}

ملاحظات سريعة حول الانتماء والحق في إبداء الرأي

بلال خبيز 31 يوليه 2024
آراء ملاحظات سريعة حول الانتماء والحق في إبداء الرأي
لوبن ترى فرنسا أمة مهدّدة حكمًا (Getty)

الدولة تريد من مواطنها الانتماء إليها، بوصفها حضنًا، وبوصفها ملجأ، وبوصفها من يُحسن إليه. مع أن المواطن في العرف هو شريك في ثروات الدولة، لكن إدارة هذه الثروات لا تتعلق به، بل بمؤسساتها. وبناء على شراكته هذه تلزم الدولة المواطن بالدفاع عنها والموت في سبيل سياسات سلطاتها، لكنها حين تعينه حين يتعثر، تتعامل معه بوصفه عالة على غيره. وعليه فإن المواطن هو كائن يملك انتماء مكلفًا وغير منتج في الوقت نفسه، ولا يسعه التملّص من احتمال الموت في سبيل دولته.

المواطن كائن لا يملك رأيًا. فهو حين يعترض على حروب دولته يصبح منتميًا إلى دولة أخرى، عميلًا أو جاسوسًا أو خائنًا. وبخلاف ما تقول حنه أرندت، لا يحق للمواطن إبداء الرأي إلا في ما يتعلق بما يراه الأفضل لمصلحة دولته. المواطن الفرنسي لا يستطيع أن يكوّن رأيًا في مصلحة الألمان، عليه أن يكوّن رأيه في النظر إلى مصلحة فرنسا.

الانتماء هو نوع من أنواع التعصب. الدولة حلّت، في تغذية هذا التعصّب، محل الأديان، التي كانت في زمن يفاعتها تفرض على الناس أن يؤمنوا بما تبشر به ليتسنى لهم أن يصبحوا مواطنين- مؤمنين- مسيحيين- مسلمين- يهودًا، متساوين في الحقوق والواجبات. في أصل نشأتها، كانت الديانات تبتغي تحقيق المساواة بين البشر، بوصفهم مؤمنين. الأباطرة الذين ناصبوا الديانات العداء نجحوا في تحقيق مرتبة للأمم توازي مرتبة الأديان، والمجازر التي حفلت بها أوروبا في قرون الألفية الثانية، في معظمها، تستند إلى هذه الصراعات، بين الانتماء إلى الإمبراطورية أو المملكة والانتماء إلى الطائفة أو المذهب أو الدين.

على هذا يبدو أن كل الآراء التي يكوّنها الأفراد لا تنجح في تجاوز سقف المسلمات العامة. الإلحاد في القرون السابقة يشبه خيانة الأوطان في القرون القريبة الماضية.

حين انتشرت الأيديولوجيات المعولمة، من مواطن هوغو العالمي، إلى إنشاء لغة الأسبرانطو واعتمادها أوروبيًا، إلى إنشاء الصليب الأحمر، إلى الاشتراكية الدولية والماركسية، بدا أن الدول- الأمم أصبحت مخترقة، ولم يعد ثمة ما يحول دون أن يتبنى أي فرد آراء وأفكارًا تناقض مصالح الدولة الأمة وتضرّ بها. الأيديولوجيون هم هراطقة الكنيسة، ومسيحيو الإمبراطورية الرومانية، ومهاجرو قريش، ومثلهم مثل هؤلاء، بَنَوا أمة واشتغلوا على وضع مصالحها فوق مصالح الأمم التي يحوزون جنسياتها، ويخضعون لقوانينها.

فشل الأيديولوجيات المعولمة السابقة كان واحدًا من أسباب عودة الصراع إلى قروسطيّته عالميًا، بين شعوب تنتمي إلى أديان، وأخرى تنتمي إلى أمم. الخلاف بين مارين لوبن في فرنسا وجزء كبير من الليبراليين الفرنسيين، يتمحور حول هذه النقطة. لوبن ترى فرنسا أمة مهدّدة حكمًا من كل من ينتمي إلى ما يخرج عن إطار الأمة، وبعض الليبراليين يرون فرنسا أقوى وأكبر من الانتماءات الآنفة الذكر، وكل ما يخرج عن إطار الأمة من انتماءات لا يستطيع أن يهدّدها. وعلى الطريق نفسها يرفع دونالد ترامب شعار "أميركا أولًا"، ويحتجّ نائبه جيه دي فانس على المساعدات الأميركية لأوكرانيا، مفترضًا أن على أوروبا أن تهتم بشؤونها وتعالج مشكلاتها، وأن ما يجري هناك ليس مشكلة أميركا. وهذا لا يعني في منتهاه أقل من تصعيد عنيف لقومية أميركية "مفترضة" لن تلبث أن تواجه معضلة هائلة تتعلق بتحديد من يحق له أن يكون من شعوبها ومن لا يحق له بذلك.

الانتماء إلى فرنسا الدولة الأمة، لا يجب أن يتناقض مع التنوع في الأعراق والمنابت والثقافات. لكن الثقافات أو الأعراق والمنابت التي تقيم في فرنسا وتفترض أن انتماءها الفعلي يقع خارج حدودها، تهدد فرنسا كدولة- أمة. هذا الصراع نرى إشارات كثيرة عليه في أميركا أيضًا. المكسيكي الذي يعيش ويعمل ويعلم أولاده في أميركا، ويستفيد من فرصها وجودة الرعاية الصحية فيها، قد يخونها، والأرجح أن يخونها إذا ما اندلعت حرب بين أميركا والمكسيك. لكن أميركا أشد حصانة من فرنسا. ذلك أنها تستطيع أن تحتمل طبقات من الانتماء لدى مواطنيها، لأن الأمم الأصلية لهؤلاء لا تستطيع أن تحتمل كلفة حرب مع أميركا حتى لو كان لديها فيها ملايين المؤيدين.

