}

عن سرديات الطغاة وكشف حقائقها

سميرة المسالمة سميرة المسالمة 6 يناير 2024
آراء عن سرديات الطغاة وكشف حقائقها
حرب إسرائيل تهدف لإبادة الشعب الفلسطيني (Getty)
تحمل الحروب منذ الأزل الثنائيات المتناقضة في الحياة، فحيث هي تعني الخراب والموت، تعني على الوجه الآخر الحرية والحياة. وكما ترسم صور الطغاة والمجرمين، تمثل في وجهها الآخر قصص أولئك المناضلين ضد الاحتلال والظلم واستباحة الكرامة الإنسانية. وهي، أي الحروب، كما كانت البدايات لدول تنهض، وكيانات تنشأ، كانت أيضًا النهايات لغيرها، وسجلت التأريخ الحديث باسمها، ما قبل الحرب، وما بعدها.
وإذا كانت الحروب الوحشية في عصرنا الحديث، بخاصة الحرب العالمية الأولى (1914 ـ 1918)، والثانية (1939 ـ 1945)، شغلت مساحات مهمة في خيالات وأعمال كتاب وشعراء وفنانين ومخرجين كثر، بل باتت أحد أهم المواضيع التي صورتها السينما العالمية، ولا تزال تشد جماهيرها، من خلال سردياتها لوقائعها المأساوية، وصورها الإنسانية، أو بطولات مقاوميها الفردية، أو الجمعية، أو فضحها الخبايا الخبيثة ما بين سطور قرارات قرع طبولها، وأطماع صانعيها، وحجم خسائرها بين الرابح والخاسر، وبين المنتصر والمهزوم، فإن الواقع الحالي يحمل أحداثًا مهولة، وفظائع قد تسبق كل خيالات الفن وإبداعاته.
ولعل إسرائيل تعمل على استرجاع تاريخ تلك الحروب وأسبابها، وتقف على ذلك الجانب الظالم من الصراع، نافية عنها دور الضحية، الذي استندت عليه في أسباب قيامها، ممسكة بسوط الجلاد، ترتدي عباءته وتمارس جرائمه، تمسح عن ماضيها ذرائع التعاطف مع يهود العالم عامة، وأوروبا خاصة، وكأن رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو في حربه الهمجية على الفلسطينيين يريد التعافي من سردية المظلومية، لينقل العالم إلى حقيقة أن وجودهم في أرض فلسطين هو ناتج بطشه، وقتله الشعب الفلسطيني على أرضه في فلسطين بكل مساحتها، وعلى غزة بما تمثله له، وللعالم من إرادة البقاء وصناعة الحياة، على الرغم مما فرضته عليها دولة الاحتلال من  حصار وفقر وتهميش.
وكما كانت الكلمة والصورة والفن العالمي بكل فروعه، من مكتوب ومصور ومسموع، في مواجهة ما خلفته الحروب من دمار للبشر والحجر، وحملت مسؤولية فضح المستور في تلك الحروب، وتقديم الحقائق بوجهها الإنساني، والجرائم بصورتها القانونية، ولكن مع التذكير أن معظم ذلك جاء على أنه شيء من الماضي يجب الاعتبار منه، أو محاكمة من يمكن تحميله المسؤولية، ولو أدبيًا، فإن كل أشكال التعبير غير المأجورة، والتي تشهد عبر بث مباشر لأحداث حرب دموية تشنها إسرائيل على المدنيين في قطاع غزة، وتتوسع بها لتنال من كل صوت ضدها، مطالبة اليوم، بل تقع على عاتقها مهمة التحفيز على معرفة الحقيقة ومساندتها، ونقلها كما هي، حيث التوثيق والمصداقية لا يلغي عن الأعمال فنيتها وإبداع كتابها.




