}

الصامتون في التراجيديا السورية

منذر مصري 2 أغسطس 2024
الصمت علامة الرفض:
بولس: أليس موضوعًا قديمًا؟
منذريوس: لا بل قديم جديد، لأنّ القضية ما تزال مرفوعة، والمحكمة ما تزال جارية، والمتّهمين ما يزالون في قفص الاتهام!
/

أظنك من أولئك الذين سمعوا عبارة: "الصمت علامة الموافقة" لا أقلّ من /100/ مرة! أمّا أنا، فمن الذين سمعوها /1000/ مرة ويزيد! وبنسبة تفوق 90%، تكون مناسبتها ما يشبه مشهدًا معادًا لدرجة الملل من فيلم سينمائي مصري، ينافسه اليوم مسلسل درامي سوري عن دمشق القديمة، يستنطق فيه أحدهم، الأب غالبًا أو الأخ الكبير، الفتاة الشابة الجالسة أمامهم وكأنها في قفص الاتهام، ما إذا كانت راضية بالاقتران بالرجل الستّيني الثري الذي يستغل ضيق حال عائلتها، وحاجتهم لقليل من المساعدة المادية، فقام وحضر بكلّ هيبته إلى بيتها المتواضع، وخلفه يمشي رجلان من أعوانه، عارضًا عليها الزواج منه، وذلك بشرائها على سنّة الله ورسوله! فتطرق الصبية برأسها، ولا تجيب! فيفسّر الحاضرون ما يجري أمامهم، بأنّه بسبب خصلة الحياء التي تتّصف بها الصبية، والتي من المفترض أن يتّصف بها جنس البنات كله، فهي لا تجيب بنعم أو لا، ولا حتى بهزّ رأسها علامة الموافقة. ولكن ألا يحصل أحيانًا ألّا تقول الفتاة "لا" لسبب ما غير الخجل، كالخوف مثًلا. أو ربما في حالة معكوسة! حين يلحّ عليها بأن تقول "نعم"، أو أن تبدي علامة ما تدل على موافقتها، فتبقى صامتة وتبقى رافعة رأسها! أليس الصمت هنا علامة رفض؟ أليس الصمت هنا شجاعة و... تحدّيًا؟

الساكت عن الحقّ ملاك مقموع:
كثيرًا ما يتمّ الحكم على الصامتين في أي نزاع، ومثالنا هنا، النزاع السوري الجاري في كل مناحيه، وعلى كل مستوياته، منذ 25/3/2011، لليوم،  بأنّهم أناس سلبيون، آثروا الحفاظ على مصالحهم وعدم توريط أنفسهم، على أن يتّخذوا الموقف الأخلاقي، الإنساني، الوطني، المنشود، المتوجّب على كل مواطن سوري بغضّ النظر عن ظروفه وارتباطاته ومصالحه، من قبل الطرفين معًا، الموالين و المعارضين، حتى إنّه وصل الأمر بالبعض منهم إلى اعتبار الصمت جريمة ومعصية كبرى، ينبغي محاسبة الصامتين عليها، مردّدين المقولة الشهيرة: "الساكت عن الحقّ، شيطان أخرس". التي تبين لي أنّه من الخطأ نسبها إلى الإمام علي بن أبي طالب كما يفعل الكثير من الناس. ورغم أنّ صيحة: "صمتكم يقتلنا" الباكرة، كانت موجهة لحكام الدول العربية وشعوبها التي لم تحرّك ساكنًا لمناصرة من أطلقوها، إلاّ أنّها، بالأولى، كانت تعني الصامتين السوريين قبل سواهم. الذين، لولا صمتهم، ولولا بقاؤهم في بيوتهم، لو نزلوا إلى الشوارع جميعهم جمعة واحدة، رجالًا ونساء وأطفالَا، لو... لولا... لو... كما راحوا يتكلّمون في نومهم منظّرو الثورة ودعاتها والمحرّضون عليها، تلك الآونة، لسقط النظام وانتصر الشعب السوري!

