}

عن "الاستثنائيّة" الأميركيّة والصهيونيّة وخطرها على العالم

جورج كعدي جورج كعدي 27 يوليه 2024
آراء عن "الاستثنائيّة" الأميركيّة والصهيونيّة وخطرها على العالم
(Getty)

كلٌّ من الولايات المتحدة و"إسرائيل" نشأت بأمر إلهيّ! هذا أخطر ما في "الاستثنائية" التي تزعمانها على نحو متماثل بل متطابق: وعدٌ إلهيّ بالأرض، تفوّق "أخلاقيّ" و"تحضّري" على باقي الشعوب، عدم خضوع للقوانين الدولية التي تسري على دول العالم أجمع،... إلخ.
تستند الاستثنائية الأميركية إلى فكرة استعمارية قديمة مفادها أنّ القوة تَمْنَحُ التفوّقَ الأخلاقيّ! أساس هذا المفهوم أرساه ألكسيس دو توكڨيل في كتابه "الديمقراطية في أميركا" (1840) إنّما من غير أن يذكر عبارة "تفوّق". وغير مهمّ أن تكون أميركا فريدة حقًا أم لا، فالمهمّ هو كيف ينظر الأميركيّون إلى بلدهم. الولايات المتحدة استثنائية طالما أنّ الأميركيين يعتقدون أنّها استثنائية. والعنصر الأول في هذه الاستثنائية المدّعاة اعتقاد الأميركيين أنّ لديهم أفضل دستور في العالم، وينطوي على أهمّ القيم الأميركية. بُنيت الهوية الوطنية الأميركية على أساس الأيديولوجيا المشتركة لا على التاريخ المشترك كما هي الحال في الدول القومية الأوروبية. والعنصر الثاني هو الشعور بالتفوّق الأخلاقي الذي يغذّي شعورًا بـ"الواجب الأخلاقي المثالي" حيال بقيّة العالم، مع الافتراض الضمنيّ بأنّ "القيم الأميركية" هي قيم عالمية، أو ينبغي أن تكون كذلك! والعنصر الثالث هو الأسطورة الدينية التي تقول بأنّ الله أوكل إلى الولايات المتحدة دورًا معيّنًا في العالم، وبالتالي فإنّ هذه "المهمة النبيلة" هي بأمر وتفضيل إلهيين! فالآباء الاستعماريون الأوائل لأرض الهنود الحمر كانوا يعتقدون بالفعل أنّهم استثنائيون ويمتلكون حسًّا أخلاقيًا متفوّقًا! كان هؤلاء الطهريّون (البيوريتانيّون) يعدّون مستعمراتهم "مدينة على تلة"، ويحسبون أنفسهم مجتمعًا من المختارين!

المنظّر والمؤرِّخ السياسي الفرنسي ألكسيس دو توكڨيل صاحب كتاب "الديمقراطية في أميركا" (1840) (Getty)

الولايات المتحدة "المميزة والفريدة والنموذجية"، مقارنة بباقي دول العالم، يرى المؤيّدون لقيمها ونظامها السياسيّ وتطوّرها التاريخيّ أنّها دولة فريدة من نوعها في تاريخ البشرية! إنّه العمى الفكري والسياسيّ والأيديولوجيّ والقيميّ والأخلاقيّ في الآن ذاته. وحتّى الذين ادّعوا يومًا في العشرينيّات من القرن العشرين أنهم "حزب شيوعيّ أميركيّ" لم ينجوا من غواية النظام الاقتصادي الرأسماليّ، وناقضوا على نحو مضحك أساسات الفكر الشيوعيّ الأمميّ ومبادئه الاقتصادية والإنتاجية والاجتماعية والطبقية، ففي عام 1927 أشاد جاي لوڨستون أمين عام "الحزب الشيوعي الأميركي" بالتفرّد الاقتصادي والاجتماعيّ لأميركا، مشيرًا إلى القوة المتزايدة للرأسمالية الأميركية، و"القوة الاحتياطية الهائلة للبلاد"، ليخلص في ذروة الكلام العبثيّ إلى أنّ قوة الرأسمالية والاحتياط منعت "الثورة الشيوعية"! وفي منتصف عام 1929 ندّد الزعيم السوفياتي جوزف ستالين بأفكار لوڨستون، ووصفها بـ"هرطقة الاستثنائية الأميركية". وأتى الكساد العظيم في تلك الفترة ليؤكد حجة ستالين القائلة بأنّ الرأسمالية الأميركية والاستثنائية الأميركية والنظام الأميركي بأكمله لا تعدو كونها أوهامًا بُنيت عليها فكرة "الازدهار" الرأسمالي الأميركي.




