}

ذكرى رحيل ميشال فوكو: الفيلسوف المتمرد في الحياة والفكر

حسونة المصباحي 14 يونيو 2024
استعادات ذكرى رحيل ميشال فوكو: الفيلسوف المتمرد في الحياة والفكر
كان فوكو يحضر دروس عالم النفس الشهير جاك لاكان(Getty)
في الخامس والعشرين من شهر حزيران/ يونيو من هذا العام 2024، يكون قد مر 40 عامًا على رحيل الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو، عن سن ناهزت 57 عامًا. ولعله من القلائل بين كبار الفلاسفة الفرنسيين في القرن العشرين الذين تمتعوا إلى الآن بحضور ساطع وقويّ، لا في بلاده فحسب، بل وفي الأميركيتين، وفي اليابان، والصين، والهند، وبلدان كثيرة أخرى. ولا تزال أفكاره التي كان يصفها بـ"المتفجّرات" تجذب أجيال الإنترنت، والذكاء الاصطناعي، وتُثير إعجابها.  ومن بين مميزاته الكبيرة أنه كان متمردًا على كل الأنماط والأساليب الجاهزة والقديمة، سواء كان ذلك في الحياة، أو في الكتابة، أو في الفكر، وغير ذلك. وقد يكون هو أفضل من عرّف بنفسه أفضل تعريف حين كتب في كتابه: "حفريّات المعرفة" يقول: "من المؤكد أن هنالك أكثر من واحد مثلي يكتب كي لا يكون له وجه. لا تطلبوا مني منْ أكون، ولا تطلبوا مني أيضًا أن أظلّ الكائن نفسه. إنها أخلاق حالة مدنية. وهي التي تتحكم في أوراقنا. لتتركنا أحرارًا، إذًا، حينما يتعلق الأمر بالكتابة".
وُلد ميشال فوكو في مدينة بواتييه في الخامس عشر من شهر أكتوبر/ تشرين الأول 1926. ينتسب إلى عائلة بورجوازية مُترفة، فوالده طبيب جرّاح يحظى بالتقدير والاحترام في الأوساط الطبية، ولدى أهالي المدينة. ومنذ البداية، أبدى الطفل ذكاء وفطنة، حيث أنه كان يرغب في أن يكون الأفضل، لا في الفصل الدراسي فقط، وإنما أيضًا في جميع المجالات الأخرى. وكان شديد التعلق بوالدته التي كانت تردد الحكمة التالية: "أهمّ شيء هو أن يحكم الإنسان نفسه بنفسه". ولم يكن الفتى ميشال فوكو في تلك الفترة المبكرة من حياته منغلقًا على نفسه، نفورًا من العالم الخارجي، بل يبدو أنه كان يُتابع بكثير من الفضول والاهتمام بعض الأحداث الكبيرة، خصوصًا في بلاده. منها مثلًا اغتيال المستشار دولفوس سنة 1934، وكانت تلك هي المرة الأولى التي "يرجف فيها قلبه فزعًا أمام الموت".  وبما أن بواتييه، مسقط رأسه، تقع قريبًا من الحدود مع شبه الجزيرة الأيبيرية، فإنها شهدت تدفّقا هائلًا للمهاجرين الإسبان الفارين من الحرب الأهلية الإسبانية التي اندلعت سنة 1936. أما الحدث الخارجي الآخر الذي شدّ اهتمامه فهو غزو إيطاليا لإثيوبيا. ومنذ ذلك الوقت أصبح التاريخ في قلب اهتماماته. وفي ما بعد سيقول: "أكثر من مشاهد وأطوار الحياة العائلية، تُشكّلُ الأحداث المتعلقة بالعالم المادة الأساسية لذاكرتنا (...) كان هناك تهديد حقيقي مُسلّط على حياتنا الشخصية. وربما لهذا السبب فتنت بالتاريخ، وبالعلاقة بين التجربة الشخصية والأحداث التي وجدنا أنفسنا في قلبها. وأظن أن جوهر رغباتي النظرية يكمنُ هنا".
