}

اللاّيقين في سرد مابعد الحداثة: إطلالة على نصوصٍ عربية

فدوى العبود فدوى العبود 10 أغسطس 2024
آراء اللاّيقين في سرد مابعد الحداثة: إطلالة على نصوصٍ عربية
(فاتح المدرس)
"الأنبياء والشعراء وحدهم لديهم إحساس متجاوز بالزمن لا يمتلكه سوى قليلٌ من الدارسين"، تعكس هذه العبارة قدرة الفن على التنبؤ بالانعطافات الإنسانيّة الحادة وقابليته للتجدد والتناغم مع الأسئلة التي تتولّد عنها.
وهذا لا يعني ضرورةً أن يأتي الجواب على مقاس السؤال؛ لأن "مسخ" كافكا و"غريب" كامو و"لا منتمي" ويلسون؛ هم من يمثلون عالمنا أفضل تمثيل. فلا أقلّ من عدميّة شوبنهور ويأس كونديرا وجنون نيتشه، لتمثيل هذه الانعطافة القاسيّة التي أتتنا مصحوبة بزوبعة من الانهيارات والميتات.
بالنسبة لنا، وفي هذا الشرق، فقد وجدنا أنفسنا منخرطين في عالم الثقافة الجديدة، والذي لم يدعنا يومًا لنكون مشاركين فيه. لقد وصلتنا ارتداداته كالهزّات التي تعقب زلزالًا فكانت تفوق قوته. إزاء ذلك تحتم علينا أن نُبدي مقاومةً من نوعٍ ما لهذه التغيُّرات، ورغم تعذّر الفهم فإن ما يبدو قابلًا للاستيعاب هو "اللايقين" الذي صبغ هذه النزعة التي تسمى "ما بعد الحداثة".
فهذا المصطلح الذي يُلفظ متبوعًا باللاحقة (ism)، "ينطوي على عدوّه بداخله، لأنّه وفي الوقت الذي يمكنك قول الدادائيّة أو السرياليّة مجردة"، بحسب إيهاب حسن، فإن عبارة "ما بعد الحداثة" تتضمن ماضيها في أعماقها. فتبدو استمراريةً وقفزةً في المجهول في آن.
إنها مبدأ "عدم التأكّد" الذي وصفه هايزنبرج "بالعجز عن معرفة المستقبل لا لتعذّر معرفتنا بالحاضر، وإنّما لعدم استطاعتنا معرفته"، وهي "عالم برهان كورت غير المكتمل"، "جداول" توماس كون، "موضوعات الفن القلِقة" عند هارولد روزنبرج، "شكوك" فولفغانغ آيزر، "إساءة القراءة" عند هارولد بلوم وصولًا إلى "معضلة الزمن غير المسجَّل".
وهي ليست أسلوبًا بل وجهة نظر، وإذا شئتم تحطيمًا لوجهةِ النظر. فالشك والقطيعة والسخريّة وتشظي الحبكة. هدم الجدار بين الواقعي والمتخيل؛ والحقيقة والخرافة، الممكن واللاممكن. وفيها تفقد الحكاية دورها ووظيفتها "وبطلها ومخاطرها وهدفها العظيم. فتتبعثر في سُحُب من عناصر لغويّة وحكائيّة - لكن أيضًا إشاريّة وتقعيديّة ووصفيّة".
تمثل الكثير من الروايات العربية المعاصرة، لحظة التقلقل هذه والخروج عن خطيّة السرد وتسلسل الزمن ومركزيّة المركز.
وتعتبر رواية "حارس سطح العالم" للروائية الكويتية بثينة العيسى، سواء في هندستها ومعمارها الروائي أو حساسيتها الفنيّة، سردًا ما بعد حداثيّ. فبنيتها القائمة على التجاور بين نصوص مختلفة (التحول لكافكا، زوربا لنيكوس كازانتزاكيس، بينوكيو، أليس في بلاد العجائب، قصة مدينتين لتشارلز ديكنز، مقبرة الكتب المنسية لكارلوس زافون)؛ تهدم المعنى المألوف للحكاية باعتبارها كتلة واحدة متراصة متناميّة، يقودها بطل واحد ومن إبداع مؤلف واحد؛ بل نسيج مكون من جزر سرديّة صغيرة. متباينة ومختلفة لكنها تشكل مجتمعة رؤية جديدة وهذا ما يجعل التناص والتقطيع والتوازي في صلب أسلوبيّة النص القائمة على تحطيم معنى وبناء آخر.
إن خروج رقيب الكتب الذي هو مزيج من ونستون سميث بطل رواية جورج أورويل (1984)، وغريغور سامسا بطل كافكا، عن النموذج، هي لحظة السقوط في التأويل وتحوّله لقارئ شغوف. ورغم أن العبارة الافتتاحية تتناص مع عبارة كافكا في رواية "المسخ" لكنها تعمل بالضد منها: "عندما استيقظ رقيب الكتب، تحول إلى قارئ".
إن غريغور سامسا يعكس صورة عالمه وذاته المستسلمة، لكن رقيب الكتب يبدي مقاومة لعالمه الديستوبي وبعكس المهمة الموكلة إليه وهي البقاء على سطح المعنى يسقط في التأويل؛ ليخرق السيستم الذي تتم مراقبته عبر حرّاس اللغة المتشابهين الذين يفكرون بطريقة واحدة. "فالأخ الأكبر تحول إلى شبح في كل مكان، بدءًا من غرف النوم حتى الحمامات، أصبح الآن قبيلة من الأخوة الكبار الذين يطاردون الإنسان وينتهكونه".