الرئيس الأميركي ليندون جونسون الذي امتدت ولايته الرئاسية بين 1963 و1969 وكان داعمًا بالمطلق لـ"إسرائيل" وارتبط اسمه بالفترة الأطول من حرب فيتنام التي خرجت منها أميركا مثخنة بالهزيمة والموت، كان نموذجًا فاقعًا للعقلية الأميركية المتعالية والمؤمنة بفكرة "الاستثنائية"، وقد ساوى بين المصلحة الأميركية و"مصير الديمقراطية" في العالم، وبصفته قسًّا علمانيًا أعلن "المهمة الفريدة للأمة"، وهي "تصحيح الخطأ، وتحقيق العدالة، وخدمة الإنسان"، أي ما تفعله الولايات المتحدة اليوم حرفيًّا في غزة... خدمةٌ لإنسانها وتحقيقًا للعدالة! عندما اضطرّ جونسون إلى تبرير مزيد من تورّط بلاده الإجراميّ في حرب فيتنام، لجأ إلى القضايا الأخلاقية، مشيرًا إلى الفقر السائد في جنوب شرق آسيا، مؤكدًا على الالتزام الأميركي بفعل شيء ما حيال ذلك (أي أنّ حرب فيتنام بكامل مآسيها للشعب الفيتنامي والجنود الأميركيين المقتولين والمصابين بإعاقات كانت، بتبرير جونسون المنافق، للقضاء على فقر الشعب الفيتنامي!)، محاولًا القول إنّ الولايات المتحدة لا تنشر قواتها العسكرية هناك لأهداف جيوسياسية فحسب، إنّما أيضًا لحرب "أخلاقية" ضدّ الفقر! مزاعم جونسون تشبه إلى حدّ بعيد اعتقاد البيوريتانيين باستثنائية المستعمرة الأميركية و"دورها الأخلاقي في العالم" باعتبارها "المنارة الأخلاقية للعالم" و"واجبها الإلهيّ" أن تكون قوية كي تضمن التميّز الأخلاقي في بقية العالم! هذه الديماغوجية الأخلاقية بلغت ذروة نفاقها في خطاب جونسون عن "المجتمع العظيم" في جامعة ميشيغان، زاعمًا أنّها "المرة الأولى في تاريخ البشرية تتاح الفرصة للجيل الأميركي أن يشكل مجتمع أحلامه، المجتمع الذي سينشأ من خلال المثل الأخلاقية للمجتمع العظيم".
الولايات المتحدة و"إسرائيل" تدّعيان أنهما استثنائيتان وفوق القانون الدولي والرأي العام العالمي. تحبّ الولايات المتحدة الزعم أنّها الدولة الأكثر ديمقراطية وعشقًا للحرية والأخلاق في العالم. والمدعوّة "إسرائيل" مثلها مقتنعة بتفوّقها على الجوار بالديمقراطية والتفوّق. الدولتان تأسستا على شعور الاستثنائية والتعصب الديني والاستعمار الاستيطاني، وعلى أنّ سلطتهما على العالم "منحة من الله" لمصادرة الأرض والتخلّص من السكان الأصليين. الصوغ الأميركي للاستثنائية القومية الدينية سابقٌ على "دولة إسرائيل". كلٌّ من الدولتين صاغت أساطير وطنية جامحة لتبرير استعمارها الإحلاليّ. منذ وصول الحجّاج الإنكليز إلى شواطئ أميركا نحو عام 1620  اعتقدوا أنهم مكلّفون من الله ويملكون عهدًا معه. كذلك اعتقدت "إسرائيل" أنّها تأسست بفضل "الوعد الإلهي". فالأساطير التي هي من صنع بشريّ وفّرت للدولتين القرصانتين موطئ قدم في الشرق الأوسط ، "إسرائيل" من أجل المشروع التوراتيّ التاريخيّ، وأميركا من أجل النفط والهيمنة.

الرئيس الأميركي ليندون جونسون الذي امتدت ولايته الرئاسية بين 1963 و1969 كان داعمًا بالمطلق لـ"إسرائيل" (Getty)

