}

الكتابة الأدبية وشواغلها: بين هواجس اللغة والانتماء

سوسن جميل حسن 18 يوليه 2024
آراء الكتابة الأدبية وشواغلها: بين هواجس اللغة والانتماء
يزن أبو سلامة، "مشهد من نافذة بيتي" (2022)


في غربتي التي لا أعلم كم ستطول، ولا أعرف إلامَ ستنتهي، صار يحضرني سؤال لا يغادرني حتى يعود من جديد، أنا الكاتبة، أو الروائية تحديدًا، ليس فيما يتعلق بي في هذا المجال وحدي فحسب، بل أيضًا بكثير من الأدباء السوريين وغير السوريين ممّن هجّرتهم ظروف متنوّعة من بلدانهم، إن كانت سياسية أم اقتصادية أم اضطهادًا عرقيًا أو مذهبيًا، أو حتى لأسباب أقلّ شيوعًا لها علاقة بالثقافة المهيمنة في بلدانهم الأصلية، سؤال عمّا أقدّم، أنا وغيري، من أدب، ما بين الشعر والقصة والرواية والخاطرة والشذرات والسيرة وما يمكن أن يتشبّه بأدب الرحلات، باعتبار الواحد منا انتقل من منطقة جغرافية إلى أخرى، بكل ما تحتوي الجغرافيا من تاريخ وثقافة واجتماع وطبيعة وتراث وحداثة، وغيرها.

يبدأ السؤال دائمًا عن الحدود بين "الوطن" السابق والـ "الوطن" الحالي، مع التحفظ على كلمة وطن، التي تختلف في مدلولها ومعانيها بين شخص وآخر، وبين زمن وآخر، متى ستكون الانعطافة الفارقة في كتابتي؟ هل سأبقى حبيسة ذلك الوطن الذي ينأى، فأنتجُ أدبًا من تحت ركامه، وهو بالفعل آيل إلى أن يكون ركامًا بعد هذا الدمار الهائل الذي تعرّض له؟ أم إنني سأكتب وأنا على أعتاب هذا الوطن البديل، وأنا أهمّ في دخوله من الأبواب المفتوحة أمامي؟ كنتُ، منذ بدأ وعيي يتشكّل، أشيح بوجهي عن فكرة أن الوطن هو مكان الولادة، إذ كان بالنسبة إليّ مفهومًا ضبابيًا، لكنني لم أكن أمتلك البراهين التي تعزّز ميلي، ومع هذا أراني اليوم، وأنا على هذا البعد، ما زلت مسكونة بصداه، وأرتجّ لهزّاته الارتدادية، ألأنّ فيه تشكّل وعيي وذاكرتي، وفيه راكمتُ سنين عمري؟ ألأنّ البدايات الأولى كانت فوق ترابه وتحت سمائه ودفء شمسه؟ الضحكة الأولى واللثغة الأولى، والحروف الأولى، والخطوة الأولى والدهشة الأولى، والألم الأوّل؟ وماذا عن جبل الآلام الذي تراكم فوق روحي وأنا أكبر تحت خيمة تناقضاته؟ ماذا عن خيباتي التي أنجزتها بمباركته، وهزائمي وانتصاراتي الخلّبية؟ 

ما أعرفه أنني ما زلت مسكونة به إلى اليوم، وأن إقامتي في هذه البلاد الجديدة، برغم كل ما تمنحني إياه مما افتقدته من الحياة الكريمة في بلدي، تشبه شعور رحّالة دخلها بتصميم مسبق، من دون أن يجبره أحد على دخولها، وأن إقامته فيها تبقى متلازمة مع الوجود المؤقت مهما طالت، لكنني لا أستطيع أن أرى هذه البلاد بعيني رحّالة، عندما دخلتها في المرة الأولى ليست الدهشة ما أصابتني، إنما الغيرة، نعم، غرت من برلين يومها، وقفت مقابل مدينة وكأنها امرأة مثلي، وغرت منها، غرت من أهلها المارّين في شوارعها بوجوههم المطمئنة، صارت تتزاحم أمام وجهي سحنات أولئك الذين تركتهم خلفي بكل جهامتها، وانقباض عضلات وجهها، ومكابدة أرواحهم وهي ترسم ملامحهم، غرت من أرصفتها، من شوارعها، من حدائقها، من أطفالها، بينما كانت تنهض في خلدي صور الأطفال هناك، عراة حفاة مذعورين، وآخرين مقطعي الأوصال مزّقت أجسادهم القذائف التي جاء بها كل أشرار العالم إليهم.

