}

تحت وطأة "حرب الجنرالين": مصائر مثقّفي السودان وتراثها الثقافي

أوس يعقوب 3 سبتمبر 2023
آراء تحت وطأة "حرب الجنرالين": مصائر مثقّفي السودان وتراثها الثقافي
في 15 نيسان استيقظ السودانيون على وقع الحرب (Getty)
مع توسّع نطاق "حرب الجنرالين" في السودان، الجارية منذ نحو خمسة أشهر بين الجيش بقيادة الجنرال عبد الفتاح البرهان، وقوات "الدعم السريع" (الجنجويد) بقيادة الجنرال محمد حمدان دقلو (حميدتي)، بسبب الصراع على السلطة، ومع تصاعد التحذيرات الأممية من "تدمير كامل" للبلاد، "وكارثة إنسانية" في المنطقة، أظهرت المعارك الدائرة في العاصمة الخرطوم، وعدد من المدن الأخرى، وجوهًا للقبح متعدّدة أثّرت على كلّ مناحي الحياة وشرائح المجتمع، وفي المقدّمة منها تراث البلاد الثقافي، وأحوال الثقافة والفنون، ومصائر مبدعيها، حيث قتلت المطربة والباحثة السودانية في التراث الشعبي، شادن محمد حسين، الملقبة باسم "الحكامة" عن عمر 35 عامًا، إثر سقوط قذيفة طائشة داخل منزلها في أم درمان، في الثالث من شهر مايو/ أيّار الماضي. وقبلها بعشرة أيّام، أعلن عن مقتل رائدة المسرح السوداني الممثّلة آسيا عبد الماجد، عن عمر 80 عامًا، جراء تبادل لإطلاق النار بين طرفي النزاع.
كذلك توفي الشاعر والمربي النوراني الحاج الفاضلابي، بعد صراع طويل مع المرض، ووفق إفادة أحد أقاربه فإنّ تردي الخدمات الصحية نتيجة الحرب الدائرة فاقم اعتلال صحة النوراني، وعجل في رحيله. وفي منتصف يوليو/ تمّوز الماضي، توفي عازف الكمان الموسيقي خالد سنهوري، في بيته بمدينة أم درمان، نتيجة هبوط حاد في الدورة الدموية، بعد أن عاش لأيّام من دون مأكل، أو مشرب، في ظلّ سيطرة المسلّحين على المنطقة، واستمرار المعارك بين قوات الجيش وقوات "الدعم السريع".
كما تضرّر "متحف السودان الطبيعي"، وجزء من "المتحف القومي"، الذي يضمّ مقتنيات من حقب تاريخية مختلفة. كما احترق "مركز محمد عمر بشير للدراسات السودانية"، وتمّ الاعتداء على عدد من المكتبات الخاصّة في منازل عدد من الأدباء والمثقّفين، من أمثال الشاعر الراحل محمد عبد الحي، والبروفيسور علي شمو، والتي تشكّل ذاكرة ثقافية كبيرة بفضل تنوّع مقتنياتها.
للوقوف أكثر على واقع الحال، تستعرض "ضفة ثالثة" آراء عدد من المثقّفين والكتّاب السودانيين، ممن استطعنا التواصل معهم، وهم يعايشون منذ الخامس عشر من أبريل/ نيسان الماضي، وحتّى اليوم، واقعًا كارثيًا مؤلمًا تحت أزيز الرصاص، وهدير المدافع، وقصف الطيران... سائلين إيّاهم/ نّ عمّا تعرّضوا له من مخاطر في مناطق الحرب العبثية، وما لحق بالتراث الثقافي الغني للبلاد من أضرارٍ جراء المعارك الطاحنة. كذلك سألناهم/ نّ عن أحوال المؤسّسات والمراكز الإعلامية والثقافية والمكتبات والجامعات في البلاد. فكان هذا التحقيق.

أماني محمد صالح (ناقدة وإعلامية):
جفّف العسكر منابع الإبداع...


