}

مأزق الانتماء والانفتاح: قراءة راهنة لأمين معلوف وهوياته القاتلة

فدوى العبود فدوى العبود 30 مارس 2024
آراء مأزق الانتماء والانفتاح: قراءة راهنة لأمين معلوف وهوياته القاتلة
أمين معلوف (Getty)
إن إثارة سؤال الهوية يوقعنا في مأزق مزدوج، أوّلًا: لكونها ترتبط بالإنسان وحياته الداخلية، ومن ثم لصعوبة مقاربتها؛ لتعقيد مكوناتها النفسيّة والمكانيّة والذهنيّة، ولأنّ هذا المفهوم يتشكل في صميمه من وخلال علاقتنا بالآخر.
وبالرغم من أنه متضمّن في الوعي البشري منذ القدم، حيث سعى الإنسان لفهم وجوده الشخصيّ عبر انتمائه لأرض ولغة وجماعة تحدّد موقعه من الوجود، فتتشكل فيها ومن خلالها ثقافته؛ لكنه قد يصاب بالركود من خلال أهم مقوماته: الانتماء والذي لطالما وفي الأزمات ألحقَ بالهوية أبلغَ الضرر؛ فقد يستغلّه الساسةُ في تحريضِ الشّعوب ضدّ بعضها، أو الشعب ضدّ شركائه وخصوصًا حين يتنازع أبناء الوطن الواحد، (حيث تتقوقع الهوية وتنغلق على مذهبٍ أو فكرة أو جماعة)، ومع ذلك فليس للانتماء هذا المعنى السلبيّ دائمًا، باعتبار أنّ التنوع الثقافي والحضاريّ والعرقيّ يمنح للإنسانية غِناها، إذ تقف الذات إزاء الآخر وتسأل: "من أنا؟"
وكلُّ سؤال حولَ الآخر، هو سؤال عن أنفسنا. وعلى غرار الملكة في حكاية بياضِ الثّلج، قد يُطلِعنا الجواب على ما لا نرغب برؤيته في ذواتنا. وحين تنفرُ الذاتُ ممّا فيها تُسقِطهُ على الغير فتهدرُ إنسانيّته!
وبما أنّ الحبرَ أقلّ واقعيّة من الدماء، فإن أفضل من يطرحُ سؤال الهوية هو الحرب!
وهي التي دفعت أمين معلوف لتفحّص هويّته ورسم ملامحها، منطلقًا من الخاص إلى العام ومن العام إلى الشخصيّ في كتابه "الهويات القاتلة"، والذي صدر في فترة زمنيّة وتاريخيّة إبان الحرب اللبنانية 1975 ـ 1990. مستشهدًا بهويّته الذاتيّة باعتباره محلًا لتقاطع انتماءات متعدّدة استطاع أن يوفّق بينها.
وهذا الطرح الذي يقوم على التنّوع والتجاور في الذات بين (هذا/ وذاك)، يضيف للانتماء العميق للعائلة والمكان والوراثة، ما نكتسبه كذوات حرّة من سمات وميّزات. ويحذّر من الانتماء بمعناه التبسيطيّ الذي يحولنا لهويّات قاتلة؛ "لأن الذين لا يستطيعون الاضطلاع بتنوّعهم الخاص يجدون أنفسهم أحيانـًا بين أشدّ القتلَة على الهوية فتكا". ونحن وفق هذا الفهم ننتمي لعصرنا بحيث يؤسس هذا أرضيّة خصبة للِّقاء بالآخر فتُلغى جدليّة "نحن، وهم" ونتحول من التنافر والصراع إلى الفهمِ والتبادل.
وفي هذا البناء الطوباويّ، يظهر تلقائيًّا مفهوم "الانفتاح"، لأننا إذا وفّقنا بين المتناقضات في الذات المتحرّرة من الخوف؛ نلغي المسافة بين الذوات، فالأكثر شجاعةً هو الذي يضطلع بانتماءاته المتعدّدة.
ويتوجه في كتابه لمن يحملون في داخلهم هذه الصفة ويسميهم "كائنات حدودية"، وهذه الهويات التي تخترقها الصدوع الاثنية والدينيّة، تحملُ على عاتقها نسجَ الروابط بين المتنافرات ما يمهد لولادة الإنسان المعولم (المنتمي للعالم الأوسع).
