}

"حياة الماعز": الحبّ في مواجهة العبوديّة والعنف

عمر شبانة 2 سبتمبر 2024
آراء "حياة الماعز": الحبّ في مواجهة العبوديّة والعنف
من فيلم "حياة الماعز"

خروجًا على نمط الفيلم الهنديّ الشائع والمألوف، بالعواطف المبذولة، أو سينما الميلودراما المبتذلة، يأتي الفيلم الهندي "حياة الماعز" (2024)، نوعًا جديدًا من الأفلام، فيلم مرعب ومهمّ يعالج قضيّة إنسانية تتعلق بالرقيق في بعض دولنا العربية ــ الخليجية تحديدًا، ولكن يمكن تعميم الحالة على دول شتّى، بما فيها أميركا وأوروبا، حيث لا تزال العبودية تُمارَس بطرق شتّى. الفيلم من إخراج و‌سيناريو وإنتاج بليسي (كاتب ومخرج)، والسيناريو فيه مقتبس عن رواية صدرت في 2008 في الهند بعنوان "أيام الماعز" للروائي الهندي بيني دانيال (الشهير باسم بنيامين، من ولاية كيرلا)... ويتناول "قضية الرقيق الهنود في السعودية"، هذا الفيلم يدعونا لتناول قصّته ومحطّاته من بدايته حتى نهايته.
يبدأ الفيلم الذي تعرضه منصّة نتفلكس بالشّابّين نجيب وحكيم تائهين في المطار ينتظران الكفيل الذي وعدهما بعمل في شركة، لكنّ سوء حظّهما يوقعهما فريسة لتاجر المواشي الذي يتخذ وضع الكفيل، ويسوقهما إلى مزرعته ومزرعة صديق له، ويفصلهما عن بعضهما، كل في مزرعة. وتبدو القصة منذ البداية متعلقة بكون التاجر لا يتقن اللغة الهندية/ المالايامية (لغة ولاية كيرلا)، كما أن نجيب لا يتقن شيئًا من العربية، فالتاجر يصدر الأوامر، والعامل نجيب لا يفهم المطلوب، فينهال عليه ربّ العمل بما تيسّر من أدوات الضرب، ويظلّ فعل الاعتداء يتكرّر، حتى يقرر نجيب الهروب مرة، وثانية، وينجح في الثالثة بمساعدة من صديقه حكيم وصديق أفريقيّ ــ صوماليّ هو إبراهيم قادري العليم بالصحراء ومتاهاتها.
القصّة محبوكة على نحو شديد المهارة، بدءًا من قصّة زواج نجيب، وانتظار مولود/ة، وقراره التوجّه إلى السعودية لجمع المال وإعالة عائلته، مع أنه ليس فقيرًا، فهو يرهن بعض ممتلكاته للحصول على تأشيرة وإذن بالعمل، وصولًا إلى المطار السعودي مع صديقه حكيم، ووقوعهما ضحية تاجر جشع يزعم أنه كفيلهما، ويسوقهما إلى مزارع الماشية في الصحراء، ليعملا ضمن عبيده، فيعيش نجيب حياة العبيد، خاضعًا لأشكال من التعذيب والتنكيل.
الفيلم يقدم القصّة الأدبية عبر مشاهد وجماليات تصويرية مرعبة بقدر من الإبهار، يبرز فيها الممثل بريثفيراج سوكوماران في دور نجيب على درجة عالية من التمكّن حتى ليشعر المشاهد أنه أمام واقع حقيقي، وليس أمام مشهد تمثيليّ، ليؤكد مقولة أن "التمثيل هو أن لا تمثّل". وكذلك الممثّلة أمالا بول بدور الزوجة العاشقة لزوجها قبل الزواج وبعده، والتعبير بنظراتها عن رغبة بوداع حميم. وكذلك الأمر بالنسبة إلى بقية الممثلين، ومنهم ممثلون خليجيّون وعرب، فقد قاموا بأدوار من غير اصطناع، أو تمثيل زائف، خصوصًا العُماني طالب البلوشي في دور الكفيل المُزيّف (تاجر المواشي الجشع القاسي).