من أصعب المواقف على الإنسان أن يكتب عن وطنه في زمن الحروب، عن معاناته في وطن يضيع وينهب ويسلب من قبل ميليشيات حرب عبثية، الخاسر الوحيد فيها هو المواطن. ما يحدث في بلادي اليوم هو صراع على السلطة بين من وصلوا إلى السلطة أصلًا بانقلاب! وربّما تكون من أصعب الحروب في تاريخ السودان، حرب استهدفت المواطنين الأبرياء الذين ناضلوا وصبروا على مدى خمس سنوات من أجل وطن معافى وحكم ديمقراطي مدني، ولكن بين ليلة وضحاها استيقظ المواطن السوداني على حرب دمّرت كلّ شيء، وشرّدت المواطنين من منازلهم، ليصبحوا في لمح البصر بلا مأوى، في مشهد لا يخلو من الذهول. ورغم المشهد السياسي الملتهب الذي أدخل السودان في مأزق سياسي واقتصادي حرج، غير أنّ اندلاع الحرب فاجأ كثيرين ممن كانوا يحلمون بوطن جميل.
لقد أثّرت هذه الحرب على المشهد الثقافي والإبداعي بصورة واضحة، حيث يحتاج الحراك الثقافي إلى أجواء تحفّز على الإبداع، مع قناعتي أنّ الإبداع يولد من رحم الوجع في أحيان كثيرة، إلّا أنّ حرب الميليشيات هذه شلّت الفكر والإبداع، لما فيها من بشاعة، كما دمرت مؤسّسات ودُور إعلام وثقافة، فمقرّ الإذاعة والتلفزيون محتلّ من قبل (الجنجويد)، والصحف الورقية توقفت عن الصدور، وكثير من المراكز الثقافية محتلّة من قبلهم.
على الصعيد الشخصي، كواحدة من أهل الإعلام والثقافة في بلدي، فإنّ تجربتي مع هذه الحرب كانت مؤلمة، إذ كان منزلنا من أوائل المنازل التي نهبت واستبيحت في الخرطوم، قبل أن ندرك ماهية هذه الحرب كنّا في لحظة اندهاش، خرجنا من منزلنا في شهر رمضان، وعند العودة تفاجأنا بأنّ الحيّ بكامله أصبح معسكرًا لقوات "الدعم السريع". وهذه، ربّما، كانت واحدة من الأخطاء الفادحة أنّ (الجنجويد) كانوا يمتلكون عقارات داخل الأحياء السكّانية، بعد عدّة محاولات للدخول إلى حيّنا المحتلّ نجحنا في الوصول إلى منازلنا، فكانت المفاجأة والذهول أنّهم استباحوا المنازل، ونهبوا كلّ ما فيه، وهم حتّى هذه اللحظة يحتلّون المنازل. ومن العجب أنّنا كنّا نطلب منهم الإذن لحمل أغراضنا وجوازات السفر. لا أستطيع أن أصف مهما حاولت مشاعر القهر والغبن الذي ينتاب المرء وهو يدخل منزله المستباح من قبلهم، فقد سرقوا كلّ شيء، حتّى ذكرياتنا سلبت، فلنا في كلّ ركن ذكرى، لقد بعثروا مكتبتي، ورموا الكتب في كلّ ركن، فهم جهلة لا يعرفون ماذا تعني هذه الكتب، بعدها انتقلت إلى منزل شقيقتي حيث نستطيع القول إنّه أكثر أمانًا من منطقتي، لنعود ونشعر بعدها بالخطر فكانت رحلتي إلى شمال السودان، حيث تنقلت بين "حلفا الجديدة"، و"وادي حلفا"، إلى أن استقريت مع عائلتي في قريتي في "السكوت المحس"، بعد معاناة نفسية وجسدية يصعب وصفها.
أمّا على صعيد الحراك الثقافي فقد أصابه شلل عامّ، بالنسبة لي توقّف صدور ملّفي الثقافي "مدارات تيارات"، الذي كنت أعدّه لإحدى الصحف الإلكترونية بسبب سوء خدمات الإنترنت، وتوقّف كذلك برنامجي "أندريا بودكاست"، بعد سرقة كلّ المعدات التي كنّا نحتاجها للبث، وأيضًا بسبب نزوح أفراد طاقم البرنامج إلى مناطق أكثر أمانًا. هذه الأسباب وغيرها كانت من أسباب توقّف العمل الإبداعي بنسبة كبيرة، حيث جفّف العسكر منابع الإبداع مع اندلاع الحرب، فلا ترى اليوم إقامة ندوات ثقافية، أو أيّ فعاليات من تلك التي كانت تشهدها البلاد، خاصّة بعد نزوح وهجرة المثقّفين والمبدعين داخل البلاد وخارجها، حتّى الندوات الافتراضية توقّفت جراء خدمات الإنترنت الرديئة، والتي كانت وراء توقّف كثير من الصحف الإلكترونية، ومحطات البث الإذاعي والتلفزي على الشبكة العنكبوتية.




