}

عن رصد مشاركة المرأة الفلسطينية في المقاومة

عمر شبانة 12 أغسطس 2024

في الأدب الفلسطينيّ الجديد، وأدب السجون، بصورة خاصة، يختلط السجن بالمقاومة، والمقاومة بالمجتمع، وتتدخّل الجامعة والمدرسة، فنجد أنفسنا أمام مجتمع "غير طبيعي"، مجتمع تحت الاحتلال، من جهة، وتحت سلطة حاكمة هي صنيعة هذا الاحتلال وخادمته، من جهة أخرى. مقاومة هي سلطة، وسلطة ضد المقاومة، وهما تتصارعان على السلطة. فأين يقف الأدب منهما؟ أين يقف الأديب والمثقّف من كليهما؟ معادلة صعبة. القلّة يتخذون موقفًا حاسمًا، هنا أو هناك. الغالبية مواقف وسطية أو محايدة، أو تدعو إلى المصالحة! مصالحة مَن مع مَن؟!
تظلّ الكتابات الصادرة من معتقلين في سجون الاحتلال الصهيوني من الظواهر اللافتة في أدبنا الفلسطينيّ، كتابات تتحدّى القضبان والزنازين، وهي غالبًا ما تنصبّ على حياة السجن والأسرى والجلّادين. لكننا نُفاجأ أحيانًا بكتابات أسرى يكتبون عن المجتمع والمقاومة خارج السجون. عن صور المقاومة والانتفاضات، الأولى والثانية والثالثة، يسمّيها الكاتب الأسير عبد الله البرغوثي (انتفاضة حرائر الأقصى/ القدس)، نقرأ عن المجتمع المقدسيّ بتقسيماته الطبقية والدينية، من خلال شخصيّات حيّة كما في رواية "المهندسة ملاك الرحمة"، التي تتناول شخصية فتاة إسلامية لا نعرف انتماءها إلّا في أواخر الرواية، لكنها منذ البداية ترغب في المساهمة بدور في مقاومة الاحتلال. هذه وقفة مع ملامح من الرواية...
قبل ذلك، ربّما ليس مطلوبًا من الأسرى أن يحترفوا الكتابة عمومًا، والأدب خصوصًا، في ظلّ ظروف السجون والزنازين والتعذيب وغيرها، مع أن هذا حدث مع بعض الأسرى. وهكذا فالأسير البرغوثي ليس محترفَ أدب وكتابة. فهو يصف نفسه بأنه "مهندس مقاوِم حكمَ الصهاينة عليه بسبعة وستين مؤبّدًا، وخمسة آلاف ومئتي عام، وهو أعلى حكم ضدّ أسير في تاريخ القضية الفلسطينية، قضية صراع الحق الفلسطينيّ ضد الباطل الصهيونيّ". وهو يقدم لروايته بتمهيد نظريّ يميّز فيه بين نوعين من الكتّاب؛ أوّلهما "الكاتب الحرّ المقاوم... الذي يشذّب ويهذّب عواصف العواطف الحيّة الحرّة، لكي يقوّيها وينقّيها ويوجّهها نحو طريق الحرية والمقاومة... وصولًا إلى الانتصار. فالأبيض عند صاحب القلم الحرّ أبيض، والأسوَدُ عنده أسود...".




أمّا النوع الثاني من الكُتّاب ــ بحسب البرغوثي ــ فهو "الكاتب العبد المهادن... هو كاتب السلطان والسلطة والحاكم. هو ذلك المنافق الذي يشتت ويفتت عواصف العواطف الحية والحرّة لكي يدنّسها ويعبث بها... موجّهًا إيّاها نحو طريق الذلّ والخنوع والهزيمة والاستسلام... فالأبيض عند صاحب هذا القلم العبد المنافق أسود، والأسود عنده أبيض. وكلاهما رماديّ اللون والطعم...". هذا شيء من فهم البرغوثي ووعيه ورؤيته لما يجري في المشهد الأدبيّ والفكري ــ السياسيّ في الساحة الثقافية العربية عمومًا، والفلسطينيّة خصوصًا، وهو أمر يمكن أن نلاحظه بسهولة أيضًا!

