}

روايات ذلك الربيع... ذلك الزلزال: "أوديب في الطائرة" نموذجًا

نبيل سليمان 30 يوليه 2024
آراء روايات ذلك الربيع... ذلك الزلزال: "أوديب في الطائرة" نموذجًا
محمد سلماوي

 

ثلاث عشرة سنة انطوت على ما سمّاه المجاز بالربيع العربي أو الزلزال، كما كان له من الأسماء أيضًا: الانتفاضة أو الحراك أو الاسم الذهبي: الثورة. وقد أسرعت الصفات إلى "الثورة": الثورة المغدورة، الثورة المهزومة، الثورة المستمرة. وفي غير مصر وتونس، حلّت الحرب الأهلية، أو الأهلية الإقليمية، محلّ "الثورة" أو نافستها في التداول، كما في سورية أو ليبيا أو اليمن.

أسرعت الكتابة الروائية إلى هذا المنجم، حتى تردّد منذ سنتين أن عدد الروايات المعنية بما ابتدأ في سورية عام 2011 أربى على أربعماية. وسواء كان العدد أقل من ذلك بكثير أم لا، فكم هو إذًا في مصر؟

لا أحسب أن المرء يخطئ أو يبالغ إن تحدّث عن الطوفان الروائي في مصر وسورية خلال ثلاث عشرة سنة انطوت. ولأن الحديث سيمضي إلى رواية "أوديب في الطائرة" للكاتب المصري محمد سلماوي، أستذكر مما قرأت من الروايات المصرية المثيلة رواية عز الدين شكري فشير "باب الخروج: رسالة علي المفعمة ببهجة غير متوقعة" ففي ما كتبه الأب علي شكري لابنه الذي فرّ مع أمه وأخوته من الثورة، ما يرسم المرحلة التي حفلت بالاضطرابات، مما تتخيله الرواية من المستقبل، إذ تستشرف ما بعد صدورها عام 2012 حتى عام 2020. وأشير أيضًا إلى رواية عمار علي حسن "سقوط الصمت" التي قدمت بانوراما لما سبق الثورة وما تلاها بلغة مؤثرة وتفاصيل مؤثرة أيضًا. وهذا الاشتباك بين زمنين (ما قبل الثورة وما بعد) هو زمن رواية عزت القمحاوي "ما رآه سامي يعقوب" (2019) التي تندغم فيها فاجعة الحب بالمآل الفاجع للثورة.

على نهج آخر بنى إبراهيم عبد المجيد روايته "قطط العام الفائت" (2017) إذ تخيّل بلادًا سماها "لاوند" قامت فيها الثورة وصدّر الرواية بالتحذير المعهود: "وأي تشابه مع الواقع غير مقصود". لكن الفانتازيا الروائية تتعين في مصر وفي ثورة/ زلزال 25 كانون الثاني/ يناير 2011، حيث يتمتع الحاكم بقدرات سحرية، ومثله مدير المحن والأزمات، وسعاد حسني. ومن العجيب الروائي إلقاء الغاز من السماء على الثوار في الميدان (هل هو ميدان التحرير؟) أو تحوّل الشباب المعتقلين والمتظاهرين إلى قطط...

بمثل هذا اللعب الروائي الفاتن تقوم رواية "أوديب في الطائرة" لمحمد سلماوي. وكان الكاتب قد قدّم عام 2010 روايته "أجنحة الفراشة" التي عُدّتْ بحق استشرافًا لما أسرع بعد سنة إلى ميدان التحرير. ففي الرواية تتفاقم الاحتجاجات بفضل الهواتف المحمولة والفيسبوك والإنترنت- أدوات الفضل الشبابي أيضًا في رواية "قطط العام الفائت"-، فتغلق الأسواق، ويمتنع الموظفون عن أعمالهم، وتعتقل السلطات أقطاب المعارضة، وصولًا إلى استقالة الحكومة. وبالتوازي مع السياسي في الرواية، بل بالاشتباك معه، تقوم العلاقة بين مصمّمة الأزياء ضحى وزعيم المعارضة الدكتور أشرف، فتبتر زواجها الذي أرغمتها والدتها عليه. وبذا تتحول ضحى من يرقة إلى فراشة، وبعد نجاح الثورة يتزوج العاشقان، وتغزل ضحى للعرض الجديد القادم- بدلًا من العرض الذي اعتذرت عنه في ميلانو- تصميمًا للأزياء مستوحى من الفراشة المصرية المعمرة.