في دول أخرى تبدو المسألة أخطر. لا تستطيع فرنسا أو ألمانيا احتمال تصدّعات في انتماءات مواطنيها إذا كانت مهددة باندلاع حرب مع روسيا أو إسبانيا مثلًا.

العصر الحديث يحضّنا مرة أخرى على كره بعضنا البعض. لكن العولمة تحضّنا من جهة أخرى على إعادة النظر في الهوية والانتماء. الهوية المعولمة الحديثة هي هوية القادرين: الذين يحسنون التعبير عن أفكارهم باللغات المرعية والمتفق على سيادتها، الذين يعيشون في مستوى أعلى من مستوى الذين يعيشون في علاقة مباشرة مع الطبيعة، الذين يملكون حيوانات أليفة تم إخراجها من بيئاتها الطبيعية كليا وصارت تخضع لشروط حياة متعددة الطبقات والمستويات، الذين يتمتعون في المدن التي يعيشون فيها بشبكات كهرباء موثوقة، ويستطيعون أن يعيشوا في ظل ظروف معتدلة على كافة المستويات. الذين يتلقون أجورًا عن أعمالهم تدخل في حساباتهم المصرفية، وبالتالي، يستطيعون أن يشتروا الطبيعة التي تناسبهم والكهوف التي تريحهم، والذين بالدرجة الأولى يحصلون على كل ما يحتاجونه للعيش والاحتماء عبر خدمات الدليفري (التوصيل): المياه من الصنبور، والضوء من حفرة مخفية في الجدار، والنسيم المنعش من فتحة في السقف، والدفء المريح من الفتحة نفسها، والتين والزيتون والطماطم والخيار واللحوم من السوبر ماركت. وبالتالي ثمة مجهولون يؤمنون لهم هذا كله، لقاء أجر، وليس من مهامهم التعامل مع الطبيعة العنيفة في أي وقت، إلا حين تستبد بهم الرغبة في المغامرة.

السلطات الحديثة تتعامل مع هؤلاء بوصفهم جزءَا من ثروتها. لكن السلطات الحديثة أيضَا تعمد دائمًا إلى افتراض أن بقية الناس، الذين يعيشون في كنف سلطانها، هم خدم لطموحاتها وأفكارها وسياساتها. هكذا يموت الروس في حرب لم تكن ضرورية البتة.

لا يزال المواطن في الدولة الأمة موجودًا، لكن طبقات كثيرة اخترقت هذه الوحدة الشاملة. ثمة مواطنون معولمون في كل مكان، حتى في أفقر الدول وأقلها تنعّمًا بوسائل التواصل ومقاومة الطبيعة الغاشمة. وثمة مؤمنون يخضعون لسلطات الدول التي يعيشون فيها لكنهم ينتمون إلى الدول التي تحارب هذه الدول التي يعيشون فيها، وهؤلاء هم ورثة الأيديولوجيين، لكنهم يختلفون عنهم اختلافًا جوهريًا بوصفهم ليسوا معولمين. هؤلاء لا يرون العالم مستحقًا للنعمة إلا إذا انتمى إلى منابتهم وآمن بما يؤمنون به. وثمة أصوليون أمميون يجاهدون في كل بلد من بلاد العالم لطرد الغريب والمختلف والمفارق، بوصفهم ورثوا ثروة الأمة وتاريخها عن آبائهم، ولا يريدون لأي كان أن يشاركهم ميراثهم.

وفق هذا التقسيم ثمة الكثير مما يجب الحذر منه. التواصل الفكري والثقافي بين هذه المجموعات والطبقات شبه معدوم. وتاليًا، ثمة غضّ نظر عن أي مذبحة تحصل. مليارات البشر سيفرحون إذا أفلس وول مارت Walmart، ومليارات آخرون يرغبون في أن تفلس شركات السيارات الكهربائية الصينية، ولا تنافس نظيراتها الأميركية والأوروبية واليابانية. هؤلاء لا ينظرون بعين التعاطف للكائنات المعولمة وسلطاتها وهوياتها. وعلى النحو نفسه، ثمة مليارات أخرى أو هي نفسها، ستفرح لاختفاء أخبار الفقراء في بنغلادش أو الكونغو، ولو كانت أسباب الاختفاء قتلًا ممنهجًا. وثمة مليارات أخرى ستفرح كثيرًا إذا نشبت حرب بين الصين وأميركا وأدّت إلى مقتل مئات الملايين. بصرف النظر عن النتائج الوخيمة التي ستطاول العالم كله جرّاءها. والقائمة تطول لتؤكد الخلاصة التالية: كل فئة من هذه الفئات تفترض أن الحل لما يواجهها من مشكلات يكمن في ارتكاب المجازر بحق الفئات الأخرى. وما ينقصها هو الجيوش والسلاح، وبعضها بدأ بتجهيزه والتدرّب على استعماله!

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.