الدكتورة ملاك
رغم بعض العثرات والثغرات الفنية، فقد تمكن البرغوثي، كبعض الأسرى، مثل باسم خندقجي، ووليد دقة، من دخول عالم الأدب بهذه القصة ــ الرواية، وعبر رصد جوانب من حياة المجتمع بين المقاومة والاحتلال. وممّا يميّز روايته هذه تخصيص دور البطولة للمرأة وللنساء، فلا وجود للرجل (الذكر) إلا في الهامش، بدءًا من أم الدكتورة ملاك، الأم التي تشجّع ابنتها، وتوفّر الظروف الملائمة كي تنهض بحلمها المتمثل في تحقيق حلم حياتها بدراسة الطبّ، قبل أن يتحوّل الحلم إلى دراسة الهندسة كما سنرى لاحقًا. ففي البداية، نتعرف على محيط أسرة ملاك، حيث وفّرت لها الأمّ غرفة هي مكتبة وشبه عيادة. ونتابع اهتمام ملاك واطلاعها على مكتبة شقيقها مالك، بما فيها من روايات وكتب سياسية.. تدرس الطبّ، لكنها تعشق الكتابة، وتشعر بأن قلمها "غدا سكّينًا تطعن المحتلّ الصهيوني والمنحلّ الأوسلوي، الأول احتل البلاد، والآخر عاث بها فسادًا".
وقبل وصولها شهادة الطبّ، بدأت تعلن وتكرر رغبتها في أن تصبح مهندسة لا طبيبة "أريد أن أصبح مهندسة للعمليّات الجهاديّة لا طبيبة للعمليات، لتذكّر بالمهندس يحيى عيّاش، وغيره، فتلجأ إلى شقيق صديقتها المهندس، طالبةً المساعدة في التدريب على صنع المتفجرات، وتفجيرها. وتحلم أن تكون مهندسة عمليات جهادية لا مجرد مداوية للجراح.. فالمهندسة يمكنها القيام بصناعة العبوات والأحزمة الناسفة.. والقيام بهندسة عمليات جهادية واستشهادية. وتظلّ تتذكّر المهندس يحيى عياش... الذي تخصص له الرواية صفحات ومشاهد طويلة، في مقاومة سلطات الاحتلال، وسلطة أوسلو، والروابي، والفساد، والأبراج، والقروض للسكن والسيارات. وكما رأينا نوعين من المثقفين والكتاب، المقاوم والعبد المتخاذل، يعرض الكاتب نوعين من المهندسين "مهندس مقاوم، وآخر متخاذل...". مع ملاحظة التركيز على المقاومة المسلّحة، واعتبار أن دور الطبيب أقلّ أهميّة! لكن المهندس نبيل شقيق صديقتها بيسان، يعتذر عن مساعدتها، لكونه مجرد مهندس برمجيّات، ولا يمكنه القيام بما قام به عيّاش.
ومن نساء الرواية، ذوات الشخصية المتميزة، نتابع أثناء إقامة ملاك في عمّان عند الجدة أم عامر، التي تعيش وحدها في بيت كبير، ولكن قريبًا من فيلّات ومنازل أبنائها عامر وعدنان وعماد... رافضة العيش معهم، مفضّلة العيش وحدها مع خادماتها. وهنا يحضر وصف المجتمع المقدسيّ المتديّن، من الأعمام وأبنائهم وبناتهم. بينما الأخوال والخالات وأبناؤهم من المنفتحين على أسلوب الحياة الغربية (الأميركية المفكّكة) بحسب الرواية. وهنا تحضر مجددًا القدس وانتفاضة النساء الثالثة، والرباط في مصاطب الأقصى، لإبراز دور المرأة ومشاركتها في المقاومة. ولعلّ رواية البرعوثي هذه من بين روايات فلسطينية عدة، وربما قليلة، انتبهت إلى دور المرأة، بعد روايات غسان كنفاني، وخصوصًا "أمّ سعد"، التي يراها بعضهم قصة طويلة، ونتذكر روايات محمود شقير المتعلقة بـ"نساء العائلة"، وكذلك روايات الكاتبة الراحلة ليلى الأطرش عمومًا، وروايتها الأخيرة "ترانيم الغواية"، بصورة خاصة، لأنها تُعنى بنساء القدس، وبيت لحم، وأدوارهنّ المتعددة اجتماعيًّا وثقافيًّا وسياسيًّا.
وتتنقّل الرواية بين مقابر أرقام الأموات للشهداء، ومقابر أرقام الأحياء للأسرى، حتى يجري اعتقال ملاك في الجسر وهي عائدة من الأردن، والتحقيق معها بخصوص علاقتها بالإخوان المسلمين، فيكبر حلمها بالتحوّل إلى مهندسة تفجيرات، حتى تجد المساعدة من إحدى الأخوات في السجن، وسرعان ما تتلقى التدريب من زوج هذه الرفيقة.. وتجمع حولها الأخوات، وتطلق ما تسمّيه "كتيبة عواصف الجثامين"، (كتيبة نسائية) ستقوم بعمليات تقودها ملاك "مهندسة المقاومة الباسلة" و"الإرهابية القاتلة".. عمليات موجّهة لإثارة ملف "الجثامين المختطفة.. وبالتدريج نتعرف على ألقاب نساء المقاومة الإسلاميّات "أم الياسين، و"أم القسّام"، و"أم السرايا"، و"أم الألوية"... "أمهات فلسطين"... إلخ، فنتذكر أن السرد كلّه يجري على ألسنة النساء "المجاهدات".




