}

القصيدة هي شكلها

وارد بدر السالم وارد بدر السالم 1 فبراير 2024
آراء القصيدة هي شكلها
(ضياء البطل)
"سُئل الروائي كارل تشابيك: لماذا لا تكتب الشعر؟ وكان جوابه: لأنني أكره الحديث عن نفسي"...

لا نسعى إلى إثبات أنّ الشكل الشعري للقصيدة هو هندستها وبنيتها الخارجية، فالأشكال الشعرية معروفة بنمطيتها بين قصيدة التفعيلة العمودية والشعر الحر وقصيدة النثر، لكن ما هو خارجي ليس هو الداخلي في القصيدة، إذ تتحكم مناخات عامة وشخصية في البناء الشكلي للقصيدة، فالعام قد يتداخل مع الشخصي، لكن يمكن أن تجده القراءة، والشخصي واضح عبر أسلاك محورية تتشكل في لاوعي القصيدة، من رموز وإشارات ودلالات ومؤشرات نابضة، ولغة قد تكرر نفسها وصورها بأية طريقة متاحة للشاعر، وبالتالي لا يمكن إخفاء كل شيء كليًا. حتى نظريات القراءة التي تحاول تعويم المحتوى السري للقصيدة، لا يمكنها أن تفعل ذلك تمامًا، باعتبار أنها أوجدت صنوفًا من القراءة، تعزز فيها أهمية القارئ ودوره في فك الالتباس بين النص ومؤلفه.

القائلون بأن ما خفي كان أعظم، ربما لا ينطبق على الشكل الشعري لذاته، فالشكل زيّ القصيدة بأنواعها، لكن الخفاء والمواربة هما من جوهره الداخلي وسرّه وجماله أيضًا. والإيحاء سمة مميزة للقصيدة بموضوعاتها السياسية والثورية. قناعها اللغة بمستوياتها الدلالية الظاهرة والباطنة حتى العاطفية منها، تنتهج الصورة اللغوية لتقريب المسافات بينها وبين القارئ. وقد تُبعده أيضًا، فهي متمسكة بالإيحاء لا الدلالة المباشرة. وربما تكون اللغة مظلة وقناعًا، وهو شيء طبيعي في القصيدة. لكن لا تتشكل القصيدة مع اللغة فقط، إلا إذا كان هناك خيال لغوي ناشط، يعصف باللغة ويحوّلها إلى كائنات ضوئية أو شرارات خاطفة، تُضيء وتخفي المحتوى بدلالاته الرمزية والمقنّعة، وبالتالي فإن القصيدة، مهما كان شكلها الخارجي؛ عموديًا أم أفقيًا؛ طوليًا أم عرضيًا؛ فإنها تبقى رهينة الداخلي منها، ذلك المتكون من اللغة المتآخية مع الخيال، عندما يبتكر الصور ويغذيها، ويمنحها طاقة البقاء الطويل في أزمنة الشعر المتعاقبة. لهذا فالخفاء الضمني هو من أسرار القصيدة، لنقل الحديثة على وجه الدقة، وبشكل أدق قصيدة النثر. وهذه المعادلات الحسية تعمل على تشكيل وحدة متجانسة لترميم الفجوات المحتملة والمتوقعة، ليكون الشكل هو القصيدة وإيقاعها الجمالي، وتكون القصيدة هي شكلها بالضبط كما نرى. لنفهم بأنّ الشكل هو المحتوى العام الذي يؤطر داخلها ويمنحها طاقة البقاء في التأويل وحدس القراءة.

البعض يعدُّ الشكل هو المضمون الشعري، وفي هذا إشكال فني برأينا، فإن كان المقصود هو الشكل الخارجي، فستتشابه المضامين شكليًا، مع تنوع الثيمات والرؤى الخارجية، أما إذا كان المقصود هو البنية الداخلية للقصيدة، فإن المضامين ستخضع لقياسات نقدية في التركيب البنيوي لها وإيقاعها الخفي الذي تمسك اللغة به كثيرًا. إضافة إلى البلاغة الصورية وأهميتها في تحويل القصيدة إلى مشهدية مؤازرة لخيالها الفني، بما يجعلها متوازنة في طريقة وجودها الحي بين القصائد، بالتراكيب الأكثر حسية واللغوية والخيالية، وهو ما نعنيه بالشكل الداخلي الذي لا يظهر مباشرة، بل يحاول أن يتقمص أشكالًا كثيرة لكي لا يظهر، وهذا ما تنتهجه قصيدة النثر في حداثاتها المتسلسلة عالميًا وعربيًا.

في السرد الروائي نظريات كثيرة في التلقي، تتوخى مشاركة القارئ بمسمياته المختلفة، الفاعل، الضمني، المشارك، العميق، الخيالي، وغيرها من المسميات التي ابتكرها نقاد السرد على مر التجربة الروائية، لتوطيد الصلة بين الكتابة والقراءة، غير أننا لا نجد مثل هذا التوصيف في الشعر والتلقي الشعري. كأنما لا يوجد قارئ شعري، أو أن المحصلة النقدية تعدّ الشعر كثافة لغوية وصورًا متداخلة، وبالتالي فقارئ الشعر، سيكون بمنأى عن نظريات التلقي. وهي نقديات ليست بالضرورة أن تكون مُلزمة، لكنها تفتح التأمل في خفايا النص في بعض الأحيان.

