}

عن الأجيال الجديدة وتحويل الحيّز العام إلى شرفة منزلية

بلال خبيز 22 أغسطس 2024
آراء عن الأجيال الجديدة وتحويل الحيّز العام إلى شرفة منزلية
(Getty)

 

تشير دراسة حديثة إلى أن الأجيال الجديدة من الأميركيين لا يقيمون وزنًا لعدد كبير من المسلّمات التي درجت الأجيال السابقة على التسليم بها. من قبيل أنهم لا يرون تفريقًا في الأجسام وأحجامها جماليًا. هم يتعاملون مع السمين والنحيف بالدرجة نفسها من الإعجاب والازدراء. شكل الجسم بالنسبة لهم يعبّر عن وظيفة: لا يتحقق الجسم الرياضي حسب ما يرون، إلا حين يقرر المرء أن ينصرف عن مشاغل أخرى ويقضي جلّ وقته المتاح في النوادي الرياضية. ولا يتحقق الجسم الرشيق والمثير بالنسبة لهم إلا حين ينصرف صاحبه أو صاحبته عن أمور كثيرة لا يجدر بالناس الانصراف عنها، لأنهم لا يملكون رفاهية هذا الانصراف ولا القدرة على متابعته. خلاصة هذه النظرة تقول إن كل الناس يمكن أن يكونوا شركاء ومرغوبين.

شركاء؟ العلاقة الخاصة بين اثنين هي علاقة شراكة، قد تستمر زمنًا وقد ينفرط عقدها. هكذا ينظرون إلى أقرانهم وشركاء سكنهم. ظروف العمل قد تجبر أحد الشريكين على مغادرة الولاية إلى أخرى بعيدة. في هذه الحال، ينفصل الشريكان لأن الظروف حالت دون استمرار العلاقة. هذه علاقة لا يرعاها الرب ولا تنظمها الكنائس ودور الإفتاء.

إلى هذا ينحو الشباب من الأجيال الجديدة إلى التخلي عن الصفات التي تصنع التمايزات الطبقية. الشبان اليوم لا يخشون التنقل بين أنواع من الأعمال مختلفة. كل الأعمال تملك القيمة نفسها معنويًا. الفارق بين عمل وآخر يتصل بالناتج المتحصّل منه. وبالتالي قد تنشأ صداقة بين مهندس ونادل، وقد يحدث أن ينتج نادل في مقهى أكثر بكثير من مهندس في شركة هندسية. الصفات التي تفرق الناس وتنظّمهم في طبقات ومراتب لم تعد تملك قيمة كبيرة لدى هذه الأجيال. وخلصت دراسة في أوائل الألفية إلى تقرير أن الأميركي العادي يمارس خلال حياته المهنية 12 وظيفة كحد وسطي، ما يعني أن الاختصاص لم يعد أمرًا ممكنًا، هذا إذا كان لا يزال مرغوبًا.

صفة ثالثة تتصف بها الأجيال الجديدة تؤكد أن هؤلاء يتعاملون مع التعليم الجامعي بوصفه إضافة، لا ضرورة. كأن يجيد أحدهم الفرنسية أو البلغارية في بلد لا يمكن استخدام هذه اللغة فيه على نطاق واسع وعام. وتؤكد الدراسة نفسها أن الأجيال الشابة ترى أن الخبرة هي الفيصل في أي تقدّم في الحياة العملية، وأن التعلّم مسألة يجب أن تستمر طوال العمر، ومن دون الإصرار على مقارفتها، يتأخر المرء ولا يعود نافعًا للعمل أو قابلًا للتطور. هذه المسألة عرجت عليها دراسات كثيرة مؤخرًا، وربما كان أكثر من عبر عنها بوضوح هو إيلون ماسك، الذي دعا، في واحدة من تدويناته، الشباب إلى التعلم من الإنترنت والكف عن طلب العلم في الجامعات التي لم تعد تستطيع أن تجاري التقدم السريع في المعلومات والصناعات.