كذلك تعرّضت كثير من المؤسّسات والمراكز الثقافية للدمار والنهب بعد احتدام المعارك، من ذلك "دار الوثائق القومية" التي تعد ذاكرة الأمة. وبفقدان هذه الوثائق المهمّة، إلى جانب القصف والدمار والخراب الذي لحق بالمكتبات الثقافية، ومكتبات الجامعات، تكون خسارتنا الثقافية فادحة. كما تعرّض "مركز محمد عمر البشير للدراسات السودانية"، التابع لـ"جامعة أم درمان الأهلية" لخراب كبير. هذا المركز يعد واحدًا من مراكز البحث المهمّة التي تحتوي على أرشيف كبير. أيضًا "متحف السودان القومي" طاوله خراب كبير، بعد أن عاثت فيه الميليشيات نهبًا بكلّ عدائية، ومن دون وعي لما يحتويه من تراث وتاريخ، ولم يقتصر أذى هذه الميليشيات على البشر والحجر، حيث لحق الخراب "متحف التاريخ الطبيعي" فهؤلاء لا يعرفون قيمة التاريخ والتراث وما تحتويه المتاحف من قيمة تاريخية، إنّهم يمحون تاريخ الأمة السودانية باستباحة كافّة المؤسّسات والمراكز الثقافية والإعلامية والجامعات والمتاحف، وهذا يؤكّد أنّنا نواجه حربًا عبثيةً تقضي على تاريخ وتراث الأمة السودانية وممتلكاتها.