ودور الشخصيات المستدعاة من أعمال متعددة، قائم على تقويض المعنى الأصلي وخلق معنى جديد. إن نقل الشخصية من واقع إلى آخر محاولة لقول شيء عبر فاعلية الرموز ولقاء مخيّلة الكاتب بمثيلتها لدى القارئ.
وبالعودة إلى الرواية، وبينما نجد بطل كافكا مستسلمًا، فإن رقيب الكتب يقاوم التنميط الذي يتم عبر مصادرة الخيال واللغة. وتعميم النموذج الموحد تحت ذريعة المساواة "فأن يكون أحدنا أصيلًا معناه أنه يتميز من الآخرين، يختلف عنهم، وتاليًا أن يكون أحدنا أصيلًا فذلك يعني الإخلال بالمساواة".
وعبر المفارقات الساخرة تفكك الرواية عالم الأخ الأكبر، فتلغي المسافة بين الواقعي والمتخيَّل، بين الشخصي والعام، فيطوّع النص بذكاء تقنيات (التناص - الباروديا الساخرة - الكولاج) لنقد عالم ما بعد الحداثة ذاته. وسحب المشروعيّة منه عبر بثّ الشك في الاعتيادي واليومي وما هو مستقر وسلطويّ.
ومن المفارقات أن استسلام غريغور سامسا بطل كافكا في الرواية الأصلية ينتهي بالتخلص منه من قِبَل عائلته. بينما وجوده في النص الجديد كرقيب للكتب يتمرد على السيستم. ليس اعتباطيًّا؛ بحيث تعمل الشخصيات المستدعاة من نصوص كلاسيكية ومعاصرة معًا لتشكل حالة من الرفض والنقد والتشكيك. بعد أن كان بعضها في عالمه الأساسي يؤدي دلالة مغايرة. وهنا تُلغى المسافة بين الخيال والواقع والمتوهم والحقيقي؛ فلا يمكن معرفة أين يبدأ الخيال وأين ينتهي. وحين يلتقي رقيب الكتب مع زوربا يسأله: "قل لي يا زوربا، أيّنا حقيقي وأيّنا متخيّل؟". يمكن قراءة "حارس سطح العالم" بكونها تأويلًا جديدًا للشخصيات الروائية واختبارها عبر وضعها في عالم ديستوبي لمراقبة ردود فعلها واستخلاص الشكوك حول العالم ذاته.
ويتمثل اللايقين في "حصان نيتشه" للكاتب المغربي عبد الفتاح كيليطو عبر زحزحة العلاقة بين المتون والهوامش، ونزع المصداقية عن التاريخ، وتعمل الشذرات والاستعادات والنصوص التراثيّة مجتمعة لتقويض (مركز الحكاية، التاريخ والمكتوب) عبر استدعاء الغائب أو المغيب أو المهمش الذي نُحي ليعود إلى بؤرة الضوء لاستنطاقه.
وفي مقطع بعنوان "المسرح الآخر" فإن مدينة آدوم تطرد المشرّدين والمتسوّلين ثم "يجتمع سكانها فوق الأسوار لمعاينة مشاهد الاغتصاب والفظاعة التي تدور تحتهم في الظلام". يتساءل كيليطو: فلماذا يتم الطرد أساسًا إن لم يكن للاستمتاع بالفظاعات!