ما ينضح من هذه الدراسة يشير إلى أن الانتماء الذي يوليه الشبان رعايتهم هو انتماء المكان: الواحد منهم ينتمي إلى مناخ محدد ومساحة جغرافية معينة، تتخلّلها صعوبات مدركة ووسائل تعين على تخطيها. وتاليًا فإن الأسود والأبيض والأصفر يعيشون جنبًا إلى جنب في مدينة كبيرة، بوصفهم جميعًا يخضعون للظروف نفسها ويتشاركون الهموم نفسها ويتطلعون إلى مستقبل متشابه. لا فارق بين المقيمين في مدينة، تقع في جنوب كاليفورنيا، يمكن أن يتحدد بواسطة اللون أو التحدر أو الانتماء أو التعليم أو الإمكانات. لكن الفارق يكون جليًّا بين أبناء هذه المدينة وأبناء مدينة أخرى تقع على الساحل الشرقي المثلج والبارد. المكان يفرض هيمنته، لكنها أيضًا ليست هيمنة أبدية، إذ بوسع المرء من هؤلاء أن ينتقل ليقيم في مكان آخر غير الذي يقيم فيه، وسيصبح ما أن يحلّ فيه منتميًا للمكان الجديد، ويتعامل مع مكانه القديم بوصفه جزءًا من الذكريات.

كل هذا يعني أن هذه المدن مفتوحة لكل غريب، وأن أهلها متضامنون على نحو يشبه التضامن الذي كان يبديه الفرنسيون أو البريطانيون لأمتهم. واقع الأمر أن التنوع الكبير بين المدن في هذه القارة الممتدة من المحيط إلى المحيط، يجبر الناس على الانتماء إلى حيث يقيمون. ويجعلهم أقل عدوانية تجاه الأماكن الأخرى التي يقيم فيها غيرهم. ذلك أن كل واحد منهم يعرف أنه يملك الحق الكامل في أن يكون مواطنًا في ولاية أخرى غير التي يعيش فيها، وتاليًا فإن كاليفورنيا لا تنافس أريزونا، مثلما كانت فرنسا تنافس بريطانيا.

ما تقدم يوضح جانبًا من التغيرات الاجتماعية التي تعصف بالولايات المتحدة، والتي في حال سيادتها على الاجتماع وطبقاته، قد تؤدي إلى زعزعة هائلة في معظم الانتماءات التي نعرفها عن ظهر قلب ونظن أنها ما زالت تحرك التاريخ وتؤثر على المستقبل.

أول هذه المتغيرات يتمثل في تحول الانتماء العرقي والوطني والقومي والجنسي إلى شأن خاص، يمكن للمرء اعتناقه في بيته وبين أقرانه. لكنه ليس من المسلمات التي ما زالت تتحكم بالشأن العام.

ثانيها يتمثل في نفي كل ما هو عام عن الحيّز العام ورده إلى الأحياز الخاصة. في المدن الحديثة تكون المرأة، التي يرغب بها رجل، امرأة في حيّزها الخاص، لكنها في الحيّز العام موظفة أو نادلة أو سائقة تاكسي. ويكون الرجل الذي ينزه كلبه مجرد رجل ينزّه كلبه في الحيّز العام، لكنه أب وزوج وجد ومسلم في حيّزه الخاص. هكذا تتحول العلاقة مع من يرتدي الأزياء التي تعبّر عن ثقافة أو انتماء لمذهب أو دين، والتي غالبًا ما تطالع المرء في شوارع هذه المدن، إلى علاقة تجاور أكثر منها علاقة انتماء. ذلك أن الآخرين يدركون جيدًا أن حصتهم في الحيز العام محفوظة، وهي حصة باتوا يستخدمونها بوصفها امتدادًا لأحيازهم الخاصة، كما لو أنها الفناء الخلفي للدار أو الشرفة التي تجمع الخاص والعام داخل حدودها. وهؤلاء لا يملكون زيًا يرغبون بفرضه على الآخرين، بل جلّ ما يرغبون به هو إعلان حقهم في التواجد في المكان العام بصرف النظر عن آرائهم ومواقفهم. الجيل الجديد يعتمد أزياء لا يمكن للمار والعابر أن يميّزها ويصنّفها في صفوف وطبقات؛ ذلك أن ثيابهم تلك ليست مخصصة للقاء الآخر وتطلب انطباعه. إنهم ببساطة يخرجون من شققهم وبيوتهم ليكملوا ما كانوا يفعلونه في تلك الشقق والبيوت. ليس ثمة استعدادات من أي نوع لاستقبال الحيّز العام، ذلك أنه بات بالنسبة لهم امتدادًا لبيوتهم.  

