}

في معنى الحياة على كفّ اليد

أحمد طمليه 25 فبراير 2024
آراء في معنى الحياة على كفّ اليد
العدوان الإسرائيلي يهدف إلى الإبادة أو التهجير (Getty)
"الموتى عباقرة باجتذاب الانتباه...
والأحياء أصحاب بلاهة بالتغاضي...
لكنه أنت، أنت أيّها الموت الفطين، تعال...
تعال متبخترًا وعلّمنا بالألف والباء...
لقّمنا الدرس بالملعقة...
خذنا إلى نزهةٍ...
تنسينا الخوف والحزن والغباء...
نزهة تجعلنا ننظر للحياة
وكأنها لغز احترنا به مع أننا اختبرناه".
(الشاعر الأردني ماهر القيسي)

تفوح رائحة جثث الشهداء في الخواء، وحديث، في العتمة، كان يدور حول ما بعد غزة. أبو حامد، وهو رجل على قد حاله، بسيط، يسكن إسكان أبونصير، وهو إسكان بنته الحكومة، في ضواحي العاصمة الأردنية عمان، لأصحاب الدخل المحدود، كان حيا مهجورا، فأصبح حيا مأهولا بأنفاس الناس، فجمع سكانا من أنحاء مختلفة، يختلفون حتى في اللهجة التي يتحدثون بها، لكنهم يجتمعون بطيبة القلب، والرغبة بالعيش بسلام. أبو حامد يبيع أدوات منزلية على بسطة في السوق الشعبي، يقول، بتلقائية متناهية: ما بعد غزة هو غزة. حاملا يقينا في داخله أن غزة باقية، وأهلها باقون، وكما كانت غزة عبر التاريخ سوف تبقى وتكبر.
كيف تبدو الحياة في غزة؟ لا أحد يعرف، ولا أحد يمكن أن يعرف إلا إذا جرب. هل يمكن تجربة الموت، ثم العودة منه، والحديث عنه؟ لا يمكن، لكن أهل غزة جربوه، عاشوه، تذوقوه. مر مذاق الموت، لكن فيه طعم... طعم له علاقة بالمعنى، معنى الحياة: لماذا نعيشها؟ هل من أجل الانسلال منها خلسة، ودفن رؤوسنا في الرمال، أم من أجل أن نواجهها، ونحظى فيها بشرف ما، موقف ما، نسجله بالدم، وبغصات القلب، مقابل أن تبقى الرأس مرفوعة.
كيف تبدو الحياة في غزة؟ لقد جرب الناس هناك كيف يموت أمامهم الأعز على قلوبهم، فبدت ملامحهم واضحة، لم تكن ملامحهم واضحة، بكل هذا السطوع، قبل أن يجربوا ما جربوا. أصبحت نظراتهم ثاقبة، لم تكن نظراتهم ثاقبة إلى هذا الحد، قبل أن يجربوا كيف يودعون قطعة من قلوبهم تحت التراب. غدت وقفتهم ثابتة، لم تكن وقفتهم ثابتة، بكل هذا الرسوخ، قبل أن تطفر من عيونهم دموع ساخنة، وتعتصر في صدورهم قلوب.
ما أسخن الدموع التي تسيل من عيونهم: حين حضن الأب ابنه بين يديه، شهيدا، ينزف دمه، بملابسه التي تركه فيها قبل أن يغادره إلى الأبد، ولا أبد في حياتهم، لا أبد. يقول الأب المكلوم: "قال الولد بدو يلعب قدام باب الدار. بعد شوي سمعت صوت إطلاق نار، طلعت، ولا ابني، الله يرضى عليه، مستشهد".
الحرب ليست كما يقال عنها، بل كما تعاش. لا يعرف الحرب، إلا من يعيشها، أما من يعيش في هدوء مصطنع، في سلام مفتعل، في سكون لا يسبق عواصف تزيل الغبار عن السخام، فإنهم لا يعرفون الحرب، بل يسمعون عنها. شتان بين السمع والرؤية. شتان بين السماء والأرض. شتان بين من يجلس تحت سقف بيته يتابع ما يجري عبر شاشة تلفاز، ومن يعيش تحت سماء تشتعل بجحيم العدو، ويتابع ما يجري على الهواء، من تحت القصف مباشرة.
الحرب مع عدو، يحتل أرضك، ويمعن منذ عقود في تعميق جرحك، حتى تبقى طوال حياتك تنزف، وتبقى حياتك مرهونة إلى أن يتوقف النزيف، ولا يتوقف النزيف إلا بعد أن يقف العدو عند حده، ولا حد للعدو إلا إذا وضعت له أنت الحد. مثل هذه الحرب وقودها الإيمان، ومفتاحها الصبر... الصبر مفتاح الفرج.