أميركا و"إسرائيل" متّحدتان في نشأتهما على الخرافات والأساطير، وفي عدم احترامهما القوانين الدولية التي لا تعني لهما سوى كلام مزعج يجب التخلّص منه. بينما يفيدنا الواقع بأنّ كلتا الدولتين أضحتا دولتين منبوذتين عالميًا، لكونهما في الجانب الخاطئ من التاريخ، وما عاد الناس يتسامحون إزاء الحروب المتواصلة التي تشنّها الولايات المتحدة أو تشارك فيها، كذلك حروب "إسرائيل" غير المنتهية وصولًا إلى الحرب الإباديّة الحاليّة التي أشعلت غضب فئات واسعة جدًا من الرأي العام العالمي. أميركا و"إسرائيل" دولتان قوميتان تتسمان بالوحشية المفرطة وانعدام الإنسانية.
كيف تمكنت الصهيونية من تقديم نفسها على أنها "استثنائية" وقادرة دومًا على الإفلات من المحاسبة والعقاب؟ ثمة أركان ثلاثة لهذه "الاستثنائية" هي أولًا زعم التمتع بالحق الإلهي بالأرض، فالانتخاب الإلهي لليهود "المشرّدين والمضطهدين" يهبهم، في ادعائهم، الأساس التاريخي والقانوني لطرد الفلسطينيين من أرضهم! ثانيًا، اعتدادهم بما أنجزوه بدعم من الغرب، ما جعلهم "يهودًا متفوّقين" مقابل شعب فلسطيني أدنى تفوّقًا. ثالثًا، تروّج الصهيونية بأنّ اليهود أصحاب تاريخ مأساويّ وأنهم معرّضون ودولتهم المخترعة والمغتصبة على نحو فريد، ما يمنح "إسرائيل" مبرّرًا خاصًا لحماية نفسها ضدّ التهديدات المفترضة لوجودها، وبالتالي تجاهل إملاءات القانون الدولي. وبالمقارنة مع "مأساة اليهود" فإنّ أي ألم قد يطاول الفلسطينيين بسبب تهجيرهم يبدو "ضئيلًا"! (هل تبدو الإبادة الحاصلة في غزة ألمًا ضئيلًا؟!). 




في كتابها "إسرائيلنا الأميركية/ Our American Israel (2018)" تصف الباحثة الأميركية إيمي كابلان على نحو شامل ودقيق العلاقة بين الولايات المتحدة و"إسرائيل" لناحية الروابط الثقافية العميقة والعلاقة المتطوّرة على مدى أجيال. أُضفي على المشروع الصهيوني الاستعماري الإحلالي طابع أميركي حتى بات الأميركيون ينظرون إلى الإسرائيليين كأقرباء لهم، فبالنسبة إلى أميركيين كثر "إسرائيل جزء منّا". وبالنسبة إلى كابلان يفسّر ذلك القرابة غير العادية بين الشعبين اللذين يتقاسمان المعتقد نفسه بأن وجود أمّتيهما كان مقدّرًا من الله، وهو بالتالي معفيٌّ من القواعد التي تنطبق على الدول الأخرى. وتتقاطع أشكال الاستثنائية الأميركية والإسرائيلية من خلال الاستعمار المنهجي واقتلاع السكان الأصليين. وتؤكد كابلان على تناقض صورة "الضحية" و"المنتصر" التي تنعم بها "إسرائيل" منذ زمن طويل في الولايات المتحدة، وتلاحظ أيضًا كيف تشكلت الصورة السلبية للفلسطينيين في العقل الأميركي، كما تتفحص الصهيونية المسيحية، خاصةً بين الإنجيليين، فمع صعود اليمين المسيحي في سبعينيات القرن العشرين، أمسى هذا الموضوع ذا أهمية مضاعفة، والواقع أن الدعم الأكثر حماسة لـ"إسرائيل" يأتي من المسيحيين الإنجيليين، وهذا ما تؤكده تصريحات وزير الخارجية الأميركي السابق مايك بومبيو، الإنجيليّ المتحمّس، بأنّ "الله هو من رفع دونالد ترامب إلى الرئاسة من أجل حماية إسرائيل"!
حالة من الهذيان العقليّ "الانخطافي" طغت تاريخيًّا على عقول الأميركيين، موجاتٍ مستعمرة وقيادات تاريخية، فحتى لينكولن رأى أميركا "آخر وأفضل أمل على وجه الأرض"! وتوقع جيفرسون أن تصبح أميركا "إمبراطورية الحرية" وصولًا إلى الأكثر "انخطافًا" و"تواصلًا مباشرًا مع الله" جورج دبليو بوش الذي جرّد مصطلح "الاستثنائية" من سياقه التاريخي لتوظيفه في سياسات معينة تجعل الولايات المتحدة "فوق" القانون، أو "استثناء" فيه، وبخاصة قانون الأمم المتحدة، وكان الهدف بدَفْع من المحافظين الجدد الصهاينة إلى غزو العراق وتدميره وإبادة مئات الألوف من شعبه. ذاك ما خاطب الله به جورج دبليو بوش مباشرةً! إنّها أيضًا استثنائية الجنون الأميركيّ.

٭ناقد وأستاذ جامعي من لبنان.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.