}

ذكرى رحيل صادق جلال العظم: عبور بين حياته وكتاباته

عزيز تبسي 28 ديسمبر 2022

كتابات صادق جلال العظم، التي صادفت ذكرى رحيله السادسة هذا الشهر، لا تموت، وعباراته لا توارى الثرى. فسرعان ما تستنبت ويسري النسغ في عروقها ويبرق اخضرارها. كتب كما يتحدث، عباراته واضحة، أغنت عن المؤولين والمفسرين، لأنه أرادها أن تصل إلى من أراد إيصالها إليهم، ليتواصل معهم كأنما يدعوهم إلى صبحية أو سهرة. تتوارى خلف بساطتها سعة معرفية، وعمق تحليلي، وهدوء تأملي، شبع من التحديق بها وتقليبها، وتمهل قبل إطلاقها كنيزك، يضيء ظلمات عاجزة عن التمسك بسوادها.

علم العظم مبكرًا أنه ليس من مهمات الفكر الفلسفي الراهنة إيقاف فكر هيغل أو المتشبهين به على قدميه، لأن هذه المهمة أنجزها ماركس وإنجلز منذ ما يقارب القرنين، ولا داعي لتكرارها، بل عليه تمثل منهجها وأدواتها المعرفية لكشف الأنظمة الاستبدادية والحركات الظلامية التي تخرج من عباءتها كما يخرج الحواة الأرانب من أكمام ستراتهم، ليجد ذاته أمام مهمة شاقة، إذ من الصعوبة التمييز بين رأس هذه الأنظمة وقدميها.

ولد صادق العظم في دمشق سنة 1934 لأسرة أرستقراطية تحدرت من أصول تركية أو تركمانية انتقلت مع الجيش العثماني، وبرز رجالها كقادة عسكريين، وأقطعوا إقطاعات واسعة.

عاش طفولته في قصر امتد على مساحة كبيرة من هضبة الجسر الأبيض المطلة على مدينة دمشق، توزعت عائلته بعد تفكك السلطنة العثمانية بين سورية ولبنان وإسطنبول.

درس صفوفه الأولى في مدرسة الفرير بدمشق، وأكملها في المدرسة الإنجيلية في صيدا، لينتقل بعدها لدراسة الفلسفة في الجامعة الأميركية في بيروت. تعرف في قاعات الدراسة وصالات المطالعة والندوات الثقافية على طالبة الآداب فوز طوقان التي ستصبح حبيبته وزوجته.

تابع دراساته العليا في الولايات المتحدة، وعمل فيها أستاذًا زائراَ في جامعة برنستون في قسم دراسات الشرق الأدنى.

تكوّن وعيه السياسي بتفاعل مع قرار عبد الناصر تأميم قناة السويس عام 1956 والعدوان الفرنسي البريطاني الصهيوني الذي أعقبها، حينها كان طالبًا في السنة الثالثة في قسم الفلسفة في الجامعة الأميركية ببيروت، واستمر تفاعله السياسي والفكري بجهد ذاتي عن طريق القراءة والحوارات بعد انتقاله لإكمال دراساته العليا في جامعة ييل في الولايات المتحدة.

عاد إلى دمشق سنة 1962، وعمل أستاذًا للفلسفة في جامعتها. انتقل في سنة 1963 للتدريس في الجامعة الأميركية ببيروت، واستمر حتى 1968. ونشر كتابه الأول "النقد الذاتي بعد الهزيمة" الذي صاغ فيه سجالًا طويلًا متأنيًا وحادًا في آن، وهو يعاين هزيمة حزيران/ يونيو 1967، تعقب فيه أسبابها العسكرية والسياسية، وانتقل إلى المجتمع العربي ليعاين التخلف الاقتصادي والعلمي والفكري في التعليم الأساسي والجامعات وانعكاس ذلك على بناء الجيوش وإقصاء المرأة وحضور الفكر الغيبي في الحياة العامة والإعلام والخطاب الفكري المائع الذي أنتجه المثقفون الذين يقودون المؤسسات الثقافية والإعلامية، التي عكست ميل الأنظمة السياسية للمساومة مع العدو الصهيوني، وترقيع الخيارات السياسية المتهافتة بالبلاغة الوطنية والشعارات التي افتقرت إلى المصداقية. لهذا أكد في كتابه على رفض تبرير الهزيمة بتأكيده دومًا عليها، وسخريته من استبدالها بكلمة النكسة.

