}

عاشَتْ العربية في غرْبتها (7)

دلال البزري دلال البزري 29 أكتوبر 2023
استعادات عاشَتْ العربية في غرْبتها (7)
دلال البزري مع ابن عمها طلال في صيدا (1956)

تعريف:
عنوان هذا الكتاب، الذي ننشره على حلقات أسبوعية كل يوم أحد، تفصّله ثلاثة خيوط مختلفة:
ـ في الخيط الأول، يتكلم بصيغة الغائب المفرد. أي أنني أصف فيه محطات من حياة شخص، هو أنا: في إبحاري بالعربية، عبر أحداث سياسية ـ ثقافية.
ـ الخيط الثاني: أن العربية الراهنة ما زالت عائشة. ما زالت تقاوم من أجل البقاء، رغم تعثر أبنائها وإهمالهم لها. ويدعي هذا الكتاب بأنه ذرَّة في رمال إرادتها بالحياة.
ـ الخيط الأخير حماسي، يشبه صرخات التمنّي بالبقاء، مثل "يحيا الملك!" أو "يعيش الزعيم"! أقول "عاشت العربية!"، بمعنى أنني أتمنى لها البقاء، وتجاوز وحْشتها.

الوقائع المروية في هذا الكتاب كلها حقيقية، غير متخيّلة. وهي ناقصة بالتعريف. وأنا مسؤولة فقط عن صدقها.


مدرسة "المركز التربوي" 1969 ـ 1970
هكذا يبدأ صيف هذه السنة. بالسؤال عن مدرسة ملائمة، بعدما استُنفدت إمكانيات "الحسينية". أؤكد لأبي وأمي بأنني "أريد ان أتابع تعليمي..."، كلما لاحَ "عريس" في الأفق. وهم محتارون. يرونني منكبّة على قراءة الكتب والمجلات، ومتهرّبة من المدرسة وفروضها. وأنا مثل ولد شقي بريء، لا أستطيع التوقف عن الشيْطنة، وفي الوقت نفسه أشفق على أهلي، لما أتسبّب لهم من تعَب. أقول لهم بأنني سوف أعوّض قليلًا، أثناء الصيف وأشتغل.
ـ بماذا تشتغلين؟ يسألني أبي؟
ـ سوف أجد أكيد...
فيكون حظي في مدرسة تعليم اللغة الفرنسية عن طريق السمع ـ البصر، الواقعة على خط الكورنيش بالقرب من بيتنا. ومديرها، الأستاذ روبير، عجوز في جيبه علبة سجائر "بافرا"، لا يتوقف عن سحب سجائرها وتدخينها. محاط بغيوم من الدخان، والرائحة الوسخة... أينما تواجد. وما عدا تحرّشات الأستاذ روبير، التي أنهيها دائمًا بخبْطه على يديه، أطلق معها كلمات قاسية بالعربية، هي أولى تدريباتي على ردّ متحرشي الشارع... الباقي في متناول اليد. الدروس لا تحتاج إلى التحضير، والتلامذة موعودون بالنجاة من العلامة اللاغية في امتحان البكالوريا إذا ما اجتازوا اختباراتها في نهاية الدورة. أي آخر الصيف.
ويكون أبي قد وجد لي مدرسة ليلية، مديرتها الأستاذة أديل معلوف، يعاونها زوجها المسيو فيليب، وتتبع المنهج الفرنسي وحده في شهادة البكالوريا قسم ثان. تبدأ دروسها في الرابعة مساء، وحتى التاسعة. موقعها في السوديكو، البعيد عن البيت. أصِل إليها بالباص بعد الظهر، وأبي يحضر مساء بسيارته ليوصلني إلى البيت عند انتهاء الدروس.
منهاج المدرسة سهل صعب. أختار شهادة الفلسفة، بدل شهادة العلوم الاختبارية، أو الرياضيات. ربما لأنني لا أتوقع المثابرة على الدروس. وحسنا فعلتُ. العربية في هذا المنهج سهلة عليّ، بمستوى الصف التكميلي. وقد بلغته قليلًا. تبقى المفاجأة في الرياضيات "الحديثة"، لا أستوعب صدمتها. وأكتشف بعد درسين أو ثلاثة أن قواعدها هي امتداد لأخرى يفترض بالتلميذ أن يكون اجتازها في صف البكالوريا قسم أول.
في هذه الأعوام السابقة، التي تعلمت فيها الرياضيات "القديمة"، كنت أحلّ أحيانًا مسائل رياضية، عندما لا يكون مزاجي منقلبًا عليّ. أما الآن، فمثل أطرش في زفّة، لا أفهم شيئًا. وأخجل من ذلك. مع هذه الرياضيات "الحديثة"، العربية الهيّنة، أجد لنفسي سببًا "منطقيًا" للهروب من الصفوف أيضًا.
فخارج المدرسة العالم ما زال ساخنًا، وأنا منجذبة إلى حماه. بعد "نادي الرواد"، أتعرف على شباب منظمة العمل الشيوعي، يستقبلونني في هيئة اسمها "حلقة". وتعني أنني عضو مرشح للانتساب "رسميًا" إلى هذه المنظمة، بعد فترة من "التثقيف"، و"الاختبار النضالي".
ومن "المهمات" الملقاة على عاتق الممتحَنين على يد المنظمة كان التدريب العسكري في مخيم صبرا، والمشاركة في أعمال منظمتنا، قيد التحول، والمتعاقدة مع منظمة فلسطينية اسمها الجبهة الشعبية الديمقراطية لتحرير فلسطين. التدريب العسكري فيه مشقة جسدية، ودروس في فكّ الكلاشنكوف وإعادة تركيبه، وعلاقة مع المدرب، ذي الملامح واللهجة الفلسطينية القاسية. العربية هنا مثل فعل إيمان. أنا مرتبطة بهذه الجبهة والمنظمة بأواصر النضال، وفي قلب لهجات عربية متنوعة، لها قضية واحدة.




