، صرخة اليوناني أرخميدس، وقلنا: الحل قومي ولا نستعيد ما فقدنا إلا بأمة موحدة، تنأى عن الشعارات القطرية، بلغة ذاك الزمن...

هرعنا إلى القومية العربية ودعونا، بصوت واحد، إلى أحزاب قومية أو إلى حزب قومي كبير يلمّ أجزاء الأمة ويؤسس لنهضة عربية "مضمونة". كان "الشعار" صحيحًا، قلبًا وعقلًا، فالوحدة قوة والقوة قادرة ومنتصرة، تستطيع أن تصاول "شُذّاذ الآفاق" وتُلحق بهم الهزيمة.

لم نكن نعرف، آنذاك، معنى "المفارقة"، وهي وجود الشيء في ضده، ولم نكن وقعنا على مصطلح: "ديالكتيك السلب"، الذي يرى التقهقر في التقدم، وفي التقدم المرغوب خطوة إلى الوراء إلى أن جاءت "التجارب العملية"، بعد أن رحل الشباب ووصلنا إلى الكهولة، التي لم يواسيها الزمن العربي في شيء. كان علينا أن نعيد التأمل في معاني: قومية وحزب قومي وانتصار وهزيمة وسلاح وحرب وجيش، وإعادة النظر في الألقاب العسكرية الكبرى والتي تبدأ بمارشال وحامي الألوية ولا تنتهي بحارس السماوات.

ما تحدثنا عنه فرحين لم يكن قومية عربية قائمة تشكّل، نظريًا، دولة عربية كبيرة قومية الأهداف. ما كان موجودًا، فعليًا، هو: العروبة الممثلة باللغة. كان المتفائل منا يوحد بين الثقافة واللغة دون أن يكون ما ذهب إليه صحيحًا، ذلك أن الثقافة لا تعادل اللغة و"عالمنا العربي" كان فيه، ولا يزال، أكثر من لغة وثقافة، رغم النوايا الحميدة.

فاتنا في ذلك الزمن، يتابع منيف، أن ننتبه إلى الإثنيات والطوائف اللتين تزدهران، سلبًا، بعد إخفاق الدولة الوطنية، إذ يلجأ "البعض" إلى طائفته ويرى فيها قومية "بديعة"، وقد يبالغ في ما اصطفاه ويلغي السياسة والحوار و"الصراع الطبقي"، كما لو كان الطائفي الفقير والصغير يضارع الطائفي الغني والكبير ما يحوّل الطائفة إلى "وطن مفترض" تختصر المختلفين، طائفيًا، في عربي نقيض، ليغدو الدفاع عن الوطن حربًا بين الطوائف المختلفة.

كتب الإنكليزي كينيث بولاك كتابه المستنير: "جيوش الرمال"، المبرّأ من العنصرية والمواقف المسبقة، وفسّر تلك الهزائم بـ "نمط التربية العربية" التي لا تتيح للفرد أن يكون مستقلًا في الفكر والسلوك


القومية تتجاوز الطائفة بوعي أكثر رقيًا وتطوّرًا، بل إن في الخيار الطائفي تراجعًا إلى المراجع الاجتماعية "المتخلّفة"، حال القبلية والعشائرية اللتين لا تأتلفان مع المواطنة التي تتعامل مع البشر بحقوق وواجبات متساوية. فإذا كانت الطائفية تنطوي على "الفرق الكيفي" المتوهَّم وتتضمن تحاربًا "مضمرًا"، فإن الوطنية انتماء جميع أفراد المجتمع إلى أرض وحدود مشتركة، واستعداد للدفاع عنها.

كان منيف يقول: نسينا أن الطوائف قد تتحزب، وأن الأحزاب تأخذ طابعًا طائفيًا، وأن خيارنا القومي متعثّر الفاعلية في بلدان ضعيفة المجتمعات. أضاء الأستاذ حليم بركات، وهو قومي الهوى وصديق حميم لعبد الرحمن، سؤال الهزيمة العربية المتجددة في كتابه: "المجتمع العربي"، الذي اعتبر فيه "الأسرة" الحامل الأساسي للمجتمعات العربية، تربيّ فردًا يتميّز بالتواكل والقدرية وانصياع الصغير إلى الكبير، ما ينتج فقدان الاعتماد على الذات وإلغاء التفكير المستقل والمبادرة الفردية والتبعية في الفكر والسلوك. تنتج التربية الأسرية العربية، بهذا المعنى، الفكر المستقيل والشخصية الخاضعة. ولهذا اعتمد بعض علماء الاجتماع على اجتهادات حليم بركات وهشام شرابي وصادق العظم في تفسير هزائم الجيوش العربية المتوالدة. كتب الإنكليزي كينيث بولاك كتابه المستنير: "جيوش الرمال"، المبرّأ من العنصرية والمواقف المسبقة، وفسّر تلك الهزائم بـ "نمط التربية العربية" التي لا تتيح للفرد أن يكون مستقلًا في الفكر والسلوك وتحاصره "بكمّ من العادات"، يجعله يجيب على الأسئلة قبل سماعها، وتقيم بينه وبين التجدّد والإبداع مسافة شاسعة.