أقول سؤال الكتابة، ومتى سينعطف أدبي الانعطافة المنتظرة؟ ها أنا أنزلق ثانية إلى الحزن الذي يسكنني، والهموم التي تحتل وجداني، والذاكرة التي تحرق قلبي، فتلك البلاد تأبى أن تغادرني، مثلما لو أنها التصقت بجلدي ورائحتها علقت بثيابي تعاند كل مساحيق الغسيل. هل هذا ما يسمّى الانتماء؟ وهل يمكن العيش في مكان من دون الانتماء إليه؟

أجلس على شرفتي، أشرب قهوتي التي لا أبدّلها، قهوتي السورية المتوفرة مع سلع سورية كثيرة في برلين، وأنظر إلى القمر، أنظر إلى نصفه وأحلم بنصفه الذي هناك، أحسد الرحّالة، رحّالة الأمس ورحّالة اليوم، أحسد رفاعة الطهطاوي، أحسد أحمد فارس الشدياق. هل أحسد ابن جبير الأندلسي، وابن بطوطة ومن سبقه ومن تلاه أيضًا؟

سأبقى أحسدهم، ما دام أني تشابهتُ وإياهم في العيش المؤقت، لكنهم امتلكوا، من دوني، حرية الاختيار والقرار، وحملوا نيّات مسبقة خلف رحلاتهم وترحالهم حبكوها بشغفهم وطموحهم وجموح خيالهم وفضول الاستكشاف. كانوا رحّالة، وأنا مُرحّلة، والفارق بيني وبينهم لا علاقة لمكر اللغة به، بل لمكر التاريخ والعصر.

أعود إلى سؤالي، بل أسئلتي، هل ستكون هناك انعطافة في كتابتي؟ أحيانًا أدخل في دوامة الارتياب في ما يخصّ فعل الكتابة بحدّ ذاته، وهل سأبقى قادرة على القيام به في وقت يمرّ معه العمر من دون حسابات، يمرّ مخاتلًا وأنا مرهونة لانتظارٍ، لا أدركه، بين جدران "المؤقت"، فأكتشف فجأة كم سقط منّي على الطريق في دروبي التي أجبرت على السير فيها، وصولًا إلى مكان ما زلت إلى اليوم أبحث فيه عن هوية أفهمها.

أقول "هويّة". فكيف أستطيع فهم هويّة المكان الجديد/ الوطن الجديد، لا يهمّ الاسم، إن كان وطنًا أم لا، فهذا المفهوم ما زال مشاكسًا في بالي، يتحرّش بي كلّ حين، كيف أستطيع الفهم من دون لغة هذا المكان الجديد، هذا العيش الجديد؟ كيف كان الرحّالة الأوائل يسبرون الجغرافيا، "البشرية" على وجه الخصوص، من دون القبض على روح لغة أهلها؟ فاللغة وعاء لا تحدّ اتساعَه حدود، فيه يتشكّل ضمير المجموعات البشرية التي تتحدث بها وتعيش فيها وتحت خيمتها. كيف أتوقّع أن تحدث الحياة الجديدة هذه الانعطافة التي أسأل نفسي عنها من دون أن أمسك بلغة أهلها؟


لقد قرأت عديدًا من صنوف الأدب الألماني، ولعدّة أدباء وشعراء، إنما قرأتها مترجمة إلى لغتي التي شربتها مع حليب طفولتي فكبرتُ على نسغها، قرأت تلك الكتب الأدبية بصياغات عربية لا أعرف إلى أي مدى كان للمترجم تدخلاته التي لا نستطيع القبض عليها ما لم نقرأ النصوص بلغتها، كان الفرق بالنسبة إلي يحدث بتأثير لغة المترجم وأسلوبه، قد يمتعني كتاب أكثر من غيره، وقد أقرأ كتابًا بيسرٍ أكثر من غيره، بحسب أسلوب المترجم إلى العربية، إنما لا أعرف شيئًا عن النصوص بلغتها المكتوبة بها في الأصل، فكيف أنتظر أن تؤثر بأسلوبي الكتابي لغة، توصف بأنها فلسفية وقادرة على التأمّل بشكل مربك، وأنا لا أستطيع قراءتها؟

هناك علاقة عميقة بين اللغة والواقع، وبين اللغة والوعي، أو التفكير، هذه العلاقة هي ما ينتج المعنى. وإنتاج المعنى يتطلّب اللغة، فإذا لم أتمكّن من التعامل مع اللغة الجديدة، وأستطيع التفكير بها، كيف يمكن لي أن أتأثر بهذه الثقافة التي تخصّ مجموعة بشرية لها تاريخ حافل؟ ما زلت إلى اليوم، بعد ما يقارب العقد من السنوات في ألمانيا، أفكّر باللغة العربية وأحاول ترجمة الجمل التي يركّبها عقلي إلى اللغة الألمانية، فأتعثر، وكثيرًا ما أسيء إلى المعنى الذي أريد من حديثي، بل كثيرًا ما أصل إلى جدار صلب لا أملك معه غير الصمت، أو الاستعانة بترجمة غوغل إذا كان الظرف يسمح، وترجمة غوغل وحدها، بالنسبة إلى اللغة العربية، تحتاج إلى كثير من الإصلاح، هذا ما لن يتم من دون إصلاح العربية، المَهمّة المتعثرة إلى الآن، على الرغم من كلّ الدراسات الجادّة والدارسين المجتهدين.

