}

عاشَتْ العربية في غرْبتها (6)

دلال البزري دلال البزري 22 أكتوبر 2023
استعادات عاشَتْ العربية في غرْبتها (6)
دلال البزري بندوة عن المرأة والسياسة في عمّان (1996)
تعريف:

عنوان هذا الكتاب، الذي ننشره على حلقات أسبوعية كل يوم أحد، تفصّله ثلاثة خيوط مختلفة:
ـ في الخيط الأول، يتكلم بصيغة الغائب المفرد. أي أنني أصف فيه محطات من حياة شخص، هو أنا: في إبحاري بالعربية، عبر أحداث سياسية ـ ثقافية.
ـ الخيط الثاني: أن العربية الراهنة ما زالت عائشة. ما زالت تقاوم من أجل البقاء، رغم تعثر أبنائها وإهمالهم لها. ويدعي هذا الكتاب بأنه ذرَّة في رمال إرادتها بالحياة.
ـ الخيط الأخير حماسي، يشبه صرخات التمنّي بالبقاء، مثل "يحيا الملك!" أو "يعيش الزعيم"! أقول "عاشت العربية!"، بمعنى أنني أتمنى لها البقاء، وتجاوز وحْشتها.

الوقائع المروية في هذا الكتاب كلها حقيقية، غير متخيّلة. وهي ناقصة بالتعريف. وأنا مسؤولة فقط عن صدقها.


مدرسة "الحسينية" 1968 ـ 1969
تحمل هذه المدرسة اسمًا مفخّمًا. يقول أبي عنها إنها تشبه مدارس أيام زمان، وإن أخلاقها وأنظمتها أشد صرامة من "ثانوية فرن الشباك"، رغم أنها مختلطة. وقصده أنه لن يكون مسموحًا لي بارتكاب المخالفات، كما أتيح لي "مع مدام عون"... ودليله على جدية هذه المدرسة أنها طلبت مني متابعة دروس صيفية تخصصها للراغبين بالالتحاق بها، أُمتحن على موادها في نهاية الصيف. وبنتيجتها، تقبلني المدرسة في صف الثاني ثانوي، أو ترفضني.
لا أبتهج بهذه المدرسة أول دخولي إليها. من بعيد، تبدو بيتًا قرميديًا ذا طابقين، مبني من حجر، تسوّره تصوينة عالية، وحديقة في خلفه. بيت من الذين أحبهم. ولكن عندما أقترب منه، أرى يافظة عملاقة من قماش منصوبة فوق مدخله، مكتوب عليها بخط غليظ "مدرسة الحسينية للبنين والبنات"... شبيهة بيافطات الأفران والدكاكين المتواضعة. أدخلها، وأتجول فيها مع أبي. فأجد ليوانًا عربيًا تحوّل إلى "قاعة" عارية تجمع ما كان صالونًا وغرف نوم ومطبخ... إلى صفوف وإدارة ونظارة. وما كان حديقة صار "ملعبًا" لتمضية الفرص القصيرة، عدلته الإدارة بتزفيته، فكان لونه أسود. بعد كل هذا الذي أشاهده، كيف يتحول بيت جميل مؤنس وحديقة أزهار وأشجار، إلى جرس وأساتذة وتلاميذ وساعات وحصص... وكأنهم كلهم ليسوا في مكانهم الطبيعي، كأنهم استعاروا المكان... أقارن بين "الحسينية" وبين الراهبات وثانوية فرن الشباك، فأجد أنها قصاص على ما ارتكبته في الأخيرة.
الفرق الآخر هو مكان المدرسة، إذ تقع في شمال شارع محمد الحوت في حيّ رأس النبع البيروتي. ما يعني أنها قريبة من منزلنا، في حيّ المزرعة. يعني أنني أروح وأجيء مشيًا على الأقدام. والجديد الجديد هو أن المدرسة مختلطة.
أول من أتعرف عليهم هو إبراهيم. يتابع مثلي "الدروس الصيفية". مشدود القوام، وعيونه خضراء مشتعلة. يكبرني بسنة واحدة، يعيد صف البكالوريا بعدما أخفق في امتحان الشهادة الرسمية. أمضى صفوفه الأولى في مدرسة إسلامية بيروتية، وهو يتكلم بحنَق عن "العلامة اللاغية". أول مرة أسمع بها. يشرحها لي: إنها تعني العلامة ما دون المتوسطة في اللغة الفرنسية، أو الإنكليزية، التي تسقط الطالب في امتحان هذه الشهادة الرسمية. وذلك مهما كان مجموع علاماته الأخرى عاليًا، مهما ارتفع عن المعدَّل. ويتابع إبراهيم:
ـ أنا شاطر في كل المواد... فيزياء كيمياء رياضيات... والأدب العربي... لكن العلامة اللاغية...! هذا ظلم! تعلمت في المدرسة وكنت تلميذًا نجيبًا. لم تكن علاماتي بالفرنسية سيئة... ولكن في الامتحان الرسمي أقل رحمة، نلتُ خمسة على عشرين فقط. ألف لعنة على العلامة اللاغية!
ـ وماذا ستفعل إذا رسبت في الدورة الثانية؟