منيب مختار (شاعر وقاصّ):
طمس ذاكرة المجتمعات السودانية


في الخامس عشر من أبريل/ نيسان استيقظ السودانيون على وقع حرب كان مسرحها عاصمة البلاد، حرب وقودها رأس المال والسلطة والمصالح، بين ميليشيا "الدعم السريع" والجيش السوداني. باتت الخرطوم أنقاض مدينةٍ تملك سماءها الطائرات، وأرضها المدافع وزخات الرصاص والضحايا من المدنيين العزل والجنود. لم تمض ثلاثة أسابيع حتّى طالت الحرب معظم عواصم الولايات ومحلّياتها، قتل وتشريد ونهب لممتلكات المواطنين والأسواق والمؤسّسات الحكومية والقطاع الخاصّ، وجرائم الاغتصاب تحت التهديد والاعتقال التعسُّفي "الانتقائي"، بذرائع تُشرعن الوضع القائم وتنتهك حرّيّة الجماعات والأفراد، وارتكاب جرائم القتل خارج إطار القانون. وفي زوايا معتمة تمامًا ترزح مدينة أخرى حدودية مع الجارة تشاد تدعى مدينة "الجنينة"، في أتون قتال شرس أشعلته ميليشيا "الدعم السريع" من حرب ضدّ ـ الدولة بوضع اليد ـ أو الجيش السوداني إلى تطهيرٍ على أساس العِرق راح ضحيته آلاف المواطنين، ونزح الآلاف إلى مناطق شبه آمنة، وفي ظروف إنسانية صعبة جدًا، مع عدم توفّر أدنى ممكنات الحياة.
الواقع الآن أنّ المشهد الثقافي لا ينفصل عن المشهد الإنساني والاجتماعي، ويتّصل بالمشهد السياسي المعقّد في السودان، والذي دفع الأطراف إلى تبنِّي آليّة الحرب للوصول إلى السلطة، وتحيِّيد آليّة الحوار التي تتبنّاها القوى السياسية، ومنظمات المجتمع المدني، وقوى الثورة، عبر منصّة تأسيسية جديدة تنقذ البلاد من منزلق خطير يُفضي إلى الحرب الشاملة. الذي ينظر بعمق لهذا التدمير المنهجي الذي طاول الجامعات السودانية والمكتبات ومراكز البحوث و"دار الوثائق"، والمؤسّسات التعليمية والثقافية المختلفة والهيئات، والمتاحف والمحميّات الطبيعية التي تمثّل ثروات وطنية مهمّة اقتصاديًا وثقافيًا، يدرك أنّ ثمّة رغبة عارمة في طمس ذاكرة المجتمعات السودانية وإرثها الضخم، الذي قد يقابله بالطبع مشاريع بديلة وفق فرضيات وتحوّلات ما بعد الحرب. استعير في هذا السياق ما ذهب إليه أستاذ بكري الجاك في مقاله "الجمهورية الثانية": إنّ "هذه الحرب قد يتمّ أو تمّ استغلالها لمحو كلّ الملّفات الهامّة، بما في ذلك شهادات الملكية والأوراق الرسمية للدولة، وملّفاتها الأكثر حساسية". خلال أربعة أشهر من الحرب والخراب، ذاق الشعب السوداني الأمرّين، وإن الفاعلين الثقافيّين والسياسيِّين والصحافيّين والقانونيّين ليسوا في معزل عن هذا المدّ الغاشم، سواء من العمل العدائي العشوائي، أو الاستهداف الموجّه، فهناك من قُتل، مثل الأستاذ عبد الهادي الكدرو، المدير السابق لمطابع جريدة "السوداني"، والأستاذ القانوني والمحامي محمد جمعة، والمصوّر في تلفزيون السودان عصام حسن مرجان. وهنالك أيضًا من اُعتقل من قِبل الميليشيا والجيش، أو خرج حديثًا من المعتقل، مثل الشاعر محمد الشيخ، والمصوّر الفوتوغرافي "جكسا"، والأستاذ محمد آدم أحمد، وإصابة المفكر د. محمد جلال هاشم إصابة بالغة أدّت إلى بتر رجله، هذا فقط على سبيل المثال لا الحصر، لأنّ آلاف الشباب والأسر السودانية والفاعلين والمبدعين يرزحون تحت وطأة الحرب والمعتقلات ومعسكرات النزوح، وآخرون لجأوا إلى دول الجوار.
الأزمة معقدة، وآفاق حلّ الصراع متعذرة الآن، لأن أطرافًا داخلية وإقليمية تغذي تلك التعقيدات، وتعمل على تأجيج الحرب من أجل مكاسبها، مستفيدة من تناقضات الواقع الجيوسياسي في السودان، ممّا يسهم في تميَيع المبادرات والحلول التي تسعى إلى اقتراح منصّة للحوار الجادّ حول الأزمة، لكنّنا نؤكّد بأنّ هذه الحرب التي أعادت بلادنا إلى الوراء سنين عددًا يجب أن تتوقّف، وأن يكون هنالك تفاوض حول الحلول المستدامة التي تُفضي إلى حلّ جذري للمشكل.
رحم الله الشهداء العُزّل، ورفع عن كاهل بلادنا هذه الحرب اللعينة، وحقن دماء عباده، ونأمل في أن تنجلي إلى الأبد.