تعقب المفردات التي أعلت من العلم والعصرية التي راجت بخطابات عبد الناصر والصحافي محمد حسنين هيكل، وأعلن بوضوح أن العلم والعصرية يعنيان العلمانية وفصل الدين عن الدولة، وهو ما لم يتجرأ أي منهما على الجهر به. كذلك الخلط المتعمد بين المهمة المركزية التي وضعتها أمامها حركة التحرر الوطني العربية "تحرير فلسطين" ومقولة "إزالة أو تصفية آثار العدوان"... خلط يضع حاملي المقولتين على طرفي نقيض سياسي وفكري. وهو ما ساومت وهادنت عليه القوى الفاعلة في اليسار العربي، لتتجنب الصدام، وتتحاشى أكلافه الباهظة، مع السلطة المصرية والطغمة العسكرية الحاكمة في سورية. استمرت صناعة هذا الالتباس، وهو شكل وضيع من الديماغوجيا السياسية، حتى اليوم بعبارات جديدة عن التسوية العادلة وسلام الشجعان والانسحاب إلى ما قبل خطوط الخامس من حزيران/ يونيو، وأنظمة الممانعة وغير ذلك.




انتقل عام 1969 إلى عمان وعمل أستاذًا في جامعتها، التي رئس مجلس أمنائها والد زوجته. شهد في هذه الفترة القصيرة التوتر الذي انتقل إلى صدام بين المقاومة الفلسطينية والجيش الأردني، وانشقاق حركة القوميين العرب التي انبثق منها تيار يساري عبّر عن نفسه بالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، الذي لم يتأخر صادق العظم في إعلان انحيازه لها، كما لم تتأخر السلطات الأردنية بدورها في وضعه على طائرة متجهة لبيروت وإدراج اسمه في قائمة الممنوعين من دخول الأردن، في الوقت الذي كان منكبًا على تأليف كتابه الثاني عن فلسفة كانط بتكليف من جامعة أوكسفورد. أمضى هاتين السنتين متنقلًا بين بيروت وعمان ودمشق بوثائق زودته بها المنظمات الفلسطينية.

غادر عمان أول شهر أيلول/ سبتمبر 1970، قبل خمسة عشر يومًا من بداية الصدام العسكري الكبير بين المقاومة الفلسطينية والجيش الأردني، مكلفًا من قيادة الجبهة الشعبية بجولة دعائية ولجمع التبرعات المالية، ليعود بعدها إلى بيروت التي كانت تنظيمات المقاومة الفلسطينية قد سبقته إليها، ويعكف بعد انضمامه إلى مركز الأبحاث الفلسطينية على تأليف كتاب "الصهيونية والصراع الطبقي"، التي يعتبر كتابًا مرجعيًا لفهم الأسس المادية والتاريخية التي وقفت خلف تشكل الأفكار الصهيونية ومشروعها السياسي الاستيطاني، التي أطاحت بعشرات الأوهام والخرافات التي أنتجها الفكر العربي عن هذا الفكر ومشروعه. واعتمد فيه على المنهج المادي في التحليل، ولا تزال أفكاره حية، رغم مرور أكثر من نصف قرن على تأليفه، حتى أيامنا التي يبعث مثقفوها وطغمها العسكرية الحاكمة عشرات التأويلات الخرافية التي تقارب الشعوذة عن تكون الحركة الصهيونية والدور الأشد خرافية المنوط بالماسونية وما شابههما من حركات وجمعيات بات مكانها في متاحف السياسة. لم يذهب للحفر في التاريخ اليهودي لاكتشاف الصهيونية، بل في تاريخ الرأسمالية الأوروبية الصاعدة إمبرياليًا، والبحث في أزماتها الدورية، والبطالة والنضالات العمالية، ليصل لنتيجة أن الصهيونية منتوج إمبريالي، وأن اليهود هم الجيل الثاني في الحركة الصهيونية، بينما امتد جيلها الأول على دوائر وزارات الخارجية البريطانية والفرنسية والألمانية والروسية، أي أن مطلقي الفكرة الصهيونية ليسوا يهودًا، بل كان معظمهم معاديًا لليهود كجماعة ولليهودية كدين، أبرزهم أرثر بلفور صاحب الوعد الشهير الذي ارتبط باسمه، ومارك سايكس أحد أبرز مهندسي المشرق العربي بعد تفكيك السلطنة العثمانية.