تحدّث السوري الراحل صادق العظم، في كتابه: "النقد الذاتي بعد الهزيمة" عن الإنسان العربي الفهلوي، الذي يجمع في سلوكه اليومي بين التشاطر والارتجال والمصلحة، مبتعدًا عن المعايير الموضوعية التي يشتق منها الفوز ومجابهة آخر مختلف، وذاهبًا، بلا تفكير، إلى هزيمة مضمونة. ما شاءه صادق واضح في مفردتين: النقد الذي يعني خللًا يجب التحرر منه، والهزيمة التي هي منتهى العقول المستقيلة والشخصيات المتكسّبة. اتخذْ العظم، المفكر التنويري المستقل، من النقد منهجًا في قراءة الظواهر التي تلازمها الهزيمة فكتب: نقد الفكر الديني، نقد فكر المقاومة الفلسطينية، ونقد الساداتية ومعنى السلام العادل. برهن فكره عن موضوعية مسؤولة، إذ أن الخطاب الديني المتحجّر يستولد العنف والتحارب الاجتماعي، وإذ في الموقف الساداتي، كما في فكر المقاومة الفلسطينية، ما يضمن فوز إسرائيل على غيرها، ويحوّل الفعل السياسي إلى توسّل واستعطاف و"فهلوية" تنتهي إلى البوار. لم تستعمل اجتهادات منيف وبركات والعظم، وثلاثتهم دافعوا عن فلسطين، مصطلح "السلطة السياسية"، وإن كان نقدهم من الألف إلى الياء يدور حول سلطة قائمة على ثنائية الاستبداد والفساد. ما لم يقل به هؤلاء بشكل مباشر عالجه، مسرحيًا، سعد الله ونوس الذي أدرك، مبكرًا، أن نقد النظام العربي الجوهري قوامه السلطة السياسية. عاد في مسرحيته "يوم من زماننا" إلى الحلبي السوري عبد الرحمن الكواكبي وإلى ما جاء في كتابه الذي لن يموت "طبائع الاستبداد" حيث فاعلية الإنسان الحقيقي لا تنفصل عن الشكل السياسي للمجتمع الذي نشأ فيه. بقدر ما أن استعداد هذا الإنسان للدفاع عن وطنه محصلة لتربيته الاجتماعية. أفرد سعد الله لعلاقة الإنسان الحر بوطنه مسرحية متميّزة البنية والخطاب عنوانها: "منمنمات تاريخية"، حمل فيها على تديّن شكلاني يستثمر الدين لأغراض ذاتية، وعلى "طبقة تجارية" تنشد الربح وتهدر معنى الأخلاق والقيم والسماوات. بل إن هذين الطرفين يضحيّان بالوطن خدمة لأغراض تقبل بالبيع والشراء والاستعارة.

هل يستقيم الدفاع عن القومية والعروبة والوطن وفلسطين في فضاء اجتماعي يمحو ذاتية الفرد ويمسح معنى الجماعة ويشوّه دلالة الدين وينتهك قيم الاستقلال والحرية بشعارات لفظية تمجّد القدس ولا تفعل لها شيئًا، وتذكّر بفلسطين ولا ترحم الفلسطينيين، بل إن هذه الشعارات، التي كانت قبل عقود تتكلم عن "النكبة"، عاشت دورة الإخفاق بلا حياء، نسيت النكبة الأولى وألحقت بالعرب نكبات متلاحقة.

كل ما كان في الخطاب العربي النهضوي، قبل مائة عام، كان ينصر غزة، وكل ما أنتجه "الأدب العربي الحديث" كان ينصر غزة، وجميع العقول العربية المضيئة كانت تنصر غزة. والمحصلة النهائية ترى ما كان وتقول: اجتهد النظام العربي، في معظم ألوانه، في هدم وتدمير وتهميش ما كان معترفًا به أيام النكبة الأولى ـ 1948 ـ ووصل بعد "ثلاثة أرباع  القرن" إلى السكوت عن النكبة وعن الذين أشرفوا عليها، واكتفى بصمت لا ترضى به المخلوقات شبه العاقلة. لذا تقف غزة اليوم وحيدة صامدة، تنزف ولا تستسلم ولا تنتظر من "العروبة" أكثر مما ينتظر الأيتام من مائدة اللئام.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.