}

جرائم حرب لا تلحظها الأعراف والقوانين

بلال خبيز 9 أغسطس 2024
آراء جرائم حرب لا تلحظها الأعراف والقوانين
من الزلزال المدمر الذي ضرب تركيا عام 2023 (Getty)
يمكن اعتبار الطبيعة ثاني أخطر أعداء الإنسان، بعد الإنسان نفسه. ضحايا الحروب الكبرى في القرن العشرين، جاوزوا 230 مليونا، وليس ثمة إحصاءات دقيقة لأعداد الذين خسروا حيواتهم في حروب القرن الحالي. لكن أعدادهم هائلة وتنذر بمستقبل أشد قسوة إذا ما نظرنا إلى حجم الضحايا في الحروب المحدودة الرقعة الجغرافية التي شهدها هذا القرن.
الحرب الأهلية في الكونغو قتلت نحو نصف مليون إنسان، ويقدر ضحايا الحرب السورية بمئات الآلاف، ومثل هذه التقديرات تنسحب على حربي العراق وحرب أفغانستان الطويلة والحرب الأهلية في اليمن.
على المقلب الآخر، لا يمكن الاستهانة بأعداد ضحايا الكوارث الطبيعية. في القرن العشرين جاوز عدد ضحايا الكوارث الكبرى العشرة ملايين، من دون أن نحسب حساب ضحايا الكوارث الصغيرة. لكن البشرية تبذل ما أمكنها من جهود لتجنب الخسائر التي تلحقها الطبيعة بها. يتفاوت هذا الجهد بين بلد وآخر، بحسب درجة تقدمه أولًا، وبحسب قدرته على معالجة الأسباب التي قد تساعد في جعل الكوارث الطبيعية أكثر حدة.
ضحايا زلزال تركيا منذ أعوام قليلة كان يمكن أن يكونوا أقل كثيرًا لو أن متعهدي البناء في المحافظة التزموا بمعايير البناء المرعية الأجراء. وضحايا تسونامي في المحيط الهندي عام 2004، كان يمكن أن يكونوا أقل عددا لولا الإسراف في استثمار الشواطئ البحرية والإضرار تاليا بالشعب المرجانية. والأمثلة لا تحصى. لكن الثابت في كل الحالين: الحروب والكوارث الطبيعية، أن الأفقر والأقل تقدما هم من يخسرون حيواتهم أولا. هذا ينطبق على إعصار كاترينا في لويزيانا الأميركية، مثلما ينطبق على ضحايا الحرب الأميركية في أفغانستان. الأفقر هم دائما عرضة لأن تتم التضحية بهم أمام كل كارثة.
خلاصة القول إن حيوات الناس في زوايا العالم وأرجائه ليست متساوية في القيمة. هذا رغم أن شرعة حقوق الإنسان لا تميز بين مواطن في هولندا وآخر في بنغلادش. لكن الوقائع تشير إلى أن من يعيش في بنغلادش يتعرض إلى الأخطار الطبيعية والبشرية أكثر بكثير من الذي يعيش في هولندا. وعلى النحو نفسه، فإن القروي الذي يعيش في بيت طيني في إيران هو أكثر عرضة للموت من الذي يقيم في بناية حديثة في أصفهان، مثلما أن من يعيش في عشوائيات الفقر في نيو أورلينز الأميركية أقل حظا بالنجاة أمام أي كارثة من الذين يعيشون في بيوت مجهزة بكل ما يلزم للوقاية من غضب الطبيعة. في النتيجة التفاوت في المداخيل الذي يتحدث عنه الاقتصاديون لا يختصر كل المشكلة. ثمة أيضا تفاوت في الحماية وتفاوت في احتمال النجاة وتفاوت في الوقاية يسفر عن وجهه الخطير والبشع في كل مكان. المتشردون في شوارع المدن الأميركية، وهم بمئات الآلاف، لا يعيشون في ظروف أفضل من التي سيكون عليها أهل قطاع غزة بعد انتهاء حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل عليهم. واحتمال تعرضهم إلى الأمراض وموتهم نتيجة عوارض صحية يمكن معالجتها أكبر بما لا يقاس من الاحتمالات التي تواجه من لا يعانون من الأحوال نفسها ويقاسون الظروف نفسها أيضا. هذا عدا عن احتمال الموت بردا أو جوعا أو تسمما بسبب تناول أي منهم طعاما فاسدا من حاويات القمامة.