التوهان الأوّل والأخير
يبدأ الفيلم (يبلغ طوله ساعتان و56 دقيقة) بمشهد التوَهان في المطار، في انتظار الكفيل، وينتهي بمشهد التوهان في رمال الصحراء، هروبًا من الكفيل المزيّف، ومحاولة للعودة إلى البلاد، رحلة مع الكفيل تمتد ثلاث سنواتٍ، يعاني نجيب خلالها أقسى أنواع العذاب، يبدأ الكفيل بتشغيله في حلْب أنثى الماعز، فترفسه الأولى، وينطحه تيس بقسوة، لكنه يأخذ في ترويضها، ومع ذلك لا يكفّ صاحبها عن معاقبته بلا سبب سوى أنه لا يفهم اللغة العربية، ولا يفهم المطلوب منه، في مشاهد سينمائية شديدة التعبير عن قسوة ربّ العمل تجاه الإنسان العامل معه. عنف يبلغ حدّ منع الماء والطعام عنه، ويبلغ حدود عدم توفير مكان مريح للنوم، وعدم السماح بأي استراحة. فيبدأ العامل بالشكوى في مونولوج داخلي بالرغبة في الهرب والعودة إلى البلاد.




والأهمّ والأجمل في الشكوى هو مشاهد (فلاش باك) يسترجع فيها نجيب حياته مع زوجته وأمه، يسترجع لحظات من السعادة مع حبيبته/ زوجته ساينو في بحيرة، لحظات عشق حميمة بين الأحضان والقبلات، وما يحيط بها من عواطف متدفقة، حتى إنه يحملها ويدور بها في شوارع المدينة، في تقليد هنديّ معروف حين يبلغ الزواج عامًا، وفي هذه المشاهد الحميمة يمكن للمتلقّي تعويض مشاهد العنف القاسية، فالحب هنا مقابل القسوة.
ويمكننا العودة (فلاش باك) أيضًا إلى مشهد الوداع أمام القطار الذي سيغادر كيرلا إلى المطار، حيث الأمّ والزوجة تودّعان نجيب في مشهد شديد الحزن، شبه جنائزيّ، بينما نجيب لا يستطيع تقبيل زوجته التي تنتظر قبلته بوجه يبدو عليه الألم الشديد، وشفتين مرتجفتين، ولكن بصمت، مقابل نظراته ورغبته المقموعة، إذ يبدو أن العادات لا تسمح بوداع القبلات بين الزوجين.
وبالانتقال إلى التوهان الثاني في الصحراء، في مشهد الهروب الأخير، يختار المخرج صحراء مترامية وبلا حدود، حيث "صحراء من كل الجهات"، ولا شيء سوى الصحراء وكثبان الرمل تتحرك الكاميرا مع أشخاص ثلاثة، نجيب وحكيم والدليل الأفريقي إبراهيم قادري قائد الرحلة. يختلفون ويتخاصمون لسبب ومن دون سبب. نشاهد حركة الرمال حينًا، الظمأ إلى الماء، الركض في اتجاه السراب الذي يتوهمه حكيم ماءً، فيسقط ميّتًا، ويختلف نجيب وقادري، فنجيب يريد حمله، وقادري يرفض ويتركه للرمال وكائناتها كي تنهشه الأفاعي والعقبان.
من أقوى مشاهد الفيلم، تعرّض نجيب للأفاعي التي تلتفّ على قدمَيه، وتتسبّب له بلسعات وتشقّقات في الجلد تجعل المشي صعبًا، حتّى أن قادري يمزق قميصه ليسعف نجيب، لكنّ كل الإسعافات لا تجدي نفعًا. وتظل الكاميرا تسلّط الضوء على تقرّحات أسفل القدمين، في مشاهد شديدة القسوة، وهو ما يسعى الفيلم إلى ترسيخه في ذهن المتلقّي ووعيه. فهو يرسم صورة إنسان تحوّل إلى ماعز، جزء من قطيع الماعز الذي تعايش معه، وعندما ودّعه ليهرب، يحتضن بعض الماعز ويبكي، وكذلك يفعل قطيع الماعز، إذ يبكي أيضًا لهذا الفراق.
يحتدم الصراع الآدميّ في الفيلم. نشهد ما يقارب التراجيديا. بل نحن حيال تراجيديا بشرية. تراجيديا البقاء. ويبلغ الصراع ذروته مع عاصفة رملية فوق طبيعية، وفجأة تتراءى في الصحراء سحليّة، وهذا بالنسبة إلى قادري يعني وجود الماء. وفعلًا يعثران على "غُويبة" صغيرة وساقية ماء، ينطلق نجيب ليطفئ ظمأه. يمنعه قادري لأنه لا يجوز للمرهق أن يغبّ الكثير من الماء. يتصارعان.
ثم يختفي قادري، ويبقى نجيب وحيدًا، لكنه يجد نفسه قريبًا من طريق عامّ، يعترض مرور شاحنات لا أحدَ من سائقيها يتوقف له، ثم تتوقّف سيارة يحمله سائقها ويلقيه في المدينة أمام مسجد (نسمع صوت الآذان)، من دون أن يلتفت أحد لآلامه وأوجاعه، حتى يؤويه أصحاب فندق ويعالجونه، ثم ننتقل معه إلى مركز شرطة، ونرى ما يتلقّاه العمّال الهاربون من أرباب العمل من عذابات. وننتهي معه بترحيله إلى بلاده... هو الذي ظلّ يصف نفسه بأنه "مغترب في الشرق الأوسط". لكن النهاية تحمل مشهدًا مأساويًّا أيضًا، حيث نجيب يتّجه الى الطائرة متعبًا خاويَ الوفاض، بينما ثمة عائدون يحملون الهدايا لأولادهم وعائلاتهم.