تُصاغ نظرية معلوف وفق قاعدة "ما يجب أن يكون"، وهي إذ تتجاهل التحديات الكثيرة فإنها تقع في ثنائية إما/ أو (إما هوية منغلقة قاتلة، أو هوية منفتحة تبرع في توفيق المتناقضات في داخلها فتتصالح مع الكون الأوسع متمثّلًا في الحداثة والعولمة) وهذه الرؤية تسير متجّهة من أعلى إلى أسفل (من المركز إلى الأطراف). وعبر الحل التوفيقي تتجاهل خطوط الانفلات أو الثغرات أو ما يطلق عليه هومي بابا "الفرجات الخلاليّة". ولعل أول التحديـّات التي تعيقُ هذا الطموح أن الهوية التي يحدّد سماتها لا تتمتع بأنا متعال (إذا ما استخدمنا التعبير الكانطي).
فالانعكاس على الذات لا يتطلب وعيًا مفارقـًا للشروط الثقافية والبيولوجية والنفسية فحسب، بل إن الوعي شرط لازم للانعكاس من أجل لأم المتنافر بين مكوناتها وتليين المتكلّس فيها والتوفيق بين توتراتها؛ إلى أن يتم تجاوزها نحو هوية جديدة تحوّل الخلاف مع الآخر إلى وفاق، والضعف إلى قوة، والتعدّد إلى ثراء.
وهذا يعني مساءلة البنى الثقافية التي تعيق هذا المشروع، والخطورة هنا تكمن في أن فشل التحقق الذاتي للهويّة سيجعل إمكانية إحباطها وتخلّيها -عبر النكوص والانغلاق- عن حريتها مؤكدًا.
وبالمتابعة مع هذه الخطيّة السببيّة لفكرة الهوية عند أمين معلوف، والتي تنتهي فيها المقدمات لنتائج حتميّة، نصل لإنسان عالمي بالمعنى الكوني فيفضي الانتماء إلى الدخول في الحداثة والانفتاح عليها.
وإذا غضضنا النظر عن أن كثيرًا من البشر الآن يُقصوَن من الحداثة، عدا عن التصنيفات الجائرة للشعوب، وطرق الهيمنة الثقافية والاستعباد التي فككها النقد الثقافي، وبروز أزمة اللاجئين في علاقتهم بالغرب وعلاقة الأخير بهم؛ ولا يمكن تجاهل غزة التي أعادت للأذهان فكرة الشعوب الأصليّة والإبادة؛ فإن سؤال الانفتاح يصبح مشروعًا؟
إن عبارة كقولنا: كيف يراني الآخر ـ إذا تجاهلنا ميول المستشرقين منذ تهويمات فولتير حتى لوحات هنري ماتيس ـ تتضمن محاكمة الذات وهذا ضروري.  لكن السؤال كيف يرغب أن يراني؟ يأخذنا إلى أفقٍ جديد.




والآن، ونحن نتأمل قيم التنوير "التي خانتها أوروبا حاليًا" فثمة رأي يعتقد أننا مسؤولون عن صورتنا إلى حدٍّ كبير، وهذا صحيح. لكن هذا الرأي يعكس وجهًا واحدًا من الأمر؛ وإنّ تجاوز عوامل الانغلاق كالخوف وجراح الهوية لم يعد تفسيرًا شافيًّا، كما أن الانفتاح الذي يفهم كاندماج وتمثل أو "إدماج" بتعبير هومي بابا الذي تساءل عن كوننا "أدوات في الحداثة، ولكن لأسباب هوياتيّة بحتة أُقصينا عن معايير عقلانيتها"، وبينما يريدنا معلوف أن ننخرط في الحداثة فإن المسألة هي إذا كان لنا مقعد فيها!
فالأوفر حظّا بيننا في القبول والتحقق في تلك المجتمعات، هو من يبرع في تمثل وصفتها العجيبة للتقدم، بل إن الصحافة الممولة أوروبيًا والتي نبتت كالفطر عقب الأزمات التي اندلعت في البلدان العربية تملي علينا الطريقة التي نروي فيها سرديتنا.
وبالنسبة لمعلوف إن الجواب سهل فنحن "حين ننظر لهويتنا بوصفها مكونة من انتماءات متعددة ومسارات وتهجينات ومؤثرات متنوعة حتى تتولد لدينا علاقة مختلفة مع الآخرين تلغي مسافة نحن وهم، بل يحلّ محلّها القرب".