أسئلة أخرى تخطر في بالي، أسئلة شواغل الكتابة، لا بدّ من أن الحياة العصرية، على مستوى العالم، تطرح قضايا وتحديات أمام الرواية، أمام الأدب بشكل عام، لكن، هل أنتمي إلى جيل يرى إلى المستقبل بعين أخرى، ويتعامل مع مفردات الواقع انطلاقًا من انتمائه إليه بحكم "الجيل" والمجايلة، بينما، في الواقع، أنتمي إلى جيل زجّت به العولمة وأدواتها في فوهة بيت النار دفعة واحدة، وعليه تعلّم تقنيات واستخدام أدوات في زمن قصير، وقد صارت فرص التعلّم محدودة أمامه؟

صدرت لي ثلاث روايات، بعد استقراري التام في ألمانيا، فقد كنت آتيها زائرة في السنوات الأولى، جميعها مغمّسة بالهم السوري، بقضايا الفرد السوري تحديدًا، وربما العربي إلى حدّ ما، بمشاكل المجتمع المتجذرة، بقضية المرأة، بقضية الدين، بقضايا الفساد الحكومي والقضائي والمجتمعي، بآليات التفكير المستحكمة قبضتها بأذهان الناس، بالسلاطين السياسية والاجتماعية والدينية وغيرها، بقضايا البيئة، إنما جميعها منحصرة في مجتمعاتنا، باستثناء "خانات الريح" التي انشغلت بقضية اللجوء، وقضية وعي الذات والعالم، وطرحت فيها رؤية للعلاقة بين السوري والغربي، تكاملية بعيدًا من الاستعلاء والسيطرة والاستلاب. صحيح، طرحت هذه الفكرة، وبنيت شخصية ألمانية وظفتها في السرد من أجل إيصال المعنى الذي أريد، لكن هذه الشخصية بنتُ الكتب والقراءات، وبنتُ أفكاري التي صغتها من خلال تجربتي الحياتية وقراءاتي، لكنها ليست ابنة الواقع الألماني، بكل صدق، أنا لم أدخل في عمق المجتمع إلى اليوم، على الرغم من نيتي الصادقة وقناعتي الكبيرة بمفهوم الاندماج، هذا يعزّز سؤال الانتماء أيضًا، هل انتماؤنا إلى أوطاننا، تاريخنا، ثقافتنا، انتماء حرّ، ما دام يبدأ تعزيز هذه الفكرة منذ الطفولة، مبنية على أسس ثقافة جمعية تجعل أحد أشكال التوريث هو توريث المفاهيم والقيم والأفكار والسلوك والعقائد أيضًا؟ لو تفقّدنا انتماءنا إلى ما نسميه الوطن، وأخضعناه إلى معايير العقل والموضوعية بعيدًا عن القيم والأخلاق والعاطفة، هل سيبقى انتماءً راسخًا وحقيقيًا؟ وماذا عن الوطن البديل؟ تكرّرت في بعض كتاباتي تسمية للوطن الذي ولدتُ وعشتُ فيه معظم حياتي، هي "وطني الروحي"، أما الوطن الجديد، المكان الجديد الذي أعيش فيه فإنني أبحث بعقلي عن انتمائي إليه، في بعض الأحيان أشعر أن الذاكرة التي تنبشها بعض الأماكن فيه، أو الشوارع أو الحارات التي سكنت فيها، تحرّض حنيني، وتشعرني بالألفة تجاه المكان، إنما لم يتبلور مفهوم الانتماء لديّ، فما زلت تائهة في سراديبه.

يمكن القول إنني ما زلت أدور في الفضاء نفسه، ما زلت أحمل همومي الثقافية والفكرية وما أحسبه استحقاق الكتابة علي، نفسها، لم أستطع الغوص في عمق المجتمع الألماني والثقافة الألمانية، بشكل أستطيع أن أتلمّس في داخلي إرهاصات هذه الانعطافة التي أسأل نفسي عنها، كلّ ما استطعت تبيّنه أن أنظمة الحياة هنا، احترام المواطن من قبل الدولة، الاهتمام بمشاكله، تأمين احتياجاته في الحياة المشتركة، كل هذه التسهيلات التي كانت جديدة علي، منحتني نوعًا من الاسترخاء، من التحرّر من أعباء الحياة، ودغدغت في مكان ما إحساسي بإنسانيتي وكرامتي، جعلت من عملية الكتابة تسير بسهولة أكثر مما مضى، لكنني في الوقت نفسه أشعر بأنني ما زلت على السطح، لم أغص في الحياة الاجتماعية والثقافية هنا، لم أستطع تكوين فكرة مهمة، بالنسبة لي، عن الشخصية الألمانية.

فأي انعطافة أبحث عنها وأنا ما زلت أعيش في المؤقت، لكنني لست ذلك الرحالة الذي حزم أمره ومضى في مغامرته بكل ما لديه من جموح وشغف الاستكشاف، لقد حملت معي وطنًا لم يعد يستطيع أن يحبو، وأنا أحبو على عتبة اللغة الألمانية، أحلم بقراءة أدبها وفكرها وفلسفتها وشعرها، بكلماتها وصياغاتها وتراكيبها الخاصة، علّ الأسئلة التي تمور في بالي تلقى إجابات عليها.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.