أبو طالب محمد (باحث وناقد):
عمّ الموت كلّ نبض ثقافي


أجمعت المؤشرات في السودان منذ بضعة شهور على كارثة كبرى، حيث مرّ الشعب السوداني بعد انقلاب 25 أكتوبر/ تشرين الأوّل 2021 بجملة من المصاعب، والانقلاب نفسه صنيعة إسلاموية، حيث تقدّمت قيادة الصف الثاني في القوات المسلّحة الإقدام على هذه الخطوة، وهي خطوة غير مدروسة، عقّدت سبل الحياة، وتضاعفت الأزمات الاقتصادية الطاحنة، وتوقّفت مرتبات الموظفين والعاملين في ديوان الخدمة. كما توقّفت حركة التجارة، وصمتت أصوات الأسواق، وتكدست البضائع، وكثرت الجرائم، وشح وقود المركبات، وتزاحم الناس في طوابير العيش والمستشفيات، وتفشّت ظاهرة النهب نهارًا جهارًا، وكثرت تحرّكات رموز النظام السابق يشحنون الناس في المساجد ووسائل الاعلام والإذاعة والميادين العامّة والمساجد، يشحنون المؤيدين لهم، ويطالبونهم بالاستنفار ضدّ "الاتّفاق الإطاري" الذي توافقت عليه بعض القوى السياسية، بأن تسلم السلطة لحكومة مدنية تدير الفترة الانقلابية. خلال هذه الشهور، تضاعف القمع المستمرّ للمواكب الثورية. كانت المؤشرات قبل الحرب دليلًا على قرب اندلاع حرب 15 أبريل/ نيسان بين الجنرالين في الخرطوم، وهي حرب ليس من أجل قضية محدّدة، إنّما حرب من أجل السلطة والبقاء للأقوى، ميليشيا متمرّدة تمرّدت ضدّ القوات المسلّحة من أجل الاستيلاء على الحكم. قادت هذه الحرب الشعب السوداني إلى كوارث عامّة تضرّر منها، وندد بها كثيرًا، وطالب بإيقافها، ولكن لا حياة لمن تنادي.
توقّفت شرايين الحياة تمامًا، والفئة الأكثر تضرّرًا هي فئة المثقّفين بكافّة تخصّصاتهم وتوجّهاتهم ومؤسّساتهم الثقافية التي شيدوها بأنفسهم بمعزل عن المؤسّسة الرسمية. اختفت المنتديات الثقافية والليالي المسرحية والمسامرات النقدية منذ اندلاع الانقلاب المذكور، وظلّ المشهد الثقافي في حالة غيبوبة تامّة. ومع اندلاع الحرب، أعلن المشهد الثقافي موته، وداهم الموت كلّ نبض ثقافي كان سابقًا ينضح بالحياة. جُفّفت منابعه، واستبيحت العديد من المكتبات الثقافية في جميع أنحاء مدينة الخرطوم، منها مكتبات عامّة وخاصّة إعادة تأهيلها يتطلّب أمدًا طويلًا، إذا وجدت آذانًا صاغية بعد نهاية الحرب، وتشتّت الشمل الثقافي وتفرق المثقّفون في مشارق الأرض ومغاربها، واستبيحت مساكنهم وتدمّرت دور عرضهم، وبعضها تحوّلت لثكنات عسكرية، وفقدوا أرشيفاتهم التاريخية بضروبها المختلفة، بسبب سوء تفكّر وتخطيط خاطئين لجنرالين أردا أن تستمرّ هذه الحرب التي لم يكتب لها التقييد بحدود محدّدة، شملت حتّى الأحياء السكنية وحوّلتها عن بكرة أبيها لمناطق عمليات. توالت خلال هذه الحرب السرقات والاغتصابات، وكلّ مؤشر ظهر سابقًا انكشف وبان للعلن بأنّ هذه الحرب مخطّط لها أن تعبث بمؤسّسات الدولة، وأنّ تشرّد فئات المجتمع إلى أماكن أخرى بحثًا عن رزق وحياة آمنة. تحوّلت الخرطوم بمدنها الثلاث، وأحيائها، إلى مناطق عمليات خالية من مظاهر الحياة الاقتصادية والثقافية والسياسية، عقدت اتّفاقيات لإيقاف هذه الحرب، لكنها باءت بالفشل. الإسلاميون ما زالوا في غيهم القديم يريدون أن تستمرّ هذه الحرب مقابل عودتهم للسلطة من جديد على رقاب ضحايا لقوا حتفهم في حرب جنرالين.

سارة حمزة الجاك (قاصّة وروائيّة):
النذير الهامس


كنّا ندرك أنّنا نجلس على فوهة بركان سينفجر لا محالة، ولكننا لا نعلم توقيت انفجاره. كانت كلّ الجهود التي بذلناها في فترة الأربع سنوات التي تلت "ثورة ديسمبر" المجيدة لخفض درجة حرارة وسرعة انفجاره. "ثورة ديسمبر" وأرض اعتصامها هي حلمنا، أرض السودان الفاضلة التي نروم أن تعمّ كلّ السودان، ولكن بدلًا من ذلك تمّ وأد الثورة السودانية. لا يتحمّل وزرها من أمر بفض الاعتصام وحدث ما حدث، ولا من حمل السلاح تنفيذًا لأوامر صاحب الأمر، بل تتحمّل وزرها كلّ النخب الثقافية، قبل النخب السياسية، ثم بيادق الشطرنج التي تخدم مصالحها الشخصية، وغيرهم من لاعقي الأحذية الذين يقتاتون على فتات الموائد.




