}

لجينة نبهان: في الهرب عبر الأبواب الخلفية

فدوى العبود فدوى العبود 21 أغسطس 2024

 

في رواية "ساعي بريد نيرودا" يسأل ماريو خيمنيث الشاعر: "هل تعتقد أن العالم كله، بما في ذلك الرياح، البحار، الأشجار، الجبال، النار، الحيوانات، البيوت، الصحاري والأمطار، هل تعتقد حضرتك أن العالم كله هو استعارة لشيء آخر؟".

لا إغراءَ يفوقُ تأويل عبارةٍ كهذه أو تخيّل ما ترمي إليه، بحيث تصبح الطبيعة بكل ما فيها مجرد علامات أو أحرف يتشكل منها معنى أكبر، هو الله عند المؤمن، والمادة لدى الطبيعي. والروح عند المثالي والقصيدة في نظر الشاعر.

وفي رحاب هذا الأخير يحطّ المعنى، وتصبح اللغة جزءًا من جزء والأخير جزء من جزء آخر... إلى أن تكرّ السلسلة ما يضع جدارتها- أي اللغة- موضع شك، ليس لعلّة في الواقع ولا لاتساع الهوّة بينها وبينه؛ بل لنقص في طبيعة الأشياء، وطموح في الخيال تقصر عنه الكلمات؛ ما جعل شاتوبريان يقول بهلع: إذا لم نسجّل في المساء أحداث الصباح لن يكون لنا وقت لتدارك ما فاتنا. فثمّة حدودٌ رهيفة بين الأيروسيّ والمتهتّك، بين الصمت والبلاهة. الحب والحرب. بين المثالي والعادي، الحسيّ والروحيّ.

وهذه المسافة تكاد تنعدم في "الحرب خدعة بصرية، 2018" (نثرًا) و"حرائق خضراء، 2021" (شعرًا). وفيهما تسجّل الكاتبة السورية لجينة نبهان رحلة الكلمة من الثقل نحو الخفّة، ومن الخدوش الغائرة والحواف الحادّة للعبارة إلى اليومي والعادي والحميم.

ومن خلال تتبُّع تجربتها الشعرية، يمكن القول بثقة إنّ هذه التجربة شهدت تحوّلًا في اللُّغة والصورة وبناء العبارة وقد أسهمت كثافة اليوميّ وثقل الحرب فيه.

وبينما كانت اللغة تدور في نطاق قيم الوجود المتقابلة (الحرب، الجسد، الروح، الشعري، التقريري. والواقعي، الخيالي. بين المتوهم وما حدث، التفاصيل غير المهمة، والقضايا الكبرى). بحيث تكشف واحدتها عن أختها أو تنقضها. ضمن هاجس يلح على الذات وهو اختراع طريقة للهرب من العنف الذي تسببت الحرب في تفاقمه:

لست وفيّةً لهذه الحرب تمامًا
في رأسي الكثير من الأبواب الخلفيّة المخصصة للطوارئ...

فانتقال الشعر من العام إلى الخاص، تحركه الحرية هاجسًا مُلحًّا على الذات الأسيرة بين عنف اليومي وتوق الشخصيّ؛ فالشاعرة تعترف بقدرة البلاغة كمخرج من هذا القفص. وهو المخرج الآمن لتتناسى وجه الحقيقة المرّ.

حين تعلن الحرب عن ذاتها بكل أنواع التوكيد
الثقيلة والخفيفة!
يكون على البلاغة البحث عن مخرج مناسب
لشذوذ الأحرف أو ملاذ آمن...
للانتماء.

يقترح علينا النص بناء صورة جديدة للأنا، صورة متحرّرة من الخوف تمزق الشرنقة التي تركها السائد وتتخفف من أعباء السائد، لتهون على نفسها شعور الذنب الذي يعقب ما تقترفه الرغبة والأخيرة هي فينا ومنا، لكن إنكارها حوّلها إلى خطيئة.

حين تدور حول كعبتك
لا تحمل كل خطاياك
فبعض آثامك مباركة...

يميل النثر في "الحرب خدعة بصرية" إلى الصورة في بعدها عن طزاجة الحياة، ولذلك مبررات فهي تترك الباب – باب الواقع- مواربًا خلف المجاز والاستعارة والتراكيب. فينأى المعنى ويحتجب خلف صورة يبتكرها العقل المُنكر والهارب والروح المتوتّرة:

لا شيء يبقى سوى الصهيل
وبضع ذرات من غبار العبور.