ـ أتسجّل في شهادة "التوجيهية" المصرية. وعندها، لا مشكلة مع اللغة. بالعكس، سأرتاح، سأنال علامات عالية في كل المواد. وبعد ذلك، أذهب إلى دائرة "المعادلات" في وزارة التربية، وتكون شهادتي بالبكالوريا معترفًا بها في لبنان.
ـ والتكاليف والسفر والإقامة هناك؟
ـ أهلي قالوا إنهم سيؤمنون المبلغ، حتى لو استدانوا. وإذا لم يتمكنوا، أذهب إلى دمشق، وأدرس "التوحيدية". ولكنني افضّل "التوجيهية"، هي أعلى مستوى من "التوحيدية".
أتجاوب مع إبراهيم، وهو يتكلم عن تلك "العلامة اللاغية". كلامه يوصلني إلى ما كان يحركني وأنا في الراهبات ومدام عون: العروبة، فلسطين... ويضيف إليها "العدالة والحرية". أقول له، أثناء مشوار العودة إلى البيت، إنني أتعهد بـ"تقويته" بالفرنسية، مقابل أن يكلمني بالعربية. طبعًا لم نحترم هذا التقسيم. كلامنا هو خليط يميل إلى العربية، وجهدي التعليمي الفرنسي قليل.
وفي يوم من أيام آب الحار، نمرّ أمام بائع الصحف على الرصيف، ونقرأ عناوينها، كما نفعل يوميا، كـ"تدريب" لغوي حيّ. وتطلع علينا صورة دبابات في قلب ساحة مدينة، وجمْهرة من الناس غير مرحِّبين بها، يغطّون الدبابات بكثافتهم. إنه الغزو السوفياتي للعاصمة التشيكوسلوفاكية، براغ، والذين يحاصرون الدبابات متظاهرون تشيكيون محتجون... يغضب إبراهيم، يقول بأن الاتحاد السوفياتي لم يكتفِ بتأييد تقسيم فلسطين، هو ضد الشعوب القريبة منه، أيضًا.
ـ الاتحاد السوفياتي!؟ صديق الشعوب وعبد الناصر!؟
ـ لا تشدّي يدك كثيرا... الاتحاد السوفياتي له عيوب كثيرة...
ـ ...؟
ـ التشيكيون يريدون الحرية، أن يحكموا أنفسهم، لا أن يقرر "الكي. جي. بي" عنهم
ومن تشكوسلوفاكيا يأخذني إبراهيم إلى تفاصيل وتفاصيل.
ـ من أين لك كل هذه المعرفة يا إبراهيم؟
ـ سوف ترين بعينيك كم من الشباب مثلي يتكلم عن هذا الموضوع...
فيكون "نادي الرواد". وسهولة الوصول إليه. إنه في آخر شارع محمد الحوت. على خط المدرسة جنوبًا. يضجّ بالشباب والشابات. الحركة فيه لا تتوقف. حلقات نقاش، مواعيد تظاهرات، توزيع بيانات، جمع تبرعات، دورات تدريب على الإسعافات الأولية... والجو محموم، والشباب والشابات متحفزون، يتناوبون، يتكلمون بصوت عال، وبحماس. يأتي شباب ويخرج آخرون، ولا تتغير النبرة الواثقة، الغاضبة، الجذابة. أحاول الانخراط في هذا الجو. وأجد دائمًا الوقت، على حساب الدروس، والانضباط المدرسي.
