}

على هامش الطوفان والإبادة

عزيز تبسي 5 يناير 2024
آراء على هامش الطوفان والإبادة
مظاهرة في الأردن ضد الحرب الإسرائيلية على غزة (Getty)
تندرج "طوفان الأقصى" في سياق عملية طويلة ومعقدة للتحرر الوطني، مرت عبر تاريخها الممتد منذ عام 1936 إلى اليوم بمحطات عديدة، تعاقبت على قيادتها والمساهمة فيها قوى مقاومة شعبية وجيوش عربية.
لم تكن نتائجها سوى تراكم الهزائم المرحلية، عبرت بعمومها عن التناقض بين الطموحات الوطنية، مشفوعة بالرومانسية والآمال العاطفية، بأمل الوصول إلى انتصار استراتيجي للشعب الفلسطيني، وبين انعدام القدرة الواقعية لتحقيقها.
يتكرر مشهد اصطدام القوى الشعبية العربية بجبل سياسي وأيديولوجي من تضليل الصهيونية، سياسيًا وأيديولوجيًا، والأكاذيب الواضحة والمتخفية، التي احتاجت إرادة هرقلية وهي تستعد لتنظيف إسطبلات أوجياس المعاصرة، حيث لا تزال تعمل أجهزة السلطة الاستعمارية بأيديولوجيتها الصهيونية على إخفاء الأساس العدواني للاستيطان، والوظيفة الإمبريالية لكيانها السياسي، وعلى حقيقة الوجود التاريخي للشعب الفلسطيني في أرضه، والجذور العميقة لثقافته التي تعكسها أنماط حياته في العمارة والزراعة والحرف والغناء...

(1)
تبزغ الشعوب من بين الأنقاض التي دفنتها تحتها أنظمة الاستعمار وما بعده، كقدر يتربص بالمحتلين والطغاة.
حملت "طوفان الأقصى" بعدًا إعجازيًا، بما رسخته فكرة المعجزة من عزيمة التمرد على الشروط السائدة والقوانين الوضعية الراسخة، بخروجها على قوانين فيزياء السياسة، وبوصفها ردًّا شعبيًّا على ظلم تاريخي، وعلى اضطهاد يومي "بتسويد عيشة" أكثر من مليوني إنسان محاصرين بـ360 كم مربع، في شرط متجدد أساسه الحصار الاقتصادي، والتضييق على الحياة اليومية، ليترك الباب الوحيد مفتوحًا للمغادرة والهجرة.
لكن في غمرة الحماسة لإنجاز العملية العسكرية، وحصاد نتائجها، غابت عن القيادة العسكرية للمقاومة حزمة من الشروط الموضوعية.
خُطط لعملية "طوفان الأقصى"، ونُفذت في شروط عالمية وإقليمية ومحلية تشير في عمومها إلى الموقع النقيض لتحرر الشعوب، حيث تتصاعد مواقع القوى اليمينية في الدول الأوروبية، باسمها الأصلي، أو بانزياح الأحزاب الليبرالية والاشتراكية الديمقراطية إلى مواقع اليمين. وحتى لو لم تتبنَّ خطابه الفاشي، فإن ذلك لا يحول دون تبني برامجه السياسية والاجتماعية. يشير إلى ذلك ما أوضحته الحرب الروسية ـ الأوكرانية من قدرة حلف شمال الأطلسي على التحشيد العسكري، والفعالية القانونية، لمواجهة الخصم وعزله، والدور القيادي للإدارة الأميركية في قيادته وتوجيهه وفق مصالحها... وإخفاق الانتفاضات الشعبية العربية، وجر عموم مجتمعاتها إلى الحروب الأهلية، وتنامي الاتجاهات الأشد تطرفًا داخل المجتمع الصهيوني، التي أوشكت أن تصطدم بصراعات دموية مع الاتجاهات الصهيونية الأقل عنصرية في الأشهر التي سبقت 7 أكتوبر/ تشرين الأول، وانقسام الحركة الوطنية الفلسطينية إلى مقاربتين سياسيتين متفارقتين.
ويستكمل هذا المشهد المأساوي بغياب الديمقراطية، وعموم الحقوق الأساسية عن الشعوب العربية، ففي حين تتصاعد الاحتجاجات، وتعم التظاهرات شوارع وساحات مدن وعواصم أوروبا وأميركا، لا يسمح بخروج تظاهرة في البلدان العربية، "وكأن بطيور المقاومة تغني، ظانة أن الوقت لم يعد ليلًا"(*).




