}

عن استباحة الجسد الفلسطينيّ وتجريده من إنسانيّته

جورج كعدي جورج كعدي 17 أغسطس 2024
آراء عن استباحة الجسد الفلسطينيّ وتجريده من إنسانيّته
جاهر وزير الحرب الصهيوني بـ"حيونة" الإنسان الفلسطيني (Getty)
تحويلُ جسدِ العدوّ (الفلسطينيّ هنا بالمنظار الإسرائيليّ) إلى حيوان هو جزء من الرغبة في انحطاطه. إنّها مسألة إنتاج آخر غير إنسانيّ، وغير شخصيّ، منزوع الذات، مجرّد من الإنسانيّة. إنتاج جسد العدوّ هو إنتاج "الغريب"، أنا – أنت، هم – نحن. إنّها أيضًا مسألة الحطّ من شأن هذا الجسد الغريب الآخر، القبيح مقابل الجميل، الشرّير مقابل الخيّر. وفضلًا عن "حيونة" الإنسان الفلسطينيّ، التي جاهر بها وزير الحرب الصهيونيّ غالانت وأفراد آخرون من عصابة الإبادة، فإنّه يُجرَّد من شخصيته وهويته وشكله ليغدو كتلةً غير واضحة، مستباحة للقتل والتنكيل ومختلف الأشكال الساديّة للتعذيب (شهد العالم كلّه أفظعها في معتقل سديه تيمان مع مجموعة من الجنود الساديين هتكت جسد الفلسطينيّ الأسير بأداة الإطفاء!). ومع ذلك، يغيب عن القاتل البهيميّ أنّه يستطيع أن يقتل الإنسان الفلسطينيّ، لكنّه لا يستطيع تحويله، وإن ميتًا، إلى شيء آخر.
الجسدُ المتألّم ليس للقاتل موضوع شفقة لأنّه جسد "الغريب"، جسد "العدوّ". المهمّة الأساسية لخلق عدوّ جسديّ هي في نظر الفاعل: إيذاؤه، إخافته، معاقبته، تعذيبه، إذلاله، تحقيره، وقتله في النهاية. الأسوأ في كلّ الحروب ليس الموت، بل الكراهية والعنف. الهدف الاستراتيجي هو تدمير إرادة العدو وينابيعها ومعنوياتها، وكسر هذا العدو نفسيًّا. لا يتحقق ذلك إلّا بإيلام الجسد وتعذيبه وقتله. جسد العدوّ هو الرغبة في الأذى، عبره تنتشر طاقة الكراهية لتدميره وإزاحته وانتزاع كبريائه وقوّته وآليات نضاله. ولهذه الغاية يُخصّص جلّادون وسجّانون يتفنّنون بحماسة في أشكال التعذيب وتطبيقاته الوحشيّة "المقوننة"، أي ذات التشريعات، لإلحاق معاناة شديدة بالجسد المأسور خلف الأسلاك الشائكة وقد انحنت قامته والتمّت على ذاتها في وضعية ذلّ وقهر واكتئاب.

الفلسطينيّ عن بُعْد هو جسد يتمّ تصويره ورقمنته (Getty)