وكانت باريس ترزح تحت الاحتلال النازي لما جاءها الفتى ميشال فوكو سنة 1943 ليواصل دراسته في أرقى معاهدها. والذين عرفوه في تلك الفترة يقولون إنه كان "مُتوحّشًا وغريب الأطوار"، يقضي أغلب أوقاته في المكتبات، حريصًا على حضور دروس جان إيبوليت، المتخصص في فلسفة هيغل، والذي كان قد نقل إلى اللغة الفرنسية أشهر أعماله. وما كان يشدّه إليه هو أن الفلسفة لم تكن بالنسبة لجان إيبوليت مجرد تأمّل نظري، بل هي "تشارك في مصير مشترك مع الديناميكية التراجيدية للتاريخ".




بعد نهاية الحرب الكونية الثانية، انتسب ميشال فوكو إلى "مدرسة المعلمين العليا"، التي كانت تحتضن أفضل العقول الشابة في مجال الفلسفة تحديدًا، وفيها سيمضي أربع سنوات. ويشير كتّاب سيرته إلى أنه عاش في تلك الفترة من حياته اضطرابات وأزمات دفعته في أكثر من مرة إلى التصادم العنيف مع الآخرين. بل إنه هجم على أحدهم ذات مرة بسكين. وفي سنة 1948، قام بمحاولة انتحار فاشلة. وتلك المحاولة أتاحت له التعرف عن كثب على عالم فرويد ويونغ، وغيرهما من أعمدة علم النفس الحديث. وبعد صدور كتابه الشهير: "تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي"، الذي قد يكون مستوحى في بعض جوانبه من تلك التجربة، كتب يقول: "في حياتي الشخصيّة، شعرت منذ بداية حياتي الجنسية بأنني مقصيّ، ليس مرفوضًا حقًّا، وإنما أحسستُ أنني أنتمي إلى مجتمع الظل. وبسرعة، تحوّل كلّ ذلك إلى نوع من التهديد النفسي: بما أنك لست مثل كل الآخرين، فإنك لست طبيعيًا... وبما أنك لست طبيعيًا، فإنك مريض". غير أن تلك الاضطرابات، وتلك الأزمات، لم تمنعه من أن يواصل العمل والقراءة بشكل "جنوني". ومن بين الفلاسفة الذين تعمّق في قراءة أعمالهم يمكن أن نذكر هيغل، وماركس، وهوسرل، وهايدغر... كما لم تمنعه تلك الاضطرابات، وتلك الأزمات، من أن يرتبط بعلاقات صداقة مع من ستلمع أسماؤهم في ما بعد في عالم الفكر، من أمثال المؤرخ بول فاين، المتخصص في التاريخ اليوناني القديم، وصاحب كتاب: "تاريخ روما"، وعالم الاجتماع بيار بورديو، وعالم الاجتماع الآخر جان كلود باسرون.