أما روايته "أوديب في الطائرة" فتلاعب الأسطورة الإغريقية الشهيرة، وذلك بعصرنتها وبتحيينها في ثورة كانون الثاني/ يناير 2011. وقد اختط محمد سلماوي الذي عُرف أيضًا ككاتب مسرحي، في هذه الملاعبة الروائية لمسرحية سوفوكليس، نهجًا جديدًا مختلفًا عما سبق إليه من استلهموا مسرحياتهم من مسرحية "أوديب ملكًا"، وعلى رأسهم توفيق الحكيم، ومنهم علي أحمد باكثير وعلي سالم وفوزي فهمي...

في الأسّ الأسطوري لرواية "أوديب في الطائرة" يسأل الملكان لايوس وزوجته جوكاستا الآلهة عن مصير وليدهما الموعود، فتخبر الآلهة أنه سيقتل أباه ويتزوج أمه. ولكي لا يقتل الملكان وليدهما يسلّمانه إلى راع ليقتله. لكن الراعي يعلق الوليد بشجرة ويمضي، فيرث الوليد عاهة في قدمه، وكلمة أوديب تعني باليونانية: تورّم القدمين.


يشاهد الوليد راع آخر فيأخذه إلى ملكي كورنثة العقيمين، فيتبنّيانه. ولما عرف في فتوّته ما هو مقدّر له، فرّ. وفي فراره صادف موكب أبيه لايوس فقتله، فخلا عرش طيبة. ولما بلغ أسوارها رأى الوحش الذي يلاقي من يقابله بلغز، فمن لا يحلّ اللغز يفترسه. لكن أوديب ينتصر على الوحش، فتنصّبه طيبة على العرش الخاوي، وتزوّجه أرملة لايوس، أي أمه، وبذا تتحقق النبوءة.

لتصير هذه الأسطورة روايةً لثورة 25 كانون الثاني/ يناير 2011 في مصر، اختار محمد سلماوي اليوم الأخير من الثورة، وبدأ الرواية برفض أوديب النزول من الطائرة التي تحمله إلى السجن. وفي طيبة عاصمة مصر القديمة، كان الناس قد ملأوا الميدان، وكان كبير الآلهة زيوس قد اتهم أوديب بنشر الطاعون في المملكة جرّاء قتله لأبيه وزواجه من أمه، فحُقّ عليه عقاب الآلهة.

في عصرنة الأسطورة وتحيينها بالزمن المصري قبيل وفي ثورة 2011، يتحول أوديب إلى الرئيس حسني مبارك، ويتحول ديتر إلى رئيس الأركان سامي عنان، والطاعون إلى الفساد والاستبداد. وكما جرى في ميدان التحرير، يقيّد الحرس المتظاهرين ويزجّونهم في "سياراتهم القبيحة السوداء". وعلى هذا النحو، تأمر القيادة العليا أن يُستقبل أوديب كما يليق بالملك/ الرئيس لدى نزوله من الطائرة، ثم ينقل إلى زنزانته في السجن دون تقييد يديه.

ويخاطب أوديب رئيس أركانه ديتر: "اسمع أيها الجنرال، لقد بذلت عمري في خدمة هذا البلد، في الحرب وفي السلم. وحين حلت الكارثة وألّبوا الناس ضدي بسبب الطاعون الذي لم أتسبّب فيه، رفضت أن أترك طيبة وأهرب إلى الخارج. هذا بلدي الذي ولدت به وأخلصت في خدمته منذ عدت إليه بعد طول غياب. لقد رفضت دعوات الاستضافة التي جاءتني من ملوك العالم وحكامه، ولم أفعل هذا لينتهي بي الأمر في السجن كالمجرمين".

يتلامح الرئيس التونسي زين العابدين بن علي في قول أوديب. وسوف يتلامح من بعد، كما ستتلامح الثورات/ الزلازل اليمنية والليبية والسورية، ولكن من دون الرؤساء أصناء أوديب أو مبارك وبن علي.