وفي حكاية (زوجة ر) التي يتبين أنها لا تقل أهمية عن المسعودي وهيرودوتس في سردها للمعيش حيث تتكشف الطبقة المتخفيّة للهامشي والشفاهي، عبر التقاطع بين الحكايات الكبرى والصغرى، في هذه الكتابة التي تقوم على الشك وخلخلة البناء عبر خيال حر ولعبيّ؛ وعبر إشراك القارئ من خلال التلميحات والشكوك والتساؤلات لإحداث هذه الفوضى والتبادلات بين المركز والأطراف، أو بتعبير كيليطو أن تكون العلاقة الجديدة بين الإنسان وتاريخه علاقة معكوسة، أي "التحكم بالماضي لا أن يتحكم هو فينا".
وفي "رسالة الغفران" لأبي العلاء المعري فإن حادثة هامشية كحادثة الفستق لا تقل أهمية عن مؤلفه "رسالة الغفران". وهو إذ يجازف ويهدم المعنى لا يعطي تفسيرًا نهائيًّا، بل تتضعضع المركزية دون أن تلغى، فتصبح حكاية الفستق، وجنون الشك، ومنامات أبي المعري في كتاب "المعري: متاهات القول" بأهمية "رسالة الغفران". ويمكن التعرف إلى أبي العلاء من خلال وساوسه ورقابته على هواجسه وقراءته من جديد بعيدًا عن أعماله المعروفة وبما أنه "لا يمكن تدمير الماضي واقعيًا؛ لأنّ تدميره يفضي إلى الصمت والفراغ، فيجب أن يُستزار ولكن بشيء من السخرية".
إن إزاحة المعنى وتهديمه هو سمة عامة وملمح بارز في نصوصه ولكن كيليطو يترك الباب مواربًا لتعددية القراءات ولانفتاحها، ويصير النص قابلًا للتناسخ والتحقّق والولادات الكثيرة، فيشعر القارئ بكونه معنيًا أولًا وآخرًا في إنتاج النص وفي تأويله وقدرته على إنتاج الدلالة.
هذا ويمتد اللايقين ليطاول الحبكة والعلاقة التي تربط المؤلف بنصه ويبرز هذا بوضوح في رواية "وراق الحب" للروائي السوري خليل صويلح، فالمؤلف الذي يحركه الشك في التراث المعطوب مشبّهًا قراءة أعمال الماضي "بأشياء يفعلها المرء مرة واحدة في حياته مثل لقاح شلل الأطفال أو السل"، يزج بنفسه في عمله ويمحو الحدود بينه وبين الراوي وبينما يبني الأخير فالأول يهدم.
ومثل جدول يتطابق الواقع والخيال ثم لا يلبثان أن ينفصلا. ويتعمّد المؤلف هدم ما يبنيه الراوي مرة وتكذيبه مرة أخرى. ما يجعل من الصعب على القارئ أن يضع الحقائق في جهة والتخيلات في جهة أخرى. فكلما اعتقدنا أننا أمام مدخل نقضَه وبدأ من جديد.
وبينما يتوهم القارئ أنه أمام سيرة ذاتية، ينفصل المؤلف عن الراوي ويغمز لقارئه حول الحماقات التي ينطق بها بطله "وأنا أتخفى بدور الراوي"؛ ما يجعلنا، بتعبير ليندا هتشيون، أمام "رواية عن الرواية، أي الرواية التي تتضمن تعليقًا على سردها وهويتها". يبرز فيها المؤلف بخلاف ما يحدث في السرد التقليدي. بل يلفت نظرنا أننا أمام نص يُصنع للتو لحظة التلقي، كما ينفي عما يسرده أي حقيقة، ويدخل في ندية مع الراوي الذي يبدو تائهًا وعاجزًا عن بناء حدث مكتمل.