وعلى سيرة القرب، فإن الأخير يكون بين/ أنداد/ بين هويات تتساوى في إنسانيتها. فالغرب الذي لا يقبل بأقل من المحو أو التماهي مفتون بالتنميط وهو إذ يسعى لقولبة اللاجئ لا يدخر جهدًا لذلك.
وبذكر الاندماج وفي كتابها "كرّاسات باريسية"، وتحت عنوان الذاكرة والاندماج، كتبت لطفية الدليمي "فزعت كالملدوغ عندما أخبرنا المحاضر في جلسة الاندماج أننا لكي نصبح مقبولين كمواطنين محتملين في فرنسا علينا التخلي عن ذاكرتنا".
لا بدّ أن الأمور لا تجري واقعيًا على غرار النص الأدبي أو بهذه الطريقة؛ لكن الأكيد أنها تحدث بشكل أو بآخر وبوسائل أكثر تعقيدًا وذكاء.
ربما كان سارتر في هذا الشأن منسجمًا وشديد الوضوح حين كتب "إذا كان في تأوّهاتهم هذه ظلٌّ من مطمح، فهو التّوق إلى الانضمام، ولا مجال طبعًا لمنحهم ذلك، وإلا كنا نهدم النظام الذي يقوم على زيادة الاستغلال كما تعلمون، ولكن يكفي أن ندع هذه الجزرة ماثلة أمام أعينهم حتى يركضوا".
ليس لدى الآخر مشكلة في أن يمنح أحدنا جائزة، وأن يشجع سرديتنا، لكن بشرط أن تكون على قياسه، ومشكلته تكمن فقط حين نفكر، أو نتساءل. وبذلك يلغى تكريم عدنية شبلي وتصادر أي سردية تخرج عن المرسوم؛ لكن ثمة أمل هنا: يمكننا أن نقدم ثقافتنا باعتبارها فولكلورًا، وأن نرقص على مسارح العالم بالزيّ الأصليّ.
لمن هذا العالم إذن؟ يسأل أمين معلوف.
ثم يجيب: "ليس العالم لأي عرق بعينه أو قوميّة بعينها، إنه لكل الذين يريدون أن يتخذوا مكانـًا فيه لأنفسهم، إنه لكل الذين يسعون لالتقاط قواعد اللعبة الجديدة مهما كانت محيّرة من أجل استخدامها لصالحهم".
وأعتقد أن اللعبة الجديدة تضعنا خارج حساباتها، لكن ذلك بالنسبة لنا ليس خارج الاستيعاب، وبما أن الهوية هي صنع إنساني وهي نتاج العلاقة بالآخر فإنه سيصعب علينا في ظل هذه الظروف أن نحقق هذه "الما يجب أن يكون".
في أحد فصول كتاب "موقع الثقافة" يتحدث هومي بابا عما يسميه "الصورة النمطيّة" وهي تمثل استراتيجية الغرب الذي يضع هوية الآخر في حالة تعيين بين ما هو في مكانه على الدوام. لا يمكن القول إن الرؤية المعاصرة الآن تقدمت كثيرًا عن تهويمات المستشرقين، وإذا كان كتاب "الهويات القاتلة" يسمعنا ما يُطربنا فإن الواقع يرينا ما لا نرغب برؤيته.
في نهاية كتابه، يقرر معلوف أنّ "القدر كالهواء بالنسبة للشراع، من يجلس على الحافة لا يستطيع أن يقرر من أين يأتي الهواء وجريانه وقوته، ولكنه يستطيع أن يوجّه شراعه"، وهذا الطرح الشجاع أعطانا النصف فقط (نصف السؤال/ نصف الجواب، نصف الحقيقة). والسؤال الذي ينبثق هنا موجه لأنفسنا قبل الآخر: "هل ترُك لنا مكان فوق السفينة حتى لو كانت الحافة!".
إن التقاطعات التي تتشكل منها الهوية، والتعقيدات التي تنتج عنها تتجاوز الحلّ التوفيقيّ. وهذه الأسئلة والشكوك الراهنة لا تنقص من قيمة رؤية وطرح "الهويات القاتلة"، والذي وإن حمل توقيعًا طوباويا لمؤلف "صخرة طانيوس"، فإن الواقع الآن ترك توقيعه على هيئة جرحٍ مفتوح وهو يعيد أسئلة الانتماء والانفتاح لكن من خلال النزيف الذي لا يتوقف في غزّة منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023. حيث تترك الأسئلة الباب مشرعًا على تأويلٍ جديد.

*كاتبة سورية.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.