وتبعه بكتاب "دراسة نقدية لفكر المقاومة الفلسطينية" الذي تسبب بفصله من المركز، ومنعه من الكتابة في مجلة "شؤون فلسطينية" بأمر شخصي من ياسر عرفات. هو الذي كان مع الدكتور فايز الصايغ من مؤسسي المركز والمجلة، وهذا تسبب له بأزمة عميقة، فهو من اعتبر المقاومة الفلسطينية طليعة حركة التحرر الوطني العربية التي كانت قد تلقت هزيمتها الأولى في عمان، ثم ليتلقى هزيمته المبكرة في بيروت بتهديدات مباشرة، علم بعدها أنه صدرت أوامر أيضًا بشراء الكتاب من المكتبات وإتلافه ومنع إعادة إصداره ثانية، وهذا ما قامت به طليعة حركة التحرر الوطني فماذا ستكون الحال في الفروع؟ اقتنع بأن على الفكر النقدي أن يكون منفتحًا على الوقائع السياسية والتجارب العيانية، وعلى استعداد جاد للاشتباك المعرفي معها لفهمها وتحليلها وإظهار النتائج وجعلها بمتناول الشعوب، من هذا الموقع أتى نقده للمقاومة الفلسطينية، من موقعها ذاته، ليجد نفسه، هو المثقف الأكاديمي بوعيه الثوري الذي لم يقبل التخلي عنه ولا المساومة عليه باعتباره أداة فهم واقع مجتمعه ونقده وتجاوزه نحو أفق تاريخي جديد، مطاردًا لا من الأنظمة الرجعية المهزومة فحسب بل من بدائلها الثورية. كأنما أرادوا حصره بمهمة المسحراتي الذي عليه الاكتفاء بإيقاظ النائمين، لا حثهم على الصيام. وتراجع الانشغال بصادق العظم والكتاب بعد الجريمة الصهيونية التي أسفرت عن اغتيال كمال عدوان وكمال ناصر ومحمد يوسف النجار في بيروت، والتحولات التي تجري بمصر بعد وفاة جمال عبد الناصر.

ارتبطت الحركات السياسية في المشرق العربي بمثقفين مرموقين، ميشيل عفلق بحزب البعث، وأنطوان مقدسي بحركة الاشتراكيين العرب، وقسطنطين زريق بحركة القوميين العرب، إلا أن علاقة صادق العظم بالجبهة الشعبية لم تستمر إلا لبضع سنوات، سرعان ما أخذ المفكر مسافة يبدو أنها ضرورية، أتاحت له الاستقلال الفكري- السياسي الذي زوده بشجاعة وجرأة لم تكن لتتيحهما تنظيمات سياسية تعتمد على موازين القوى السياسية والأولويات النضالية والتحالفات السياسية الحزبية التي تحملها إلى مهادنة الأنظمة العربية الموصوفة بالتقدمية والصمت عن ديكتاتوريتها وقبولها بالتسويات السياسية المعلنة أو المخفية. ما يمكن المفاوضة عليه بالسياسة لا يمكن المفاوضة عليه بالفكر، إذ لا يمكن التعويل على مفاوضات تسفر عن هدنة أو وقف إطلاق النار بين الخرافات والشعوذة من جهة والعلوم الحديثة من جهة أخرى. أو بين الفكر الذي يعتمد الأسس المادية في بناء تحليلاته واستنتاجاته وبين الفكر الغيبي.

عاد العظم إلى دمشق سنة 1988، وانضم إلى هيئة التدريس في كلية الفلسفة، بعد عمله عقدين من الزمن أستاذًا زائرًا بعدد من جامعات الولايات المتحدة والجامعات الهولندية والألمانية. وانهمك بالتحضير لحواريته "دفاعًا عن المادية والتاريخ" التي جمعها وترجمها وأصدرها بكتاب سنة 1990. اتخذ هذا الكتاب نهج المحاورات في الفلسفة اليونانية، مع أفلاطون وأرسطو وسقراط... كان محاوره دكتور الفلسفة عفيف قيصر الذي يدرس في الجامعات الأميركية. وتزامن نشر هذا الكتاب الحواري مع انهيار التجربة السوفياتية وتجارب الدول الاشتراكية في أوروبا، وارتجاجاتها التي عصفت بالأحزاب الشيوعية والحركات العمالية في العالم. واعتبر بمثابة مساهمة متماسكة شجاعة لرد الاعتبار للفكر المادي وتبيان إمكاناته وقدراته السجالية، وانفتاح أفقه.

قضى العظم سنوات عمره الأخيرة يجول من بلد إلى آخر، يدفع أتاوة موقفه الشجاع من كفاح شعبه لانتزاع حريته وكرامته الوطنية، وكأنها تكريم مأساوي لمسيرته الفكرية، ورحل قبل ست سنوات، في الحادي عشر من كانون الأول/ ديسمبر 2016، ودفن في منفاه بمدينة برلين. ولذكراه أقدّم هذه الكتابة الاستعاديّة.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.