ثالثها يتمثل بأن هذه الأجيال الشابة لا تعتبر الحيّز العام مكانا لتصيد المصادفات على أي نحو من الأنحاء. بمعنى أن الواحد منهم لا يفترض أن ذهابه إلى مقهى أو مطعم قد يجعله يلتقي بفتاة أحلامه. لأن من يبحث عنه ليس شريكه أو نصفه الثاني، فهذا أمر يتم تحضيره مسبقًا في البيوت والشقق ويتوّج باللقاء، الذي غالبًا ما يتحضّر له الواحد منهم له بارتداء عدد من الأقنعة التي تحاول أن تترك انطباعًا محايدًا. مع هذا التحول يصبح الحيز العام أكثر تنوعًا وشخصنة. وأحصن من أن تفرض عليه السلطات العامة زيًّا موحّدًا أو سلوكًا متوقعًا. ويصبح، على نحو ما، مكانًا مؤقتًا لا يمكن استخدامه إلا لمرور عابر أو لرغبة في إعلان. الخطاب الذي يعلنه الناس في الحيّز العام يتحول رويدًا رويدًا إلى ما يشبه اللوحات الإعلانية. هكذا في وسعك أن تتفهّم لماذا لا يداوم هؤلاء على الجلوس في المقاهي ومراقبة الآخرين، على نحو ما حرصت المدن، التي أنشأتها الحداثة، على رعايته طوال الوقت. المقهى قد يكون مكانًا للقاء أصدقاء لا يستطيعون اللقاء في بيوتهم، أو عقد اجتماع لمجموعة موظفين سئموا من عقد الاجتماعات في المكتب، أو إرسال رسالة لزميل عمل يقيم على بعد آلاف الكيلومترات. لكنه لم يعد مكانًا يتيح مراقبة الآخرين الذين، بسبب هذه المراقبة، يجدون أنفسهم ملزمين بالاعتناء بالمظهر الذي يريدون الظهور فيه ليحسن المراقب تقييمهم وتعيين فئاتهم وتحديد طبقاتهم، تلك التي لا يمكن تعريفها إلا في الحيّز العام، بدءا من ملكية السيارة إلى واجهة القصر وسوره، وصولًا إلى الثياب الموقّعة من كبار المصممين.

في الخلاصة: هذا اجتماع مختلف، ومن شأن تجذّره ودوامه في المدن الحديثة أن يغيّر في اجتماع العالم كله، والأرجح أن مدنًا كثيرة في العالم باتت تزدحم بهذه التحولات. لكن ما يميّز المدن الأميركية ويعطيها الزخم الذي يمكّنها من إحداث تغييرات على الاجتماع العالمي، أن الأميركيين لا صفة لهم، فهم ليسوا بيضًا ولا سودًا، ليسوا أوروبيين ولا آسيويين، هم مجرد مهاجرون مقطوعو الجذور، وعليهم أن يتعايشوا في ما بينهم كما لو كانوا في معسكر اعتقال.
  

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.