حديثنا عن الحرب الحالية لا ينفصل عن حديثي أعلاه، فهو يشير إلى غياب الرؤية الواضحة لتعريف الدولة السودانية، وكيفية إدارة الغنى والتنوّع الذي تزخر به مكوّناتها، غياب هذه الرؤية والعمل على إدارتها، عبر الأحلام والأشواق منا كمثقّفين وفنّانين، ومراوحتنا لأدوارنا المتعارف عليها، كمنتجين في مجال الفنون، إلى سدِّ فجوة المفكّرين في الثقافي تارة، أو المنظرين في السياسي تارة أخرى، وبُعدنا عن خوض المعارك الثقافية الكبيرة، التي تؤطّر للمعارك السياسية، إضافة إلى انكفائنا على ذواتنا ومشاريعنا، وعدم فتحها على المتلقّي واستصحابه في إنتاجها، جعلنا مغتربين عن بيئاتنا إلّا قليلًا، هذا الانكفاء والانزواء أتاح المساحة  لضيقي الأفق ومحدودي الخيال، للعمل في السياسي بلا رؤية إذا أحسنا بهم النوايا، وأصحاب المصالح ومن شاكلهم، كلّ ذلك وعوامل أخرى ظاهرة وخفية، ساقت البركان إلى انفجاره الأخير الذي يحرقنا الآن.
في ليلة الجمعة التي سبقت حرب السبت، كنّا نحتفل بإطلاق رواية للصديقة الكاتبة والمبدعة أحلام رابح في "بيت التراث"، التقيناها، وباركنا عملها، وشدّدنا على يدها، وسألناها مزيدًا، كانت منصّة الشعر حاضرة، تجلّت عظمتها لما قرأ صديقنا الشاعر محمد مدني قصيدة يحبّها، قرأها من قلبه قبل ديوانه، تداعت الشاعرة الجميلة إيمان آدم، وتدفقت بحبّ، اِرتوى منه جميع الحاضرين، وغنّى الفنان شمت محمد نور كما لم يُغنِّ من قبل، مضت الليلة مسرعة كلقاء حبيبين بعد فراق، وقفت ليلتها عند مدخل "بيت التراث"، فهمس هامس في أذني أن لا لقاء قريب فاِرتوي، نظرت إليهم حتّى اِرتويت، ملأت رئتيّ من عطرهم ورائحة المكان، طردت الهامس وذهبنا، انتهت الأمسية عند الثانية صباحًا، مرّت الجمعة رتيبة، وجاءتنا حرب السبت.
تماسكنا قرابة الشهرين في المنزل ما بين أزيز ونذر طائرات الموت، وأصوات الدانات والقنابل، ما بين نوبات الهلع المتكرّرة، فزع صغيراتي وانكماشهنّ بعد كلّ عملية استطلاع في الجوار، اتّخذنا قرار مغادرة الدار والنزوح إلى مكان آمن، الدار التي هيأتها لاستقبال عيد الفطر، بذلت كلّ جهد لتكون داري سكنًا لأفراد عائلتي، ومعينًا لنا على تنفيذ مشاريع قادمة. كنت قبلها قد نفّذت مشروعًا لأفلام قصيرة عُرضت في عدد من القنوات، تحث السودانيات على اتّخاذ قرارتهنّ، وتحمل تبعاتها بلا خوف، وغيرها من المشروعات التي من شأنها أن تخفض درجة حرارة البركان الذي كان انفجاره أقرب من محاولاتنا ومشاريعنا التي تعمل على إخماده.
قامت الحرب لتكشف عورة دولتنا المنهارة، وهشاشة نفس إنسانها الرازح تحت وطأة حمل الدولة الشمولية لقرابة نصف قرن من الزمان، وقبلها نصف قرن من اللا رؤية، منذ تولينا الصوري لزمام أمرنا ونحن ندور حول هذه الدائرة الجهنمية الحارقة، لكنّنا سنبقى مثل نجم السعد نسمو ريثما تصفو السماء. علينا أن نعي الدرس، ونرتب لبناء دولتنا التي نحلم بها، لتكون واقعًا في القريب.