ولعل ما صرحت به هيئة المحلفين في جائزة التسامح في الفكر والعمل، التي يمنحها اتحاد الناشرين النمساويين منذ عام 1990، في مهرجان أيام الأدب الأوروبي، والذي أقيم في مدينة كريمس النمساوية (نوفمبر/ تشرين الثاني 2023)، عن مسوغات منحها الجائزة (كما ذكر موقع الجزيرة في مقالته عن الحدث الثقافي) للمحامي والكاتب البريطاني اليهودي فيليب ساندز (1960) بأنه يُعد بلا شك "أحد أبرز المحامين والمثقفين في العالم الذين يجدّدون الخطاب الاجتماعي، ويعملون من أجل عالم أفضل". فحاجتنا إلى "الالتزام بالحقائق والتفكير النقي ليسا على خلاف مع الالتزام بالمحتوى الحقيقي، بل هو الأكثر فائدة له" يأخذنا إلى حقيقة أن قدرة إسرائيل على التعمية على شعوب الغرب ونخبتها المثقفة لم تعد فاعلة بالقدر الذي يغيب الحقائق كاملة، أو بعضها.
إن اختلاف الآراء حول عملية "حماس" في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023 ضد الاحتلال الإسرائيلي لا يغير من أن حرب إسرائيل على غزة وحشية، وهي تتجاوز ردة الفعل إلى استنباط أسباب وهمية لإبادة الشعب الفلسطيني، وأن هذه الحقائق حاضرة في ضمير وتصريحات النخب المثقفة في العالم الغربي، على الرغم من تغييبها عن عمد في إعلامهم وأنشطتهم، بسبب محاباة الأنظمة الحاكمة لإسرائيل من جهة، وامتلاك اللوبي الصهيوني لأهم الصروح الإعلامية من جهة ثانية، ما يجعل مهمة أصحاب القضية الفلسطينية من كل الشرائح واضحة، بداية من التعريف والاعتراف بتقصيرهم في مواجهة المنظومة الصهيونية، إلى ما يجب أن تكون عليهم أنشطتهم ومواجهاتهم بالفن والأدب والقانون.
لهذا، من المهم التأكيد على أن ما قاله ساندز مع رفاقه الثمانية من المحامين اليهود البريطانيين، وبخاصة انه يعمل في مهنة المحاماة، أمام محاكم دولية يمكن الاستفادة منه، والتعويل عليه إعلاميًا وحقوقيًا، ليس من باب أننا نتصيد مقولة هنا، أو هناك، تساندنا في الرأي، بل لأن المكانة المهنية لهذه النخبة تحملها مسؤولية تصريحاتها وتبعاتها، فهي لا تنطق بفعل العاطفة التي تستدرها مشاهد القتل، بل بفعل التوثيق الذي قد تسأل عنه.
حيث يمكن اعتبار ما ورد في رؤيتهم من أن "رد فعل إسرائيل كان وحشيًا، ولا يُمكن تبريره، خاصة مع مقتل آلاف المدنيين، وأكثرهم من الأطفال والنساء والمرضى"، وما قامت به كذلك من هدم وتدمير البنية التحتية، "ومنع الحاجات الأساسية للعيش، من ماء وكهرباء ووقود وأدوية، ومن الوصول إلى المحاصرين في غزة". وأن الفلسطينيين "يجب أن يتمتعوا بحقوق كاملة، مثلهم مثل أي بشر على هذه الأرض، وتجب حماية هذه الحقوق، إذ لا يُمكن لنا، نحن المحامين ودعاة حقوق الإنسان، أن نحمي حقوق طرف ما، ونفرّط بحقوق طرف آخر"، كشهادة حقوقية أكثر منها كرأي.
فكما هزمت أنسنة القوانين ما شرعته الحروب من وحشية، وغيرت مواقع الدول وأدوارها وتحالفاتها، فإن سرديات الواقع تقول إن التغيير لا يزال ممكنًا، فما صنعته المآسي المكتوبة والمصورة، ووضعت من خلالها البشرية في مواجهته، ونتج عنه ذاك الكم الهائل من المؤازرة لشرعة حقوق الإنسان وتوابعها من مناهضة للتمييز العنصري، وانتهاك حقوق المواطنة، إلى مساندة حركات التحرر والاستقلال في العالم، من شأنه اليوم أن يقاس عليه بما يحدث على أرض فلسطين، وخارجها، من جرائم ترتكبها إسرائيل بقيادة نتنياهو، على الذرائع ذاتها، والخديعة التي تبناها مجرمو التاريخ، من أمثال الديكتاتور النازي أدولف هتلر، وبالأساليب ذاتها ليتغير موقع "يهود العالم"، من دون إرادة بعضهم، من موقع الضحية، كما كانت حاله في الهولوكوست (سيئة الذكر) إلى موقع الجلاد.

*كاتبة سورية.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.