تختلط الأصوات في سواد الليل، فتاة فلسطينية يافعة، تمضي ليلتين تتحسس خطواتها بين الجثث المتراكمة حولها، ثم تموت من الخوف والجوع.
مواء القطط يختلط مع أنين جرحى لم تصلهم سيارة إسعاف، وصوت أميركي يدعو إلى الحفاظ على حياة المدنيين. المدنيون الذين يشيرون إليهم أصبحوا أشلاء.
يعلو صوت فتى يافع من وسط الظلام مودعا أمه، وقد لفظت بين يديه أنفاسها الأخيرة. أكثر ما يقهره أن أمه كانت خائفة قبل أن تستشهد، لعله رأى في عينيها خوف وهما تحت القصف، الفتى اليافع المسكين كان يظن أن أمه خائفة على نفسها. لا يعرف أن أمه قبل أن تستشهد كانت خائفة عليه.  
ذات مساء مبكر من ديسمبر، تعلن قناة الجزيرة أنها بصدد بث شريط فيديو يظهر عملية إجلاء آليات ومعدات إسرائيلية معطوبة من أرض المعركة، وصور لضباط وجنود إسرائيليين تتم عملية اسعافهم.
بعد قليل من البث أثيرت أسئلة: كيف أخذت الصور: آليات معطوبة، تجرها آليات، وصور لجرحى من ضباط وجنود إسرائيليين، ملطخين بالدماء، يتأوهون ألما؟ وأسئلة: كيف قدر للمصور الفلسطيني أن يأخذ مثل هذه الصور، التي واضح إنها مأخوذة من نقطة الصفر، أي لا مسافة تذكر بين المصور والمادة التي يصورها، وكأن المصور كان يسير جانب القوات الإسرائيلية التي تحمي عملية الإخلاء؟
ويتضح أن الصور أخذها جندي إسرائيلي، وأن المقاومة الفلسطينية قامت بعد ذلك بأخذ الشريط المصور من الجندي الإسرائيلي الذي قام بتصويره عنوة. وأصوات جنود إسرائيليين تتعالى من بعيد: أشباح كانت تحوم حولنا.
يطلق جندي إسرائيلي النار، فيسقط  أسرى إسرائيليين قتلى، في عملية تدل على المدى الذي وصلوا له في استسهال القتل. من دون أن يتيقنوا يطلقون النار، فيرتقي أطفال ونساء غزة شهداء.
الجيش الإسرائيلي يعيش حالة ارتباك، وأشباح تدور حولهم، تنفذ مهماتها وتمضي، ونيران صديقة، نيران قوات إسرائيلية تطلق على قوات إسرائيلية أخرى. وجنود إسرائيليون يحملون اعلاما إسرائيلية على أرض غزة، حتى لا تصلهم نيرانهم الصديقة، فتصلهم نيران قناص فلسطيني يمتطي الخفاء.
غزاويون يفترشون حطام بيوتهم التي جرفتها صواريخ الاحتلال. أحدهم يقول: لن أخرج من غزة إلا على جثتي. وآخر: وين بدنا نروح. وأب يستغيث المحيطين به أن يخرجوا ابنته الشهيدة من تحت الركام. يقول: البنت بدها أبوها وأمها. صدقوني.

كتب لمن بقي حيا من أهل غزة عمر جديد (Getty)  

