}

أزمة المجتمع الأميركي في فيلم سينمائي

أحمد طمليه 14 يوليه 2024
آراء أزمة المجتمع الأميركي في فيلم سينمائي
قصة الفيلم وفحواها هي الدعوة إلى التكيّف مع الحياة

يحيرني أمر الشعب الأميركي، كأنه لا يوجد شعب، يوجد رئيس، كونغرس، مجلس نواب، ولكن أين الشعب الذي يمكن أن يساهم في تغيير وجهة السياسية الأميركية، لا يوجد أمر يضاهي حرب الإبادة على غزة، والانحياز الأميركي المطلق، والمعلن لهذه الإبادة التي تجري على الهواء مباشرة، ومع ذلك لا صوت للشعب، بل الصوت للساسة، والسياسة واحدة، سواء فاز اليمين أو اليسار، لا شيء يتغير، حتى المظاهرات الشعبية القليلة الأميركية التي خرجت منددة بهذه الإبادة المعلنة ضد شعب فلسطيني أعزل لم تؤخذ على محمل الجد، لم تهز شعرة في رأس سياسي أميركي، لم تغير مقدار ذرة من السياسة الأميركية الظالمة. حتى أصوات بعض المواطنين الأميركيين التي وجهت معترضة في وجوه الساسة لم يتم الالتفات إليها، ما يهم السياسة الأميركية أي أمر، إلا رأي الشعب، مما يطرح السؤال: هل يوجد شعب حتى يأخذ برأيه؟ وإذا كان موجودًا بماذا هو منشغل؟
ما يحيرني أكثر أن الناس في بقاع الله الواسعة تحلم بالهجرة إلى أميركا، باعتبارها أرض الاحلام، أرض الثروة والشهرة والاستقرار، هل هي كذلك فعلًا، وهل ينعم الشعب الأميركي بالاستقرار حتى نحسده عليه؟
بحثت في أرشيف السينما الأميركية الاجتماعية لعلي أصل إلى فهم ما يحدث لهذا الشعب، وبماذا هو منشغل، وقد استوقفني فيلم "الطريق الثوري" (Revolutionary Road)، من بطولة ليوناردو دي كابريو وكيت وينسلت، وهو من إخراج المخرج الأميركي سام ميندز.
وقد فازت وينسلت عن دورها في هذا الفيلم بجائزة غولدن غلوب كأفضل ممثلة لعام 2008. ويذكر أن جوائز غولدن غلوب تعد محطة مهمة قبل الأوسكار، إذ تكشف أي الأفلام ستكون ناجحة في جوائز الأوسكار. وإذ أعرض حكاية هذا الفيلم فما هي إلا محاولة لمعرفة جانب من أزمة الشعب الأميركي، ولماذا هو غائب كل هذا الغياب تاركًا الساسة يوجهون سياسة البلد كما يحلو لهم.
يحكي الفيلم المستوحى من رواية للكاتب ريتشارد باتس التي تحمل الاسم نفسه، قصة الشاب (ليوناردو)، والفتاة (كيت)، يلتقيان صدفة في مكان عام، يتبادلان النظرات، ثم حوار مقتضب، ثم يرتبطان، وينجبان ابنين (ولدًا وبنتًا)، يعمل الزوج بوظيفة مندوب مبيعات في إحدى الشركات، وقد ورث هذه الوظيفة عن أبيه الذي أفنى عمره فيها، أما الزوجة فإنها درست الدراما، ولكنها فشلت في أن تكون ممثلة.
يبدأ الفيلم عمليًا في أحد المسارح، حيث (كيت) تخفق على المسرح، وتجر خيبتها إلى غرفة تغيير الملابس، يلحق بها زوجها محاولًا أن يقلل من حزنها، ومع أول حوار يدور بينهما في السيارة أثناء طريق عودتهما إلى البيت، يتضح حجم الجحيم الذي يعيشان فيه، فهي تتهمه بأنه ليس رجلًا، وهو يتهمها بأنها فاشلة، وليس في وسعه أن يتحمل مسؤولية فشلها.
الحوار الذي دار بينهما حاد، لدرجة توحي أنهما من المستحيل أن يستمرا مع بعضهما، أما طفلاهما في البيت فهما مجرد ديكور، فلا يوجد مشهد واحد يجمع الزوجين مع ابنيهما، وكأن في هذا إشارة إلى أن الأبناء لمجرد أنهم أبناء لا يصنعون الحياة، أو بالأحرى لا يضيفون جديدًا على الحياة إذا كان الحطام النفسي قد نال من الوالدين. الحياة، كما عبرت عنها الزوجة، محض فراغ يبعث على الملل، غير أن الزوج يحاول أن يلغي هذا الانطباع؛ ليمثل الزوج بذلك شريحة واسعة من الشعب الأميركي المنهمكة في البحث عن المال بحثًا عن استقرار يبدو مستحيلًا.
هذه الصورة القاتمة التي يعيشها الزوجان ليست متبلورة لدى الجيران الذين يظنون أن هذه العائلة سعيدة، ويمكن أن تكون حتى أسرة نموذجية، وهذا ما يدفع صاحبة البيت لأن تستأذن بإمكانية أن تحضر معها ابنها المريض نفسيًا، والذي يعالج في إحدى المصحات النفسية لعل نموذجية العلاقة الزوجية تساعد ابن الجيران (جون) في محنته النفسية. وجون، بالمناسبة، درس الرياضيات في باريس، وحصل على درجة الدكتوراه، ولكنه عاد مضطربًا، غير متوازن. علينا أن نلاحظ هنا أن حضور ابن الجيران (جون) في الفيلم ليس عابرًا، ودراسته في باريس ليست مصادفة، فثمة ما له علاقة بفكرة الفيلم سنأتي إلى إيضاحها لاحقًا.