ركزت المقاومة على الخيار العسكري، الذي لم يتجاوز في كل أطواره التاريخية شكل الدفاع عن حق وجود الشعب الفلسطيني، ومهام التذكير بقضيته وحقوقه المسلوبة، ليعبر عن إرادة الرحيل إلى المكان الأثير للسلطة الصهيونية وأجهزتها العسكرية والمخابراتية. أعدت لهذا الخيار جيدًا بحفر الأنفاق وتجهيزها، واستجلاب الأسلحة وتحديثها، وتوظيف الطائرات، وأنظمة رصد، وكأنها تتماهى مع جيش احترافي... ونحت جانبًا الشرط السياسي للصراع وشروطه المعقدة.
شكل العدوان الذي أخذ شكل إبادة جماعية تجاوزت حيوات البشر إلى الحجر والطبيعة الحية، وإطاحة متعمدة بموقع المكان الآمن (المدارس والمشافي والمساجد والكنائس...) الذي يحتمي به الشعب الأعزل. ليعيد بذلك ذاكرة الشعوب إلى النازية، الذي خال كثيرون أنها باتت نسيًا منسيًا بعد اندحارها العسكري، وتهافت مقولاتها، وما تلا ذلك من مراجعات نقدية شملت حقول السياسة والفكر.

(2)
حددت العملية العسكرية لنفسها هدفًا واضحًا، تحرير السجناء الفلسطينيين من السجون الإسرائيلية، واستبدالهم بالأسرى الذين واللاتي خطفوا من مستوطنات غلاف غزة.
في الوقت الذي لم يتأخر فيه الجيش الإسرائيلي وأجهزة الشرطة عن اعتقال أضعاف أعدادهم، بمواجهتهما الاحتجاجات التي انطلقت في بلدات وقرى الضفة الغربية.
لكن ما الذي تُرك لشعب محاصر يشعر كل يوم أنه يجري التخلي عنه من العالم الإمبريالي المنسوب للحضارة، الذي لم يتوقف عن مساندة قاتليه بالمال والأسلحة، وتبني أكاذيبه وتضليله الإعلامي المبرر لجرائمه، أمام واقع تعجز تنظيمات المقاومة الشعبية عن حمايته، وحين يصلها الإسناد الشرطي يكون من أنظمة تعتاش على جثث شعوبها، وتسوية حياة من تبقى حيًا منهم بحياة المقابر، وتتبنى خطابات عنصرية تجاه شعوبها، لا تقل عن أضاليل صهيونية الكيان الاستعماري.
امتدت سواعد الشعب وهو يواجه حاضره، ليهز الماضي الإمبريالي برمته، جرائمه، ولاشرعية خططه، وتضليل مقولاته، وقوانينه التي فرضها كأقدار على الشعوب المضطهدة، وينشرها كفضائح ورسائل تحرر أمام شعوب الأرض. السواعد التي لما تزل عاجزة عن هزيمته وتثبيت انتصار مادي عليه.
يدافع الشعب الفلسطيني عن حقوقه وشرطه الوجودي، وهي مساهمته الملطخة بدماء أبنائه وتراب بيوته المدمرة، لتحرير الشعب اليهودي من أوهام أيديولوجيته الغيبية، التي احتلت موقع العقيدة الدينية، والذي بات يعلم أبناءه الأسرى وأهاليهم أنهم هدف لجنود جيشهم، كحال مرافقيهم، من المقاومين في غزة.
يموت المقاومون في معركة الحرية والتحرر، لكن المقاومة الشعبية لا تموت، تخمد، تتراجع، تتوقف لمراجعة تجاربها، وتعود لتنطلق وتجدد أمل الشعوب في التحرر، وها هي تنقل رسالتها وقضيتها من غيفارا غزة (1973) إلى جيل المقاومين الجدد، مرورًا بتجارب مئات المقاومين.
لهذا لا مندوحة من البحث في شروط التحرر من هذا الاستعصاء التاريخي، الرابض كقدر إمبريالي فوق صدر الشعب الفلسطيني والشعوب المضطهدة.


(*) عيناها السماويتان تنثران عبر الهواء شلالًا من ضياء/ فتغني الطيور ظانة أن الوقت لم يعد ليلًا (من مسرحية "روميو وجولييت"، وليم شكسبير). 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.