لكنّ هناك أحد المشاهد الذي لا يجوز القفز عنه، مشهد ما قبل الهروب، حيث يتعرّى نجيب تمامًا من ملابسه المهترئة، ويظهر كما ولدته أمّه، ليغتسل تحت صنبور ماء، ليبدو وكأنّه يتطهّر رمزيًّا من كلّ تجربته الصحراوية مع العبوديّة، يتخلّص من هذه العبودية، ويمضي إلى حريّته، فيرتدي ملابسه التي جاء فيها من بلاده، ويلتحق بصديقه حكيم وبقائد الرحلة الأفريقيّ قادري، ويخوض حربًا جديدة مع صحراء الهروب والحرية، لا صحراء العبودية والكفيل المزيّف الجشع.
في نهاية الفيلم تظهر على الشاشة هذه العبارة الذكيّة المعبّرة: كل المصائر التي لم نختبرها من قبل هي مجرد قصص بالنسبة لنا...

بين الرواية والفيلم


الرواية التي تمّ أخذ الفيلم عنها انتشرت سريعًا منذ صدورها عام 2008، وبلغت طبعاتها المائة، وعرفت طريقها إلى العربية منذ قام بترجمتها المترجم ابن كيرلا سهيل عبد الحكيم الوافي، ويقول أحد نقّادها إن من أبلغ ما فيها "رمزيّة الصحراء في حياة نجيب، ففراغ الصحراء يرمز إلى العدم، والقصّة هي عن العدم تقريبًا، حيث يجمع نجيب ما فوقه وتحته ويقترض المال، ويمدّه معارفه وأصدقاؤه بما يكمل الثلاثين ألف روبية التي سيشتري بها تأشيرة السفر، ليُفاجأ بانعدام كل شيء حلم به، وخسارة كل ما كان يملك، حتى إنه خسر نظافته الشخصية...". فما الذي دفعه لهذه المغامرة؟ وهل هي الرغبة في الإثراء بأي طريقة كانت؟
ثمة شوائب في الفيلم، ولا أدري إن كانت في الرواية، حيث أن الفيلم لا يقنعنا بسبب لاغتراب نجيب وصديقه حكيم، إنه يقدم لنا نجيب كصاحب أملاك يقوم برهنها، وبيت يقوم ببيعه، ليدفع للسمسار الذي سيؤمّن له التأشيرة. بل إننا نرى في الفيلم مشهد عرس نجيب، وهو عرس شخص مقتدر وعائلة مقتدرة. فكيف لمن يملك بيتًا وعقارات ويقيم عرسًا واحتفالات باذخة أن يكون محتاجًا للاغتراب؟ هل هذه القصة حقيقية من أساسها؟ وحتى لو كانت مختلقة، فإن ما يهمنا في هذا أن قضية العبودية ما تزال قائمة في بلدان عدة، في عالمنا العربيّ، وفي الغرب أيضًا.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.