بعد تخرجه بشهادة التبريز في الفلسفة، التحق ميشال فوكو بسلك التعليم للتدريس في جامعات المدن الفرنسية الداخلية. في الآن نفسه، كان يحضر دروس ومحاضرات عالم النفس الشهير جاك لاكان، ويتردد على بعض المصحات النفسية والعقلية، مُسجّلًا ملاحظاته التي ستكون في ما بعد مادة لكثير من بحوثه الفلسفية. وفي عام 1954، أصدر كتابه الأول الذي حمل عنوان: "المرض العقلي والشخصية". وراغبًا في أن يعيش المغامرة خارج بلاده التي كان يضيق بها، وتضيق به أحيانًا، اختار ميشال فوكو طريق المنفى الطوعي للتدريس في جامعة "أوبسالا" السويدية. وهناك التقى بالمؤرخ الفرنسي جورج دوميزيل، المتخصص في تاريخ الأديان، والذي أصدر عددًا من الدراسات الهامة في مجال اللغة واللسانيات. وفي "أوبسالا"، عاش حياة لم تكن تخلو من العبث واللهو، موليًا اهتمامًا خاصًا بمظهره، ومتجولًا في شوارع المدينة في سيارة "جاغوار" فاخرة، ومقدمًا بين وقت وآخر محاضرات حول الأدب الفرنسي، مُركزًا بالخصوص على: "البحث عن الزمن المفقود" لمارسيل بروست. ومن أوبسالا، انتقل ميشال فوكو للتدريس في جامعة فرسوفيا (وارسو)، وذلك سنة 1958. وفي هذه الفترة، أنهى كتابه: "تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي"، الذي سيعطيه مكانة بارزة داخل الأوسط الفكرية والفلسفية في بلاده وخارجها. غير إن إقامته في فرسوفيا لم تدم طويلًا، إذ أن أجهزة المخابرات الشيوعية لم ترق لها علاقاته ببعض المثقفين المنشقين، والمغضوب عليهم. لذلك شدّدت التضييق عليه لتجبره على حزم حقائبه والعودة إلى باريس. كما قادته التجربة البولونية إلى القطع مع الماركسية التي ظل حتى ذلك الحين يُظهر نوعًا من التعاطف معها. ومستخلصًا العبرة من تلك التجربة، صرّح في أحد الحوارات التي أجريت معه قائلًا: " لقد عاينت هناك (يقصد بولونيا) كيف يُمارس الحزب سلطته، مُخْضعًا الدولة للمراقبة، ومُتماثلًا معها. ما شعرت به بشكل غير واضح تمامًا خلال السنوات الفاصلة بين 1950 ــ 1955 كان يتجلى في حقيقته العنيفة، والتاريخية، والعميقة. وإذًا، لم يعد الأمر مُتعلقًا بتصورات طالب، أو بألاعيب داخل الجامعة، وإنما بات أمرًا جديًا لبلاد مقيّدة من قبل حزب. ومنذ ذلك الوقت، يمكن أن أقول بإنني لم أعدْ ماركسيًا، بمعنى أنني لم أعدْ أقبلُ بطريقة الحكم التي تقترحها علينا الأحزاب الشيوعية في أوروبا الشرقية، وفي أوروبا الغربية أيضًا".




في منتصف الستينيات، انطلق ميشال فوكو إلى تونس، ليُدرّس الفلسفة في جامعتها الفتيّة. لكن مثلما كانت حاله في بولونيا، اصطدم بأجهزة النظام التي أصبحت تراقب حركاته وسكناته بعد أن أن عاينت أنه كان يُظهر تعاطفًا مع الحركات اليسارية داخل الجامعة، وأنه كان يستقبل في بيته الطلبة والمثقفين المتمردين والغاضبين. وبعد أن قامت الأجهزة الأمنية بقمع الانتفاضة الطلابية العارمة التي اندلعت في العاصمة في أول صيف عام 1967، أجبر ميشال فوكو على مغادرة البلاد بتهمة "التحريض على الشغب والفوضى". وعن التجربة التونسية، صرّح ميشال فوكو قائلا: "في العنف الوحشي والبدائي للشرطة التونسية داخل الجامعة، مررت بتجربة جسدية للسلطة. وفي ما بعد، ظللت مهووسًا بأحداث هذه التجربة، غير أنني لم أستنتج منها ما هو نظريّ إلاّ في وقت متأخر. وقد انتبهت إلى أنه كان يتوجب عليّ أن أتحدث قبل ذلك بوقت عن هذه القضايا المتعلقة بالعلاقة بين  السلطة والجسد... وهذا ما توصّلت إليه في "المراقبة والعقاب"".