الكشف عن جسد العدو في غزّة اليوم يتمّ عبر الاستشعار عن بُعد. رؤية جسد العدو من مجهول هي هزيمة له. الفلسطينيّ عن بُعْد هو جسد يتمّ تصويره، رقمنته، عبر الطائرات من دون طيار والمسيّرات وأنظمة الرؤية النهارية والليلية، ليُقتل بشكل فوريّ. يستحيل جسده صورًا افتراضية على شاشات التحكّم. الشاشة تقتل أسرع من الرصاص. الجسد الفلسطيني موجود على مسرح مزدوج، مسرح العمليات الاستراتيجية والتكتيكية، ومسرح العمليات السياسية. يتعلّق الأمر بتحديد موقع الجسم المعادي والإحاطة به وتحديد حدوده (الرؤية من دون أن يُرى). وفي المعتقل يحوّل الجسد الفرد إلى جماعة غير واضحة ومجهولة، بلا وجه أو شكل، ما يتيح عدم المسؤولية الشخصية للجلّاد الذي يعفيه لباسه العسكري من المسؤولية الأخلاقية لمصلحة وظيفته أو دوره المؤسّسي. منذ القرن السابع عشر رأى توماس هوبز أنّ الحرب هي الكلّ ضدّ الكلّ، وفي هذه الحالة يكون لسائر البشر حقٌّ في كل شيء، وحتى على أجساد بعضهم البعض، ويحتفظ كلٌّ منهم بهذا الحق في فعل ما يشاء (الإسرائيليّ يفعل اليوم، وفعل ماضيًا، ما يشاء في الجسد الفلسطينيّ). إنّها الطبيعة البشرية بحسب هوبز القائل إنّ الإنسان ذئب لأخيه الإنسان.
الألم الذي يسكن الجسد الفلسطيني يمنعه من انتظار سواه. دُمّرت ذاكرته البيولوجية، طُبّعت علاقته مع الموت والجوع والتشرّد والنزوح والإعاقة. اتّحد الجسد الفلسطيني بالألم. صارا واحدًا. هذا الجسد المتألّم مستَعْمَر من الخارج ومن الداخل. فماذا أنتَ تملك حين لا تملك إلّا نفسك؟ الجسد "مكان" يؤوي ويحمي شعور الإنسان بوجوده، وشعوره بذاته وبالآخر. بيد أنّ هذا المكان يمكن أن يكون أيضًا تهديدًا لتلك الذات، مساحة سجن وشعور بالضعف والعجز.




هذا ما يختبره الجسد الفلسطيني تحت الاحتلال، وهذا ما يرومه الاحتلال ويطبّقه: جعل جسد الفلسطينيّ سجنًا له. وفضلًا عن العنف الجسدي الذي يمارسه المحتل، ثمة العنف الرمزي الذي يهاجم بلا توقف القوة الملموسة لدى الشعب الفلسطيني المسجون والمقاوِم، ليعطّل قدراته النفسية والجسدية على الهجوم أو المقاومة. العنف الرمزي يدمّر ذات الآخر. ثمة للعنف ديناميّاته المتعدّدة احتلالًا وتطويعًا واعتقالًا، لا مجرّد القتل والإبادة. يتمّ ذلك في الوقت نفسه أو على التوالي. إنّما لإراقة الدماء معنى آخر، متقدّم على سواه، إذ يمكن بواسطتها مهاجمة نظام حيويّ جماعيّ. انتشار الدم خارج الجسد يجفّف الأجيال المقبلة. يقضي المحتلّ واهمًا على مستقبل المجموعة، كما يخال أنّه فاعلٌ في غزة اليوم. بتحلّل الجسد تتحلّل الروح في ظنّ الإسرائيليّ. تكشف الحرب الرمزية أيضًا عن ضراوتها في إحداث الدمار الذي تزعم أنّها تفرضه على الهويتين الفردية والجماعية. محو الفرادة، وهي أساس الهوية الفردية ضمن المجموعة، يهدف إلى تشويه وجوه الضحايا الشهداء بالغارات الوحشية. التأثير المدمّر لهذه القسوة على وجوه ضحايا القصف بالطيران يرمي إلى طمس الهوية الفردية. الإنسانية نفسها تتلاشى مع الهوية.
بحسب منظمة العفو الدولية (Amnesty International)، يُعدُّ الاعتقال الإداريّ من الأدوات الرئيسية التي تستخدمها "إسرائيل" لفرض نظام الفصل العنصريّ ضدّ السكان الفلسطينيين. ووثّقت المنظمة التعذيب الذي تقوم به السلطات الإسرائيلية على نطاق واسع في مراكز الاعتقال بالضفة الغربية، منذ عقود، واليوم في غزة. وتُظهر مقاطع فيديو وصور موجودة على الإنترنت جنودًا إسرائيليين يضربون ويهينون الفلسطينيين المحتجزين، معصوبي الأعين، عراة، مقيّدي الأيدي. ولعلّ الهدف من الاعتقال الإداريّ، غير إذلال الإنسان الفلسطينيّ واستباحة جسده، هو الإيهام بأنّ "إسرائيل" تتخذ إجراءات داخلية وتجري تحقيقات تنقذها من تحقيقات محتملة حول جرائم حرب في محكمة لاهاي الجنائية الدولية. وتتوافق الروايات التي نقلتها منظمة "بتسليم" الإسرائيلية مع العديد من التقارير المتسرّبة من السجون الإسرائيلية طوال الأشهر العشرة الماضية.
روى معزز عبايات من على سريره في مستشفى ببيت لحم، بعد إطلاق سراحه من الاعتقال الإداري لمدة تسعة أشهر، أنه فقد نصف وزنه في المعتقل حيث تعرّض للضرب والإساءة والتعذيب والتجويع والحرمان من الماء، مؤكدًا على أن حالته ليست استثنائيّة، فأيّ معتقل فلسطينيّ آخر يلقى المعاملة نفسها. هذا ولا تعتقد أغلبية الطبقة السياسية والإعلامية في الكيان الصهيوني المحتل أن ثمة خطأ كبيرًا في تعذيب السجناء وإساءة معاملتهم(!) بل يدافع بعض الوزراء بحماسة عن المعتدين، فخلال مناظرة تلفزيونية حديثة، اقترح أحد المشاركين "استخدام الاغتصاب كشكل من أشكال التعذيب قانونيًا"(!). تصريح دنيء كهذا كان ليشكّل في أي بلد آخر فضيحةً تحتلّ الصفحات الأولى في الصحف! هي علامة من علامات كثيرة تدلّ على مجتمع مريض حقًا يجتاز حدًّا غير مرئيّ نحو الهمجية، حيث لا خطوط حمراء فيه ولا انصياع للقوانين الدولية ولا مساءلة.