إن تقويض الشكل الكتابي والجمع بين معانٍ متنافرة أو متباعدة لتبديد معنى ما ومحوه تعكس روح اللايقين الذي تتسم به هذه الأعمال. حيث الأسبقية للفوضى على النظام والمتغير على الثابت؛ في أسلوب أقرب للعب، تستنفر فيه النصوص مكوناتها من شخصيات وزمن ومعرفة وشذرات وتأويلات. للدخول في مواجهة مستمرة ومفتوحة مع الحقيقة بكل أشكالها: الميتافيزيقية والوجوديّة والمعرفيّة والسلطويّة؛ باستخدام السخرية وإخفاء الحدود بين الواقعي والخيالي، وخلخلة المكتوب.
إن بنية اللايقين في الكتابة، تفترض علاقة مختلفة بالقارئ، وبعيدًا عن نظريات "موت المؤلف" أو الموت بكل أشكاله عند رولان بارت وغيره، فإن هذه البنية تفترض علاقة جدلية تحول القارئ في هذا النوع من الكتابة من مروي عليه إلى مروي له. "والفارق كبير بين الاثنين"، من مفعول فيه إلى مفعول لأجله.
حيث يستدعي المعنى الأول للذهن مفردات السلطة، سطوة المؤلف أو المكتوب، والانبهار والقداسة والحقيقة. وبخلاف ذلك يفترض السرد اللايقيني شراكة قارئه، بسبب بنيته القلقة.
إن ما بينهما ليس عقدًا بل حوار. وشراكتهما ضرورية لسدّ الفراغات الناقصة والفجوات المتروكة عمدًا. ولتشكيل المعنى الذي يأتي من لقاء مخيلتين. وفي الكتابة الجديدة يتجه المؤلف لقارئه ويزيل الحدود معه، فيحاوره ويحدثه، ويصارحه. إنه يخشى ردّ فعله وقلق إزاء حريته لكنه لا يصادرها بل يترك الباب مواربًا للتأويل.




إن السؤال الذي طرحه إيغلتون، عما إذا كان هذا النزوع للايقيني في رواية "ما بعد الحداثة" برغم ما قدمته، "هدم دون مشروع"، بسبب تضحيتها بمفهوم الحقيقة والذي سيساهم في نموِّ الأشكال المتطرفّة في الرواية الجديدة، سؤالٌ مشروع؛ لكن مبالغ فيه.
وهذا لا ينفي وجود بعض التوجّهات في الرواية المعاصرة والعربية تنطبق عليها هذه النزعة التدميرية ("استخدام الحياة" لأحمد ناجي، "عشيقات النذل" لكمال الرياحي، "أخبار الرازي" لأيمن الدبوسي)، وقد تفردت هذه الأعمال واتسمت بجماليات ما بعد الحداثة وتميزت بفرادة طرحها لكن ميلها المبالغ فيه للهدم ينتهي للنقيض.
إن السؤال كيف نقيم في هذا الما بعد؟ يتوقف على إدراكنا للشك والذي قد يتحول إلى شجرة مثمرة أو نارًا تحرق ولا تضيء! حينها هل يتوجب علينا أن نأخذ مخاوف إيغلتون بعين الاعتبار أم أن الوقت مبكر على ذلك؟

* كاتبة سورية.

إحالات: 
- بثينة العيسى، حارس سطح العالم، منشورات تكوين، 2019.
- عبد الفتاح، كيليطو، حصان نيتشه. ترجمة: عبد الكبير الشرقاوي، دار توبقال للنشر، 2005.
- نتالي ساروت، عصر الشك. ترجمة: فتحي العشري. المشروع القومي للترجمة.
- عز الدين بوركة، أدب ما بعد الحداثة لا تهمه الحقيقة وجماليات الشكل والعمق- العرب. 2022.
- إيهاب، حسن، تحولات الخطاب النقدي لمابعد الحداثة، ت: السيد إمام، العراق، دار شهريار.
- جان، فرانسوا ليوتار، الوضع مابعد الحداثي، تقرير عن المعرفة، ترجمة: احمد حسان. 1994القاهرة، دار شرقيات للنشر والتوزيع.
- تيري إيغلتون، أوهام ما بعد الحداثة، ت: منى سلام، مركز اللغات والترجمة- أكاديمية الفنون، 1996.
- خليل صويلح، وراق الحب، دار نينوى، 2008.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.