قد يكون الشعر ذاتيًا برؤية فردية، وهو كذلك في الكثير من الأحيان، وليس ثمة حدث مبرّز سوى حدث القصيدة الذاتي. وقد يكون أحد الأسباب أن الرواية فن حدثي شائك. تاريخي. معرفي. مُشتّت. لهذا فإن نظريات التلقي اجتهدت أن يكون القارئ مشاركًا في العملية السردية، وهذه النخبة بنيوية يتقدمها رولان بارت الذي نادى بموت المؤلف، ومن ثم أصبحت الرواية سردًا شكليًا إبداعيًا، وليس مضمونًا متشابهًا مع سرديات أخرى كثيرة، بمشاركة القارئ متعدد التسميات والأفكار والرؤى. وهذا ما لا نجده في الشعر عمومًا.

القارئ الشعري لا يتوقف عند حدث معين في القصيدة، في ومضة اللغة وصورتها البارقة، إنه "الجسد البنيوي- الإيقاعي... وهو تجسيد لوعي وحركة ومسار تأريخي". ومع أن هذا الرأي فيه الكثير من الإنشاء الذي نعرفه عند رواد الشعر الحديث وخبرتهم الطويلة في التعاطي مع التنظير الأدبي، إلا أنه يصح في موضوعة التاريخ، وهنا الزمني وإطاره الذي يجمع ما مضى من الأزمنة، ليثوّر حداثة المعنى في متوالياته التاريخية، بمعنى اقتراب الحافر من الحافر والابتعاد عنه بالطريقة ذاتها، بما يشبه عملية الإرضاع المطلوبة، فالأثر الشعري القديم، العمودي مثلًا، لا ينفك أن يتواجد في قصيدة النثر المعاصرة، بطريقة مخفية، والأثر الشعري المتمرد على الأوزان والتفعيلات، ليس مضادًا حيويًا لما يأتي بعده من شكل مخالف، بقدر ما يكون هو المُرضع للولادات الجديدة، التي تُسمّى: ومضة، جملة شعرية، فلاش، أو خاطرة... وهكذا تتوالى التجارب بطريقة المجايلة المتعاقبة. وهذا أمر يجب قراءته بضوء مستجدات ما بعد الحداثة الأدبية، عندما تكون الأدبيات بشكلها العام قد فتحت منافذ لها من واقع الإلكترونيات -على سبيل المثال- وهذه الثورة الكبيرة، التي أوجدت لها مساحة عالمية واسعة في التلقي العام والخاص، بما يضمن ديمومة مناسبة لها. وبالتالي يمكن ضمان استمرارية شعرية وأدبية، لكن بعيدًا عمّا كان سائدًا في السابق الثقافي، من ذاتية مفرطة اُستهلكت كثيرًا، وباتت عبئًا على المنظومة الشعرية كلها، ولا يمكن أن يكون البديل الا الذات العليا للجماعة بإرهاصاتها الجديدة التي خرجت وتخرج من حلقات نارية في العالم الجديد؛ كأنها مشتركات متلازمة في الكارثة الإنسانية، فالحياة الثقافية في العالم الآخذة بالنمو النوعي في شكلها ستكون على محك العالم الجديد، وهي تعرّي نزوعه إلى الشر الذي لاحت علاماته بيّنة في الحروب والتحديات غير الآمنة لصياغة عالم جديد تحت مظلات الأسلحة التي تهدد وجود الحياة كلها.

حتى لو نظرنا بنقدية خاصة إلى المضامين الشعرية والسردية بشكل عام، فإنها قد تتغير كثيرًا وتحاكي واقعًا جديدًا في أزماته الحربية والمرضية الفايروسية والعلمية والتاريخية المشوهة، التي تتجدد بصيغٍ ليست تقليدية أمام منظومات شكلية أدبية نوعية متطورة، قادرة على أن تستوعب مشاكل المجتمعات بطريقة ربما فيها الكثير من الجدل النقدي، لكن هذا لا يمنع من اختراق التشكلات الأدبية التي مضت، واستحداث ما يوازيها، أو يتفوق عليها في النظر إلى النص الأدبي الجديد. ونفهم من النسق الإلكتروني الجديد، مع بدء القصيدة الرقمية، أن ثمة أشكالًا ستتضح معالمها قريبًا، مسايرةً مع واقع تمت برمجته منذ وقت ليس قصيرًا، لكنه اتسع الآن بطريقة ما.

... ووقتها سنكرّر بأن النص الشعري الجديد هو شكله تمامًا.

هوامش:

  • رولان بارت: أديب وناقد اجتماعي ومفكر. استكشف النظرية الاجتماعية والسيميائية والأنثروبولوجيا وعلم الرمز. من مؤلفاته ( الكتابة بدرجة الصفر) و(أسطوريات) و(خطاب عاشق).
  • موقع ن. بوست - 12 حزيران/ يونيو 2018.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.