بعد كتاب "تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي" الصادر في مطلع الستينيات، أصدر ميشال فوكو كتابه الهام الآخر: "الكلمات والأشياء" (1966)، وفيه بشّر بـ"فكر جديد" يقطع مع ما هو سائد وشائع آنذاك. وبحسب رأيه، يمكننا أن نُميّز ثلاثة عهود من الفكر الغربي يتميزُ كل واحد منها بـ"معرفته". فمن العصور الوسطى وحتى نهاية القرن التاسع عشر، كانت دراسة العالم ترتكز على "التشابه وعلى الشرح والتأويل". وانطلاقًا من منتصف القرن السابع عشر، برز شكل جديد من المعرفة يقوم على "التمثّل والنظام". غير أن هذا الشكل من المعرفة سوف ينتفي في بداية القرن التاسع عشر ليبرز شكل آخر من المعرفة يعتمد على التاريخ، وعلى العلوم الاجتماعية، ليكون الإنسان في قلب الحقل المعرفي. ومُعلقًا بنفسه على هذا الكتاب الذي حقق انتشارًا واسعًا، والذي كان على رأس أفضل الكتب مبيعًا عند صدوره، صرح ميشال فوكو قائلًا: "نحن اعتبرنا جيل سارتر جيلًا شجاعًا وسخيًّا بالتأكيد، جيلًا كان محبًّا للحياة ومغرمًا بالسياسة وبالوجود، أما نحن فقد اكتشفنا عشقًا آخر، عشق المفهوم، والذي سوف أسميه النظام". وقد أثار كتاب "الكلمات والأشياء" جدلًا واسعًا داخل الأوساط الفكرية والفلسفية والفكرية في فرنسا. ورأته سيمون دو بوفوار كتابًا "يمنح الوعي البورجوازي أفضل مبرراته"، لأنه يزيح بحسب رأيها "التاريخ، والبراكسيس، والالتزام"، بل إنه "يُلغي الإنسان ذاته".
في السبعينيات، انتخب ميشال فوكو أستاذًا في "الكوليج دو فرانس"، وهو واحد من أرقى المؤسسات الأكاديمية في فرنسا، ليهتم بتدريس "تاريخ النظم الفكرية".  وفي هذه الفترة، انشغل بالسياسة، وبالجدل حول العنصرية، وحول حقوق العمال، والمساجين، وغير ذلك من القضايا السياسية والاجتماعية. وبذلك أصبح يُشاهد في التظاهرات المناهضة للقمع وللعنصرية وللحروب وللقوانين والإجراءات المعادية للحقوق والحريات العامة والخاصة.
في عامي 1978، و1979، زار ميشال فوكو إيران مرتين، إيران التي كانت تعيش أحداث الثورة الشعبية التي أطاحت بنظام الشاه. وكان الغرض من الزيارتين كتابة سلسلة من التحقيقات لجريدة "كوريري ديللا سيرا" الإيطالية، وفيها خرج عن المناهج الغربية في تحليل الأحداث والتاريخ موليًا اهتمامًا للظاهرة الدينية كمحركة للتاريخ، وللثورات الشعبية المناهضة للاستبداد والظلم. بل إنه قد تكون الظاهرة الدينية، بحسب رأيه، مُولّدة لما سمّاه بّالروحانية السياسية "التي قد تكون عنصرًا مهمًا في تحقيق طموحات المجتمعات والشعوب في الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية".
في السنوات الأخيرة من حياته، انشغل ميشال فوكو بتأليف ثلاثة مجلدات عن تاريخ الجنس في الثقافة وفي الحضارة الغربية. وفي الثاني من شهر حزيران/ يونيو 1984، أغمي عليه وحمل فورًا إلى مستشفى La pitié Salpêtrière  
ليلفظ أنفاسه في الخامس والعشرين من الشهر ذاته، ومن السنة ذاتها. وكان في توديعه إلى مثواه الأخير كل من جورج دوميزيل، وجيل دولوز، وبيار بورديو، وبيار بولاز، وكلود مورياك، وأريان منوشكين، وأندريه غلوكسمان، وميشال سار...

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.