تنتهي الصيفية، ويختفي إبراهيم عن النظر. لا أعرف عنه شيئًا. ربما نجح، ربما رسبَ، تخلى عن الشهادة، أو تمسك بها، فسافر إلى مصر، أو دمشق. ولكن جو "نادي الرواد" يمتد إلى المدرسة عندما تبدأ الدروس الشتوية. الصبيان في الصف أكثر من البنات. غالبيتهم من جنوب لبنان. يتكلمون مثل إبراهيم عن العروبة، عن فلسطين، عن العلامة اللاغية. وبعضهم له علاقة بـ"نادي الرواد" قبل عودته إلى المدرسة. هكذا تتيسر زياراتي إلى النادي، وأستفيد ممن معي في الصف نفسه لاختراع أعذار "شرعية" للغياب منه. فيزيد نشاطي، وفضولي بالعالم، وتتحسن عربيتي المحكية، وتبدأ أولى محاولاتي للتكلم بالعربية الخالصة من دون إدخال أية كلمة فرنسية، ما يبطئ من كلامي العربي، مع أنه يحثّني أيضًا على مزيد من العربية. أتوقف عن الكلام أحيانًا، أحاول أن أتذكر الكلمة العربية الملائمة، أو أسأل عنها، حتى أجدها. لأسجل لنفسي تقدمًا آخر، يفرحني.
أما الصفوف نفسها، فليست مهمة بالنسبة لي. أستخف بمادة الأدب الفرنسي، ولا أبالي بمادة العربي، رغم الحضور المشهدي الطاغي لأستاذها، رغم اندفاعي نحو العربية. وحجتي قوية هنا "أنا ضعيفة بالعربي". ولكنني غارقة بالعربية خارج المدرسة، في النادي والنقاشات والمناشير وتواريخ النكْبات والاحتفالات والخطابات وجمع التبرعات في الشوارع من أجل فلسطين.
ومن العاطفية، المشوبة بأفكار وتظاهرات، تتحول عربيتي حاجة عملية يومية، مرتبطة بنشاطي المتقطع في "نادي الرواد"، وبالنقاشات الحامية التي تدور بيننا في باحة الملعب. فلسطين والعروبة والعلامة اللاغية، ومعهم إسرائيل وارتباطها العضوي بأميركا، حرب التحرير الشعبية المسلحة، الفدائيين في جنوب لبنان. نلهث وراء جوّ "النادي" المنعش، نستمتع بأصواتنا الجهورة، التي تؤكد على صحة ما نحن عليه، من أجله نتجاهل المدرسة، ونرمي أستاذتنا بمئة علّة.
وفي نهاية السنة، أرسب في الامتحان الرسمي للبكالوريا قسم ثاني. وهذا ما يتوقعه أبي، بعدم انتظامي في المدرسة، وبعدم إيلائي الفروض أي وقت يُذكر، سوى بضعة أيام "مراجعة" سريعة عشية الامتحانات. لا مفاجأة إذًا. فقط ارتباك. أية مدرسة تستقبلني الآن، من دون أن تلزمني بإعادة سنة البكالوريا من جديد؟

(يتبع...)

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.