حاتم الكناني (شاعر وكاتب):
حملتُ معي الطيب صالح


كان كثير من السودانيين يرون نذر حرب الخامس عشر من أبريل/ نيسان قبل اندلاعها، لكنّه التفاؤل ربّما وربّما الأمل، ذلك الذي يجعل الناس تستبعد كلّ شر. وحتّى بعد اندلاعها لم يكن أكثر الناس تشاؤمًا يتوقّع أن تصل إلى هذا الحدّ من الوحشية... وقد لا يصدق من غفا عن الحرب أيّامًا أن تصل إلى هذا الحدّ الدراماتيكي... كنت حتّى بعد شهر من الحرب أنتظر نهايتها بشكلٍ ما. وظلّ ذلك الأمل يتضاءل شيئًا فشيئًا حتّى أصبحت الصورة قاتمة، بحيث لا يمكن المكوث في منزل على أحد أطراف مدينة الخرطوم المثلّثة... لم يتوقّع أغلب سكّان المدينة الثلاثية الحزينة تمدّد الحرب زمانيًا ومكانيًا... بالضبط هي مثل النار التي تستمرّ في تحويل الحشائش إلى رماد بلا انقطاع، أو توقّف. وحتّى بعد أن فقدت الخرطوم قيمتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، التي اعتمد طرفا الحرب دومًا على تهديدها، بعد أن خرج ملايين سكّانها إلى الولايات والمدن الأخرى خارج نطاق الحرب، حتّى بعد ذلك، لم تخمد النار، بل تحوّلت العاصمة كلّيًا إلى مدينة أخرى نهبت أسواقها واقتحمت بيوتها، وتكوّنت فيها اقتصاديات أخرى بعيدة عن نمط عيش سكّانها... مثلًا، نشأت أسواق لبيع المسروقات، وظهرت تجارة جديدة قوامها الاستغلال المحض. خرجت مسافرًا من منزلي حين استعصى عليّ العيش، خاصّة بعد فقدان عملي، كنت أفكر ماذا سأحمل وأنا خارج من المنزل في رحلة ربّما هي رحلة اللا عودة... حدقت في المكتبة المنزلية التي تكوّنت بعرق الأيّام، وأنا أحمل حقيبة صغيرة لن تتّسع مع بقية أغراضي لغير عدد قليل من الكتب من القطع الصغير... لا أدري لماذا اخترت رواية "بندرشاه" للطيب صالح، ثم ديوانًا شعريًا بخطّ اليد للشاعر الشعبي الكبير محمد ود الرضي، لأحملهما في رحلتي التي ربّما ستطول... تركت نفائس الكتب السودانية مثل: كتاب "أعراس ومآتم" للأمين علي مدني، ومجموعات قصصية لزهاء الطاهر، ومجموعات شعرية سودانية نادرة لا حدّ لها، دواوين المجذوب، ومحمد المكي إبراهيم، ومحمد عبد الحي. دراسات نقدية وكتب في الفلسفة والتصوّف والاجتماع... ديوان الحلاج و"المواقف والمخاطبات" للنفري... ومجموعات الأصدقاء الشعرية والقصصية التي بذلوا فيها عرق كتابتهم. هل تعبّر رواية "بندرشاه" وديوان محمد ود الرضي عن كلّ ذلك؟ لا أدري؟ شملت دائرة القسوة تلك أيضًا ألعاب ابنتي ذات العام ونصف العام، التي اقتنتها في أوّل عيد ميلاد لها. لا شيء من كلّ ذلك يمكن حمله في حقيبة صغيرة مخصّصة بالأصل لجهاز حاسوب محمول وكيس كبير حملنا فيه بعض ملابسنا... فقدان الممتلكات الضرورية للحياة، هو أقلّ ما عاناه السودانيون من عبث الحرب. فقد فُقدت أرواح ذهبت إلى ربها، وفقدت ذكريات وحيوات لن تعود مجددًا. وما زالت مؤسّسات قومية تحت تهديد الحرب كـ"المتحف القومي"، والبيوت القديمة في مدينة أم درمان، و"الدار السودانية للكتب"، ومكتبة السودان، ومكتبة "معهد الدراسات الآسيوية والأفريقية"... وآثار من سكنوا مدينة الخرطوم منذ قرنين... وغير ذلك ممّا لا يحصى.
توفي كتّاب وفنّانون ومثقّفون لأسباب مختلفة أوّلها الحرب: قُتلت الرائدة المسرحية آسيا عبد الماجد، ودفنت في فناء منزلها، والفنانة الواعدة شادن حسين، وأصيب الأكاديمي والسياسي الرفيع محمد جلال هاشم إصابة فقد فيها رجله. إن الموت يحدّق بالناس من كلّ اتّجاه... ومع الحرب تصير كلّ الاحتمالات مفتوحة. لكن من زاوية أخرى، إن كان للحرب من فضيلة فهي أنّها جعلتني أتعرّف على مدن في السودان لم أزرها من قبل، أو لم أتفحصها جيدًا حين أزورها لغرض عمل ما... تلك المدن الحميمة احتضنت آلامنا برفق سكّانها.