عمّا قبل الثورة، تقدّم الرواية ما هو أقرب إلى أن يكون ملخّصًا سرديًا يتعلّق بحروب طيبة مع المملكة الغاشمة الطامعة إسبارطة. ففي عهد الملك لايوس، وبعد انتصار طيبة على إسبارطة، تسوء الأحوال، ويتفجر الصراع بين البوسيبون والأورانس الذين يناظرهم اليوم المسيحيون والمسلمون. كما يُغتال الملك لايوس الذي كان قد استعدى الجميع، فهل هو أنور السادات؟ وهل إذًا هي حرب أكتوبر 1973؟ هل تكون إسبارطة هي إسرائيل كما يْشي استذكار أوديب في السجن للمعركة ضد مينيلاوس ملك إسبارطة: كنا أصحاب الضربة الأولى التي شلّتهم/ عبرنا إلى مواقعهم في وضح النهار... وهل يخفّف من مثل هذه القراءة أن يتغنّى أوديب بالتصدي للإسبارطيين بالسيوف والحراب والأسهم، وبكسر دروعهم؟

يبشّر العجوز تيريسياس بالثورة في طيبة مجلجلًا: "أيها الجالسون على العروش، حذار من الاستبداد، حذار من الطغيان". وسيتبيّن أن تيريسياس هو الراعي الذي أعطى الوليد أوديب إلى راع آخر لا بلد له ولا وطن، فتبنّاه... ويتصدّر الشباب المشهد ممثلّين بشخصيتي العاشقين بترو الفنان الذي يصوّر زلزال 2011، وهيباتيا التي ستتابع دور بترو بعد اعتقاله، وهي أجمل بنات طيبة، من الأقلية "الأورانوس"، بينما ينتمي بترو إلى الأغلبية "البوسيبون"، أي هو مسلم وهي قبطية، بلغة زماننا التي تسمّي الصراع بين الأقلية والأغلبية بالطائفية.

تهاجم الجماهير مجلس شيوخ طيبة مناديةً بسقوط النظام، بينما بيترو، ثم هيباتيا، ثم بيترو بعد خروجه من المعتقل، يصوّران التطورات، وينجزان الفيلم الذي سيكون الوثيقة التاريخية للثورة. وقد صوّر بيترو هيباتيا في المظاهرات، فبدت مثل فتاة الثورة الفرنسية ماريان التي تقود الجماهير في لوحة الفنان الفرنسي أوجين ديلاكروا، في متحف اللوفر.

في استوديو النجمة الزرقاء الذي أسسه ويديره ليون، يضع العاشقان اللمسات الأخيرة على الفيلم الذي سيشارك في المهرجان الدولي للأفلام الوثائقية في أمستردام. وقد جعل بيترو من فرحة الناس بالخلاص من أوديب خاتمة للفيلم. لكنه يشدّد على أن "الثورة لن تكتمل إلا بإقامة الدولة الجديدة التي نحلم بها، دولة ديمقراطية حديثة لا تعتمد على الأساطير الخرافية". وفي تعبير آخر عن رسالة الرواية يتابع بيترو: "لقد نجحنا في هدم القديم، لكن الشق الباقي هو الأهم، لأنه شق البناء".

في خاتمة الرواية يصدح تيريسياس: "أرسلتني الأقدار لأضع نهاية الرواية". فيردّ أوديب أنه ليس طرفًا في رواية يشارك تيريسياس في صنعها، وأنه سيختار نهاية روايته بنفسه. لكن تيريسياس الذي يذهب إلى أن الآلهة هي التي تصنع لنا رواياتنا، يخاطب أوديب: "لن تنتهي روايتك إلا بدخولك السجن". وها هو أوديب في السجن، وها هي الجملة الأخيرة في الرواية، تخبر أن أوديب فارق الحياة في الزنزانة.

هكذا، وبعد نبوءة رواية "أجنحة الفراشة" بالثورة، جاءت رواية "أوديب في الطائرة" لتكون رواية محمد سلماوي عن الثورة، في غلالة رمزية شفيفة وغاوية/ مغوية، بينما يوالي "نيل/ نهر" الرواية تدفّقه تحت لآلئ 25 كانون الثاني/ يناير 2011.     

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.