امرأة فلسطينية تجلس على كرسي متحرك، نازحة من مخيم البريج، ولا تدري، هي وبناتها، و"كناين" بناتها وأولادهن، أين يذهبون. تقول: "وين بدي أروح في هالكرسي المتحرك، والله ما أنا قادرة أروح على أي مكان. والله حرام اللي بصير فينا".
الطفلة في المستشفى تسأل المسعف: عمو بدي أسألك. اللي بصير جد ولا كذب. حلم ولا بجد. يرد المسعف: أنت بخير يا بنتي. البنت: بعرف إني بخير، بس اللي بصير حلم ولا بجد.
أب يلتقي ابنه الجريح في ممر ما كان يسمى مستشفى. يسأل الأب: وين أمك؟ يرد الابن وهو يصرخ ألما من قدمه: ماتت. الأب: وأخوتك؟ الابن: ما بعرف. الأب يحضن الابن ويهذي بكلمة: بسيطة. بسيطة.
شابة تطل من الشباك، وإذ بوميض ناري يمر من أمامها. تنادي عليها الأم: سكري الشباك من الصواريخ يمه. أسر لا تجمعهم قرابة، بل تجمعهم فلسطين، يفترشون أرضية إحدى الغرف، ولا يفعلون شيئا، سوى انتظار صاروخ سوف يخترق السقف الذي يسترهم في أية لحظة. الأب يحضن طفلته في حضنه، ويقول: حتى إذا قصفنا نرحل إلى السماء معا.
جريمة، ليست جريمة حرب فحسب، بل جريمة أخلاقية، جريمة إنسانية، جريمة لا يمكن، في أي حال من الأحوال، أن تمر. قصف عشوائي على مدنيين عزل، قذائف تطلق بكثافة من دون حسيب أو رقيب، عمليات تهجير وتطهير عرقي، تجويع، قطع ماء وكهرباء، وكل صلة تصلهم بالعالم من حولهم. رجال فلسطينيون عراة: البنت دارت وجهها حين طلبوا من أبيها أن يخلع ملابسه، لا تريد أن يشعر الأب بالحرج أمامها، وألام تقول: من كان يمد يده إلى الأرض لالتقاط شيء ما وقع منه، تطلق النار عليه فورا.
الصورة لم تكن يوما بكل هذا الوضوح: العدوان الإسرائيلي يهدف إلى الإبادة أو التهجير، جيش الإحتلال بكل ما يملك من سبل القتل يستفرد، في ضوء النهار، وأمام أعين الكاميرات، بشعب أعزل. تقارير عن مرتزقة في الجيش الإسرائيلي. أميركا تضرب بعرض الحائط كل ما يمكن أن يقال عنها، وتناصر الصهيونية على المكشوف، العربي الرسمي يعرب عن عجزه وضعفه، ويقول بالفم الملآن: لسنا قد أميركا وإسرائيل.  الرأي العام العالمي يتحرك، منذ أكثر من سبعين عاما لم يفهم حقيقة ما يحدث كما يفهم الآن، لكنه تحرك بطيء لا يوازي سرعة النزيف الفلسطيني الموصول.
وتتضح الصورة: يا الله كم تعني لهم "إسرائيل". يا الله كم دمنا رخيصا. الرئيس الأميركي جو بايدن يقول: لو لم تكن إسرائيل موجودة لاخترعناها. كيف نفهم هذا القول إلا في سياق إبقاء الجرح غائرا في خاصرة الوطن العربي، لجعل التطبيع مطلبا لمن لا يجد الأمن إلا في الحضن الأميركي، هذا الحضن الذي لا يتسع لمن لا يأخذ، قبل ذلك، إسرائيل في حضنه. وكل ذلك حتى لا يصحو العربي من سباته. كل ذلك حتى يبقى الغرب غربا، والشرق شرقا. كل ذلك حتى يبقى الغرب سيدا، والعرب أتباعا.  
حرب عالمية، والفلسطيني وحده... وحده تماما. لا يملك إلا الصمود، والبقاء في أرضه، حتى لو سحبوا الأرض من تحته، فلقد عرف من البداية، منذ أكثر من سبعين عاما، أن قرارا بالإعدام قد صدر بحقه، ولا سبيل أمامه إلا أن يقاوم.
وفي مثل هذه المقاومة، ليس بالضرورة أن تضع السلاح على كتفك، بل الأهم، أن تضع روحك على كفك. لن تنتصر في معركة، يستهدف فيها العدو حياتك، إذا لم تضع حياتك على كفك، إنه أبعد مكان يمكن أن يصل إليه العدو، رغم إنه أقرب مكان إليه، على بعد قنبلة من قذيفته، رصاصة من فوهة بندقيته، لهيب من نار صواريخه. أهل غزة يضعون أرواحهم على أكفهم، وهذه معجزتهم أمام عدو يسأل: لماذا لا يموتون ونحن نقتلهم كثيرا؟
الحياة على كف اليد، هو سر الفلسطيني في الصمود في هذه الحرب العالمية التي تشن عليه.  ومن يواجه الموت، وينجو منه، يولد من جديد. تماما كما قالها أجدادنا عبر العصور لمن واجهوا الموت، ونجوا منه: لقد كتب لهم عمر جديد.
لقد كتب لمن بقي حيا من أهل غزة عمر جديد. وعليه، سوف يستمر الصراع، لكن الجديد، بعد الذي جرى ويجري، أن هذا الصراع سوف يعود إلى مربعه الأول، سوف يبدأ من نقطة الصفر، ضاربا بعرض الحائط كل الاتفاقيات والتفاهمات، وما بذل من جهود للإيحاء أن "إسرائيل" كيان يمكن العيش معه بسلام.
لم تكن الصورة واضحة إلى هذا الحد، قبل حرب الإبادة على غزة: قرار إعدام الفلسطينيين اتخذ منذ عقود، ولا سبيل أمام الفلسطيني لكي ينجو إلا أن يضع حياته على كفه.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.