من هم هؤلاء الصامتون؟:
ولكن أليس علينا أن نتوقّف للحظة ونتساءل من هم حقًّا هؤلاء الصامتون؟ الذين من طبيعة الأمور أن يشكّلوا أكثرية السوريين، كما أكثرية الروسيين أيّام ثورة أكتوبر 1917، وأكثرية الكوبيين أيّام ثورة كاسترو 1958، وأكثرية الكمبوديين أيّام مجازر بول بوت 1975-1979! وأكثرية الإيرانيين أيّام ثورة الخميني 1979، فالاشتراك في الثورات والحروب حتى الأهلية منها بأشكالها المتنوعة، خذ السودان اليوم كمثال، يقتصر دائمًا على نسبة محدودة من الناس، مهما بلغ مقدارها، تبقى النسبة الأقلّ، فليس شرطًا، لأنّه ليس من الممكن، أن يكون جميع أفراد الشعب ثوارًا، وكل الناس أبطالًا. ينصّ أحد الكتب التي قرأتها منذ سنوات عديدة عن الثورات، لا أذكر عنوانها ولا أذكر كاتبها، ذلك أن القراءة عن الثورة تلك الأيام كان شغلنا الشاغل! على أنّ مشاركة نسبة 4% إلى 15% من مجمل عدد السكان كافية لإحداث التغيير، أمّا إذا وصلت النسبة إلى 25% فالتغيير سيكون مؤكّدًا مهما كانت المعوقات! وهنا يجب أن نلاحظ الفروق، غير المتوقّف عندها غالبًا، بين حالة الصمت، وحالة الحياد، أو الرمادي كما يصفونها، رغم التداخل والتشابه الظاهري بينها، ذلك أن الصامتين، أو لنقل المصمتين! باشتقاق اسم المفعول من فعل (أصمت)، هم يخالفون ويفترقون عن الحياديين والرماديين واللّا مبالين، في أنهم يحملون مواقف مضمرة، معارضة كانت أم موالية، لا يعبرون عنها لأسباب خاصة بهم، أو لأسباب يفرضها عليهم محيطهم. وإذا كانت أسباب صمت المعارضين داخل سورية، وهم المعنيون بكلامنا هنا عمومًا، يمكن تخمينها، إن في المدن والمناطق التي تقع تحت سيطرة النظام الذي لم يغير كثيرًا أو قليلًا من طرائقه وأساليبه في التعامل مع معارضيه، أو تلك الواقعة تحت سيطرة أطراف أخرى سورية وغير سورية مسلّحة، عتادًا وفكرًا، ظهرت على الساحة السورية تكاد تفوق كلّ ما سبق وعرفه السوريون في تاريخهم الحديث تخلّفًا وإقصائية.




كما أنه باستخدام التفكير السابق ذاته، يمكن حتى فهم صمت من يحيون خارج البلد كلّه. لأنّه كما ذكرت من طبيعة الأمور أن يكون الصامتون هم الأكثرية دائمًا، الناس الذين لا علاقة لهم بالسياسة والمشغولون في تأمين عيشهم وتحسين شروط حياتهم أينما كانوا. ولكن ماذا عن الصامتين الموالين؟ ما دام الوضع، المحيط، يسمح لهم، يدفعهم، لا بل يطالبهم، بالتعبير عن موالاتهم؟ وإذا ما كانت الشعارات والمنابر جاهزة ومتاحة للموالين، لماذا هم صامتون إذًا؟ فحيث يكون الأبيض مع الوطن والأسود ضدّه، لا يصحّ أن يكون هناك رماديون، الرماديون هنا بمثابة أخوة السود وحاضنيهم. وهكذا يبدو أنّ كلا الطرفين، يدينان الصمت والصامتين، ويوجهان لهم التهم الجاهزة، التي ربما تفوق فظاعتها التهم التي يوجهها كلّ منهما إلى عدوه، وذلك بحجّة أنّ مواقف الطرف الآخر واضحة، صريحة، معلنة أمام الملأ، بينما مواقف الصامتين مقنّعة ومريبة! أليسوا هم الخونة الذين خذلوا الوطن؟ بالنسبة للطرف الأول، والجبناء الذين خذلوا الثورة والشعب؟ بالنسبة للطرف الثاني.