الصهيل والغبار والمحارة كنايات عن كنايات، هي على جمالها تكاد تكون كنبتات الزينة وفي تركيبها أقرب لضربات سريعة خائفة من التفتح. ومن هذه القيم تشكل الفضاء اللغويّ لهذه التجربة التي تريد أن تجعل من البحر استعارة ومن ملحه كناية ومن مدّه وجزره قدَر.

تلك المحارة الملقاة على كتف الحزن
فقدت لؤلؤتها
ذرفها البحر هكذا
في مقامرة عابرة
وعاد ليلهو بملحه

وهي إذ لا تمسّ بتوترها روح قارئها لكن ذهنه وحسب، تبدو وكأنها محاولة للتحرّر من السلاسل التي كبلت لغتها في مواقع كثيرة. ومع أن السلاسل لها رنين لكنها تثقل الحركة وقد تتحرك بثقل في مخيلة القارئ.

لكن ذلك كله يتغيّر مع التقدّم في القراءة، وفي الجزء الثاني من كتاب النثر ترجح كفّة اليومي والحسي. وتصبح الحرب واقعًا يمكن مواجهته بدل استبداله بالمجاز:

فكرت أكثر من مرة في اصطياد رصاصة طائشة
أحتفظ بها في صدري
أو ربما أضمها بين أحشائي.

إن سؤال الشعر هو سؤال الواقع، سؤال الذات، والواقع وقد انكشف عنه الغطاء، والحرب وقد جمعت المتناقضات فلا سبيل للتحليق بجناح واحد في اللغة (جناح الصورة):

قبل هذا اليوم تساءلت كثيرًا:
كيف للحب والكره أن يكونا توأمين في ذات الرحم!
اليوم توقفت عن السؤال.

فالشاعرة إذ تنتقل من الإيمان بإمكانية الهرب إلى مواجهة عدم الواقع ومأساويته، تدرك أن أبواب الطوارئ التي تتيحها اللغة ليست حلًا بل مجرد تخدير بلاغيّ لا يغني عن مواجهة موت المعنى:

قُضي الأمر
الغيمة صارت مزنًا
الريح شمالية جدًا
أصيب الحبُّ بفوبيا الوقت.
عقلي منشغل برتق الشرخ اليومي المنبعث من نشرات الأخبار المرئية جدًا
أما روحي
فتمارس عادتها العلنيّة
للنجاة
في الهروب صعودًا
عند كل حديثٍ عن مجزرة
و
أول الآلهة لم تكن بهذه السادية
أظن مزاج الإله تغيّر
منذ جعلوا الإله
وحيدًا...

إن هذه المراوحة بين الصورة الثقيلة والعبارة الرّشيقة، تتبدل في مجموعتها الشعرية التالية "حرائق خضراء" التي صدرت بعد ثلاث سنوات (لصالح الثانية). فالجملة الخافتة والمهموس الذي يتجاوز حدود الصمت دون أن يحجب حضوره الواقع. العبارة الطويلة، والمفردة التي تساقطت عنها قشور البلاغة. لتظهر في حيويتها وتلقائيتها:

الصراخ ليس الألم
بل هو الزائد عنه
ومع مرور الهزيمة لن تجد بدًّا من التحول إلى كائنات أكثر ذاتيّة
كآلية أخيرة
للدفاع...

تدرك الشاعرة عجز اللغة عن إيصال المعنى، لذلك تعمد إلى جماليات الاستطراد والشرح


والعبارة إذ تتخفف من ثقل المجاز وحمولته الزائدة لجهة التفاصيل الصغيرة والنَفس السردي الحكائي، تغدو أكثر خفّة، تميل لواقعيّة الملموس ويبدو الشعر وكأنه يعبر من السماوي للأرضي:  

لم يحذرني أبي من الحب
أذكر، قال لي
لا تعبري الشارع حين تمرُّ السيارات!
ولأنّ أبي يثق بي
لم أعبره فعلًا
وهكذا...
بقيت الحياة على الرصيف الآخر!

فالذات أصبحت أكثر وعيًا بحضورها، لا كقيمة روحيّة بل في علاقتها بهذا الجسد. والحبُّ في تساميه تحوّل من صورةٍ متخيّلة للمحبوب إلى اليومي والحسيّ:

في الحب لا أحاول أن أحبك بطريقة مختلفة
أتعمد فقد ذاكرتي فقط
ويتكفّل الحب بالباقي
لا نقول أشياء كثيرة عن الحب
بل، نقوله هو بعينه
نفكك حروفه
ونعيد تركيبها كلغز
يسعدنا ألاّ يمنحنا سرّه
من المحاولة الأولى
ولا حتى الألف!