من علامات سقوط الإنسان والإنسانيّة ابتذال القتل والموت (Getty) 

الباحث الفلسطيني اسماعيل ناشف، في دراسة قيّمة له تحت عنوان "اللاتحوّل في الممارسة والخطاب: إشكالية الثقافي الفلسطيني"، يجعل الجسد ثلاثية في مسار القضية الفلسطينية وأطوارها: هناك جسد الأرض، والجسد الجمعيّ، والجسد الفرديّ (نشهد مرحلته اليوم). فقد بدأت بريطانيا والحركة الصهيونية محاولات حثيثة لشراء "جسد الأرض" بغية السيطرة على الجمع ثم الفرد من أجل تفكيكهما وإعادة كتابة الفضاء المحليّ كفضاء استعماري استيطاني. كانت 1948 لحظة فقدان جسد الأرض، تلاها فقدان الجسد الجمعي وتشرّد الجسد الفردي في أصقاع شتى. "الجسد الجمعيّ" أصبح الحلبة الأساسية عام 1967. ثم حدث الانزياح في أوسلو حول الجسد الفردي من موقعه الثانوي إلى موقع البؤرة الأساسية، ولا يزال هذا الانزياح جاريًا حتى الآن، مع الفلسطيني الفدائيّ فالاستشهادي فالمقاوم والشهيد. صعد الشهيد فوق ذخيرته وأدواته العسكرية، والأهمّ أنّه نفى مفهوم الجسد. أضحى الجسد جسر العودة. يتحوّل الفلسطيني إلى فاعل في الواقع المعاش بالرغم من أنه يفقد جسده. وهنا يطرح الناشف مفهومًا آخر لدور الجسد وواقعه. إنّه جسد التضحية والفداء، لا الجسد المستباح من عدو متوحش. الفلسطيني في استعارة الناشف يبيح جسده طوعًا للقضية، لا مستباحًا من العدو، خاصةً في المرحلة الفردية التي يتحدث عنها وقد تلت الجسد/ الأرض والجسد الجمعي.
من علامات سقوط الإنسان والإنسانيّة ابتذال القتل والموت واستباحة كرامة الجسد الآدمي، حرمته، قيمته الغالية لذويه ومحبّيه، قدسيته، ألمه، مأساته، فجيعة فقده، تشوّهه، بتره... يكشف الجسد الفلسطيني المتشظّي عقم المعنى، عجز العدالة الأرضية، عبث الحماية السماوية، وهم المبدأ والقيمة، تهافت مركزيّة الكائن البشريّ في كون تسيّره إرادة فيزيائية عمياء صمّاء، فيما تسبح مجرّاته الصخرية والناريّة البلهاء في فضاء العدم اللامتناهي.

*ناقد وأستاذ جامعي من لبنان.   

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.