يلجأ الكاتب إلى حِيل سردية، فنرى ملاك الطبيبة وقد حصلت على عيادة فخمة من والدها، وسيارة فاخرة من جدّتها، فتستغل هذا البذخ ليكون ستارًا تخفي وراءه نشاطاتها التي تخطط لها بدقة وسرّية، تجمع الأدوات اللازمة، وبعد عدد من عمليات التفجير التي تبدأ في صفد، ثم في القدس ورام الله، سرعان ما تغدو الطبيبة المهندسة ملاحقة ومطاردة ومضطرة للتخفّي، من دون أن تفقد الاتصال مع أخواتها في المقاومة. وبقدر من التشويق يبتكر الكاتب مواقف ووقائع تقود إلى مواجهة أخيرة بين ملاك وأخواتها وبين قوات الاحتلال، تنتهي باستشهاد ملاك واثنتين أخريين من المجموعة.
هل نحن أمام "أدب إسلامي" محض؟ أم أدب المقاومة الإسلامية؟ أم أن العمل "خليط" من أدب السجون وأدب المقاومة بطابع وطني إسلامي؟
لست في صدد الإجابة على هذا السؤال، لكن رغم شيوع الخطابية والشعارات الإسلامية في الرواية، ومصطلحات مثل "حرائر فلسطين"، و"العمل الجهادي الاستشهادي"، و"الاستشهاديّات"، يمكن القول إننا حيال شكل جديد من الكتابة الأدبية، الوطنية الدينية المطبوعة بالنسوية، لكنها صورة من صور الأدب المقاوِم، بصرف النظر عن انتمائه الفكريّ/ السياسي والعقَديّ. وليس علينا الالتفات هنا إلى المستوى الفني للكتابة، كما ليس علينا تجاهل هذا الجانب، وعلى النقد أن يقدم قراءات معمّقة لهذا الأدب، وخصوصيّته وسماته، بعيدًا عن المحاكمات الدينية والأخلاقية.
وأخيرًا، فثمّة رسائل عدة أراد الكاتب تسريبها في روايته، أبرزها رسالتان:
ــ رسالة أولى تعبر عن تداخل الوطني بالديني تعلن أن الهدف المرحليّ للمقاومة وطنيّ يتمثّل في تحرير فلسطين، والهدف الثاني والأهمّ هو إقامة شرع الله فيها...
ــ رسالة ثانية تقارب أفكار النسوية، وتتمثل في الرد على مقولة "وراء كل رجل عظيم امرأة..." بمقولة مناقضة هي "أمام كل رجل عظيم امرأة أعظم وأسمى".

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.