تتبلور لدى الزوجة لمواجهة رتابة الحياة اليومية فكرة جديدة سرعان ما تعرضها على زوجها، وفحواها أنها نجحت في ادخار مبلغ من المال يكفيهم لمدة ستة أشهر من دون عمل، وأنها حصلت على تأشيرة سفر إلى باريس، حيث بإمكانها أن تعمل هناك، فيما يتفرغ الزوج للكتابة والقراءة والتفكير في ما يمكن أن يفعل. تظن الزوجة أنها بهذا الإجراء يمكن أن تخرج من إطار الرتابة التي تعيشها، وستتمكن من مساعدة زوجها لتغيير وظيفته والعمل في مجال أكثر حيوية. يتحمس الزوج، بل إنه يخبر الجيران، وزملاءه في العمل، ويفاجأ في غمرة ذلك أن المسؤول عنه في العمل معني به، وأن لديه استعدادًا لأن يعيد النظر براتبه وامتيازاته المالية إذا أعاد النظر في الموضوع.
تكمن المفاجأة في الفيلم بمشهد يجمع بين الزوج والزوجة وهما يمارسان الجنس، إذ يلاحظ أنهما يفعلان ذلك وهما واقفان، وذلك بناء على طلب الزوجة التي ترفض أن تنام مع زوجها في الفراش. وفي مشهد آخر، وأثناء حفلة صاخبة، تتقرب الزوجة من رجل يعيش في الجوار، فتشرب معه بشكل متتال، ثم ترجوه أن يمارس معها الحب داخل السيارة.
الفكرة اتضحت تقريبًا، فالزوجة الحالمة بالهرب إلى باريس تعاني أزمة نفسية، فهي تريد كل شيء أن يتم بسرعة، حتى الجنس تمارسه على العجل، وما باريس إلا واحدة من أفكارها السريعة، حيث تظن أن ذلك قد يغير كل شيء، والسفر إلى بلد جديد قد يدخل السكينة إلى داخلها، وهي لا تعلم أن من لديه أنين من الصعب أن يتوقف حتى لو هرب إلى أبعد نقطة في الكون. هذا ما نستدل عليه من شخصية ابن الجيران (جون) الذي لم ينله من باريس إلا فقدانه لعقله، بعد أن عجز عن التكيف، لا في باريس، ولا في أميركا.
يتأزم الموقف في الفيلم حين تكتشف الزوجة أنها حامل، وقد يعيق هذا سفرها، فالزوج يصر على أن يولد طفله في موطنه، كما أن العرض المغري الجديد الذي تقدمت به شركته تجعله يعيد النظر في عملية السفر، وهنا تقوم قيامة الزوجة، وتبدأ المشاكل بينهما، ويلاحظ الزوج تدريجيًا أن زوجته مريضة نفسيًا، وأن الأجدى أن يعالجها بدل أن يجاريها بترك عمله، والسفر معها إلى بلد لا يعرفه. غير أن هذه النتيجة التي وصل إليها الزوج تأتي متأخرة بالنسبة للزوجة التي باتت عاجزة تمامًا عن التكيّف مع محيطها. وفي ليلة ينشب عراك شديد بين الزوجين، يتلاسنان بكلام جارح، ويوشك الزوج أكثر من مرة أن يصفعها، وينامان على هدير لا يتوقف في قلبيهما المتعبين.
في الصباح، تصحو الزوجة هادئة على غير عادتها، تعد وجبة الإفطار لزوجها، وتشيعه إلى باب البيت، بعد أن كانت قد أودعت طفليها عند إحدى صديقاتها. وحين يخلو لها المكان، تقوم بعملية إجهاض فاشلة تدفع حياتها ثمنًا لها.
هذه هي قصة الفيلم، وفحواها الدعوة إلى التكيف مع الحياة، وماذا يحدث إذا ضاقت التفاصيل اليومية، وفقدنا القدرة على التكيف مع أنفسنا، ومع أبسط تفاصيلنا. هذا ما نستدل عليه أكثر في المشهد الأخير من الفيلم، حين تقول صاحبة البيت لزوجها إنها كانت مخطئة في حبها الشديد للعائلة التي كانت تراها نموذجية، فقد لاحظت بعد أن أخذ الزوج طفليه وسافر إلى مدينة أخرى أن ثمة بقعًا على جدران البيت في الداخل، وأن التسوية تقطر ماء، أي أن الزوجة لم تكن معنية بنظافة وترتيب بيتها.
يعد فيلم "الطريق الثوري" من أهم ثلاثة أفلام أميركية من حيث مدة عرضه في دور السينما العالمية، وسجل للفيلم طرحه الهادئ لقضايا نفسية داخلية، والأداء اللافت للممثلين ليوناردو دي كابريو، وكيت وينسلت، وهما بالمناسبة بطلا فيلم "تايتانيك" ذائع الصيت. والأهم من ذلك أن الفيلم يدل على أن المجتمع الأميركي يرزح تحت ضغوطات نفسية مختلفة، ولهذا هو غائب عن السياسة، فمن تؤلمه قدمه لا يأبه لألم العالم أجمع.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.