الصمت المقدّس تتبعه موعظة الأحد:
بولس: هل تريد لأبنك أن يعود إلى سورية؟
منذريوس: ذكرتني بذلك السؤال الخالد... أترضى لأختك أن تفعل ذلك؟
بولس: فليكن... أجبني بنعم أو لا، هل تريد لابنك أن يعود إلى سورية؟
منذريوس: سأجيبك بأكثر من نعم... أصلي لأجل أن يعود!
/

خلافًا لكلّ هذا الشطط، تأتي شهادة الروائي السوري فواز حداد صاحب رواية (السوريون الأعداء)، حيث يقول في مقابلة قديمة معه على موقع (رمّان) بتاريخ 22/4/2017: "أما صمت المثقّفين الذين اضطروا، أو آثروا البقاء في الداخل، فقد كتبت مرارًا عنهم، ووصفت صمتهم بالمقدس. لا أحد يرغب في أن يكونوا ضحايا مجانيين. إنّهم يقفون في الخندق المعارض للنظام، يعانون ويدفعون الثمن مضاعفًا". إلاّ أنّ هذا بدوره يجعلنا نطرح بعض الأسئلة! ماذا عمّن لا يكفيهم الصمت؟ ماذا عمّن يريدون أن يكسروا طوق الصمت ويقولوا شيئًا؟ وإذا كنا نتكلّم عن المثقفين والكتّاب، فماذا عمّن الكلام بالنسبة إليهم (هذه من أجلك صديقي د. عصام) هو معناهم، ومبرر وجودهم، فلم يتوقّفوا عن الكتابة، رغم المحاذير ورغم المخاطر. ماذا عمّن يريدون أن يسمعوا الآخرين هذا الصمت المقدّس؟ عمّن يريدون أن يكونوا صوت هؤلاء الصامتين؟ ماذا عمّن يؤمنون بأنّ هناك دائمًا ما يجب أن يقولوه للناس، من يرغبون بأن ينقلوا لهم الصور التي يرونها بأمّ أعينهم، الأحداث التي تعصف بهم كريح صرصر؟ من يتمتعون ببعض الجرأة لأن يرددوا بصوت عال ما يفكرون به، أن يعبروا عن رأيهم؟ أمحرم عليهم هذا؟ ليس في وقته؟ غير مهم؟ ماذا عمّن يجدون في أنفسهم الرغبة بأن يساعدوا سواهم في الاستمرار في العيش داخل البلد؟ عمّن يرون أنّه من واجبهم الحفاظ على الحيز المشترك الباقي بين الجميع، ماذا عمّن يعني صوته شيئًا ما للآخرين؟ "منذر ابق... وجودك يعني لنا الكثير"، يقولونها لي من لا أعرفهم! فأنت بمقدورك ألّا تصدّق هذا عن نفسك، وربما من واجبك أن تشكّ فيه، ولكن ليس بمقدورك، وليس من حقك، أن تكذّب الآخرين الذين يقولونه لك. أرجوكم انتبهوا إلى هذه النقطة. أصدقكم القول إنّني في أحيان كثيرة، لا أجد سببًا للبقاء في سورية سواه! وماذا عمّن يريدون أن يقولوا لنا إنّه... ما يزال لدينا وطن يصلح للعيش فيه ويصلح للعودة إليه، بل يجب أن نعود إليه، يا للهول سيصيح الآن بعضكم! وخاصة أولئك الذين من حيث يدرون أو لا يدرون يشاركون النظام في شعارهم الواقعي للأسف، الواقعي لحدّ المأساة: "حقّ السوريين في اللّا عودة"، ذلك لأنّه، قبل كلّ شيء، وبعد كلّ شيء، لنا... وطننا، الوطن الذي بالنسبة إلى الذين ما زالوا قابعين في حفرته، ليس لديهم سواه. ولأنّنا نحن السوريين، كنّا وما نزال، رغم كلّ ما أصابنا من أهوال، شعبًا، من حقّه أن يحيا، ويأمل، ويحلم...

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.