فالصورة لم تعد تكتم المعنى أو تحيط به كحجاب، والاستعارة لم تعد مجرّد تلاعب بأماكن الأشياء ومواضعها والصورة تخففت من المثالي:

لا أحبُّ حكايات ما قبل النُّوم
أفضّل عدّ الخراف
كبديلٍ أقلَّ ضررًا
ولمزيد من الانغماس في الأمر
لا بأس أن أسمع ثغاءها.
لا تحكي لي حكاية قبل النوم
لا أريد لشيء أن يتسلل إلى نومي...

لم يعد رسم العالم بالكلمات مهمة الشعر هنا، بل تتتبّع الكلمات أثر اليومي وتميل للانفتاح على الحسيّ وتمثّلاته من السمع والنظر والشم واللمس:

ما زالت رائحة النعناع تفوحُ في خاطري
كلّما فركت الهواء بأصابعي.

يتحوّل البحث عن الذات الذي وَسَم تجربتها الأولى، إلى وعي بهذه الذات مرتبطة بالجسد، منتهكة من الآخرين، وبدلًا من الاحتماء بالصورة التي تخفي الواقع تواجه أسباب عطبه وخلله الكامن في قلبه:

مذْ ألبسوني عقلهم
صرتُ نصف حيّة
أعرجُ بالحياة
وحين قالوا:
ناقصة عقل ودين!
هجوتهم بعقل ودين
رميتُ الناقص من نقصي في زعمهم
ومضيتُ أبحث عن إلهٍ
لا ينفيني.

لتصل إلى إدراك الخلل: إنّه الفجوة التي حدثت بين صورة وواقع، بين جسد وروح، وبهذا يعود ويلتئم الفراغ الكامن بين الاستعارة والعالم بالتئام العلاقة بين الجسد والروح:

حين يغيب الجسد
تنسحب الذات إلى جهةٍ مجهولةٍ
وتهوي الروح إلى أرض لا تُرى!

إن هذا الانقلاب على لغتها الأولى وتجاربها المبكرة، لجهة المعنى الجديد راح يتشكل في علاقته بالملموس. والرغبة التي تعبر عن نفسها وتعي سجنها:

هناك من يعبث بحديقتي
يقطع أشجار رغبتي
أعرفه...
أعرفه جيدًا
وأخاف أن أسميّه.

تدرك الشاعرة عجز اللغة عن إيصال المعنى، لذلك تعمد إلى جماليات الاستطراد والشرح، في عبارات تتجه لقارئها المفترض، من قبيل (كيف سأشرحها، أو لأفسر لك، أو لأوضح ما أقول)، ما يضفي حميميّة تصل بين القارئ والعبارة التي تحترم لحظة إخفاق المخيلة عن مجاراة الكلمات:

حين سكبت عقلك في تلافيفي
أصبحت أكثر كثافة، ربما
أو!!
كيف سأشرحها؟!
أصبحت أكثر شبهًا بك
وأقلّ اقترابًا مني...

تنتقل تجربة الشاعرة السورية لجينة نبهان من المألوف (اغتراب الذات ومخاوفها وتوقها) حيث الاستعارة والصورة والبلاغة، إلى مناطق قصيّة تقشر عن الرغبة خوفها، وعن الحب مثاليته، وعن الكلمات نرجسيّتها. ولا تتورع في خطوتها الثانية عن المغامرة بالدخول إلى ما تبقى من فتات الذات حيث تصبح هذه اللقى على بساطتها أكثر جذريـّة. وربما ينطبق على هذه التجربة وصف لوسركل "فبعد خط الحدود ليس هناك معالم ولا توجيهات ولا استعارات بنيويّة –كالشجرة مثلا- يمكن إسقاطها على فوضى الظواهر. فنحن هنا لسنا في عالم مجهول- إننا نعرف أين نحن، وبما أن هذه لغتنا، فالمشهد مألوف لدينا - بل في وسط عالم لا يمكن التنبؤ بما فيه- ونحن لن نعرف أبدًا ماذا سنجد فيما يلي: فهناك لقاءات المصادفة، وهناك صداقات تقام أو تتجدّد، وهناك تحالفات مشبوهة، وهناك مشاهد مرعبة لكنها ممتعة".


إحالات:

- أنطونيو سكارميتا، ساعي بريد نيرودا، ترجمة: صالح علماني.
- لجينة نبهان، الحرب خدعة بصرية. دمشق، دار بعل، 2018.
- لجينة نبهان، حرائق خضراء، دمشق، دار سويد، 2021.
- جاك لوكرسل، عنف اللغة. ترجمة: محمد بدوي، بيروت، المنظمة العربية للترجمة.

(*) لجينة نبهان: شاعرة سورية، لها أيضًا: لست سوى بعضي، 2014. ليس كل هذا الحريق، 2016.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.