محمد الطيب (روائي):
"الجنجويد" لا يقرأون


يعاني المبدعون السودانيون من التهميش الحكومي من قبل اندلاع الحرب، فكثيرًا ما شهدت الوسائط الاجتماعية دعوات لدعم واحد من المبدعين بسبب مروره بظروف طارئة، أغلبها ينحصر بين المرض والفاقة، وتجاهل الحكومات المتتابعة على البلاد لمسؤوليتها تجاه المبدعين في شتّى المجالات أدّى إلى هشاشة وضعهم الاقتصادي بشكلٍ ملحوظ، لتأتي الحرب قاصمة لظهر المبدعين الذين لا يستثنون من بقية فئات الشعب التي عانت من ويلات حرب السلطة وتبعاتها، ولكنّ أثرها على الإبداع والمبدعين كان أكبر، وقد تعاضد المبدعون على رقة حالهم وضيق ذات اليد في دعم زملائهم الذين علقوا في الخرطوم، واجتهد كثير منهم في توفير السكن لهم خارج العاصمة، وتقديم كرم الاستضافة الفياض، ولكن تظلّ هذه مجرّد مبادرات فردية ذاتية الحراك، ورغم أن دورها يقدّر ويشكر، ولكنّه يظلّ محدود الأثر، وكما أسلفت، فإنّ المبدع ليس في معزل عن بقية فئات الشعب، والدانة لا تفرق بين المبدع وغيره، و(الجنجويد) لا يقرأون، لذا فإنّ معاناة المبدع هي ذاتها معاناة خمسة وأربعين مليون سوداني أطاحت الحرب بأمنهم وسلامهم وأمانيهم الصغيرة والكبيرة.
ذهبت شادن المغنية الشابة التي قدّمت "الأغنية الكردفانية" بطريقة جاذبة إثر قذيفة اخترقت منزلها وصدرها وأودت بحياتها، كما لحق بها الكابتن فوزي المرضي الذي كان لاعب الهلال والمنتخب القومي سابقًا، ثمّ مدرب الهلال السوداني. سبقته ابنته الطبيبة غادة بأيّام قليلة إثر طلقة طائشة أصابتها داخل منزلها، لتذهب مأسوفًا على شبابها. لا تقف القائمة هنا، فقد رحل الشاعر عبد الواحد عبد الله "شاعر أغنية الاستقلال"، والتي طالما استمع لها الشعب السوداني بصوت محمد وردي، وردّدها خلفه "اليوم نرفع راية استقلالنا ويسطّر التاريخ مولد شعبنا". وما زلت أذكر صباح الأول من يناير/ كانون الثاني من عمري الباكر، حين أستيقظ صباحًا على صوت وردي يشدو بالأغنية في ميدان قريتي "فداسي" عبر السماعات المكبّرة، فتدخل كلّ بيت، وتحرّك كلّ ساكن. وتلك قائمة تطول وقد تتساقط بعض الأسماء، ولكن من بقي على قيد الحياة يعانون ظروف قاسية، وكثير منهم لا يزال عالقًا في الخرطوم، وبعضهم مشتّت في ربوع الوطن تحت ظروف قاسية لا يعلمها إلّا الله.
الجانب المشرق للحرب، إن كان هنالك جانب مشرق، أنّ نزوح المبدعين القسريّ من العاصمة جعل بقية مدن السودان تزدهر، فنشطت الحركة الثقافية في "ود مدني"، التي كانت تعاني من الخمول، وأعيد افتتاح "سينما كوستي"، وعادت الليالي الثقافية في "بورتسودان"، وهذا هو ديدن المبدع، أينما وجد أزهر ونشر الأريج.
نتمنى أن تضع الحرب أوزارها، وأن يعمّ السلام والاطمئنان ربوع الوطن، وأن يعود المبدعون ليحدثونا عمّا غاب عنا في هذه الحرب، وليحكوا لنا حكاية الموت بأعينهم التي تنبض بالحياة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.