العالم يتضامن، لكن الأزمة التي تتسبب بها سياسات السوق وقوى الإنتاج والجيوش على حد سواء، أكبر من قدرة المتضامن على حل المشكلة، لذا يأسى المرء ولكنه يتغاضى في نهاية الأمر. وهذا مما يجعل قدرة الرأي العام على التأثير أقل كثيرا مما كانت لتكون عليه لو أن الأزمات المحلية المستشرية في كل مكان كانت أقل حدّة مما هي عليه اليوم. الأميركي الناشط في مقارعة السياسات المستخفة بحيوات البشر خارج الحدود، سيجد نفسه مجبرا على التخلي ومجاورة اليأس حين يكتشف كل يوم أن عددا هائلا من سكان مدينته يحتاجون رعاية سريعة، ويبدون متروكين لصروف الطبيعة وقسوتها الهائلة. لن ينجح المواطن المقيم في شيكاغو أن ينصح المواطن المقيم في سورية بأنجع السبل لحل أزمته إذا كان هو نفسه لا يملك أفقا لحل أزمة مدينته التي تعاني من العنف والفقر المدقع في بعض أحيائها وهجرة القانون والشرطة وفرص العمل من تلك الأحياء نحو أحياء أكثر أمانا وأقل خطرا.
يضاف إلى هذا العجز المنتشر في كل بقاع الأرض مسألة أخرى في غاية الأهمية. إذ يدرك المرء وهو يعاين أحوال المستعبدين في الأرض، أن مسألة إنقاذهم من موت سريع أو بطيء، لم تعد تتعلق بتضامنه ورغبته واستعداده للمساعدة. إذ أن ما يعصم هؤلاء من هذا الموت السريع أو البطيء لم يعد يتعلق بتأمين المأكل والمشرب والسقف الذي يأوي فقط. ثمة الرقابة الطبية التي باتت ضرورية والقدرة على تحمل أكلافها. وهذا ما لا يستطيع الأفراد تأمينه بتضامنهم. ويحتاج في مقدمة ما يحتاجه، إلى تكافل وتضامن دولي لتحقيق النجاح في إنجازه.
الطبيعة الراهنة أصبحت أكثر قدرة على إيذاء الإنسان. وأسباب ذلك لا تتصل فقط بالتغييرات التي تطرأ على المحيط الطبيعي للإنسان. بل أولا وفي الأساس، لأن تاريخ البشرية كان وما يزال تاريخ الاحتماء من الطبيعة والابتعاد عنها. منذ الكهوف الأولى وحتى الأبنية المكيفة الهواء، ثمة سعي بشري إلى نزع كل ما هو طبيعي عما يحيط بالإنسان ويلامسه. لقد قام البشر بهندسة أماكن إقامتهم على نحو يطرد كل ما هو طبيعي من أرجائها: تكييف الهواء وبناء الملاجئ التي تقي من البرد والحر، اقتلاع الأعشاب الضارة من البساتين والحدائق، تطعيم الأشجار المثمرة والنباتات لتناسب الذائقة العامة وكثافة الاستهلاك، -وقد بلغنا في هذا المسعى حدا يصعب معه اليوم أن نجد منتجا نباتيا ما زال على طبيعته وطعمه-، الحرص على النظافة والمبالغة في طرد الفضلات من المحيط الذي يسكنه البشر.
هذا كله، إلى مسالك أخرى يعتمدها البشر، ساهم في ضع البشرية كلها أمام محنة استحالة العيش من دون إنتاج صناعي متنوع وعلوم متقدمة. وما أن تنهار الإمكانات المادية لتحقيق هذه الشروط في أي بلد من البلدان، حتى يصبح أمر المحافظة على البشر أصحاء وفاعلين متعذرا. وعليه فإن شرط البقاء لأي أمة أو شعب قيد الفاعلية، محكوم بقدرة الاجتماع على مواصلة الركض المنهك نحو الابتعاد عن الطبيعة ما أمكنه الابتعاد. لهذا كله، لا تختصر جرائم الجيوش والعصابات، في الحروب المتنقلة، على قتل من قتلته الطائرات والمدافع والبنادق. بل إن تهديم المباني يساهم مساهمة لا تخفى في قتل من نجا من سكانها. لهذا ربما يجدر بنا أن نضيف إلى جرائم الحروب، التي تختصر اليوم بقتل الناس وتعذيبهم والاعتداء على المدنيين، جرائم أخرى تتمثل في ضرب البنى التحتية وتهديم المباني ومنع الناس من الحصول على مياه نظيفة وغذاء مأمون ورعاية صحية فاعلة ومتقدمة. 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.