ولكن أيضًا، بما أن غرض "الحلقة" هو تثقيف أعضائها، عليّ أن أقرأ بالعربية نصوصًا أصدرتها المنظمة، وأخرى لكارل ماركس، وفريديريك أنجلز. والمشرفون على الحلقات يعلمون بأن قاعدتهم الشبابية تتضمن فرنكوفونيين، لا يحسنون العربية، ولكنهم يؤمنون بالعروبة. فكان ذاك الابتكار، بأن تشكل "حلقة الفرنجْ"، ويكون المشرف عليها مندوب عن الخلية يتْقِن العربية والفرنسية. وأنضم إلى هذه الحلقة، مع غيري من الفرنكوفونيين، ومعظمهم من تلامذة المدارس الفرنسية، أو طلاب في جامعة "الايكول دي لتر" الفرنسية. نأتي إلى الاجتماع الحزبي، ومعنا كتاب واحد بلغتين ونسختين، بالعربية والفرنسية، لكارل ماركس، أو فريدريك أنجلز، عنوانه "البيان الشيوعي". فنقرأ بإشراف مندوب الخلية مقاطع من الكتاب، ويشير إلى نصّها بالعربية، وأقرأها، كوني "الأقوى" بالعربية من بين أولئك الفرنكوفونيين.
الآن، لا أعرف إلى أي مدى استفدتُ من هذه الجلسات. كان الرفيق المشرف مزاجيًا هو الآخر. لا يعاملنا بصفته أستاذًا، إنما بصفته يقوم بمهمة حزبية، لا علاقة لها بـ"المنهج". يبدأ من الأصعب إلى الأسهل، ولا يقيم للتراكم حسابًا. وإن كان فعلًا "قويًا" جدًا باللغتَين العربية والفرنسية. والواضح أن "القوة" في هكذا حالة لا تُغني عن "الطريقة". والتجربة تنتهي بالكتاب الذي بدأنا به، "البيان الشيوعي". فجلسة تلو الأخرى، لا نتقدم بصفحاته كثيرًا، أو ننتقل إلى كتاب آخر. حتى حفظتُ أولى فقراته، وبقي صداها "الشبح الذي يخيّم فوق رأس أوروبا..." يرنّ في أذني، مثل مطلع قصيدة فيكتور هوغو، عن شارلمان الإمبراطور، ذي اللحية المزهرّة.
ومع ذلك، فأنا أفرح بهذه الجلسات. تعطيني ثقة بلغتي العربية المتنامية. تدفعني إلى قراءة مجلة "الحرية"، بنوع من المثابرة الأقرب إلى دروس الامتحانات. وتشعرني بأنني جزء حقيقي من التظاهرات المتزايدة والصاخبة، تأييدًا لفلسطين ولحرب التحرير الشعبية. وفي واحدة من التظاهرات المندِّدة بمشروع روجرز للسلام مع إسرائيل، أمشي في "بلوك" المنظمة، إلى جانب بلوكات أخرى، لبنانية وفلسطينية. أول تظاهرة عارمة أعطت تاريخها اسمًا لشارع البربير، الواقع في آخر المزرعة: ساحة 23 أبريل/ نيسان 1969، إثر اشتباكات بين الجيش وبين الفدائيين في الجنوب اللبناني. قبلها وبعدها، تظاهرات أصغر منها، أو أكبر، ضد هذا الجيش، ضد الإمبريالية الأميركية، ومع حرب تحرير فيتنام.
لا أنتبه في خضم كل ذلك إلى اقتراب موعد الامتحانات الرسمية لنيل الشهادة. ما زلت كما في بداية العام الدراسي. أمضي نهاري بين تدريب عسكري وتظاهرة وتوزيع مناشير وحملات تبرّع، وأنهيه باجتماعات حزبية ولقاءات متنوعة. ثم أعود إلى المدرسة قبل ساعة أو أقل من موعد الانصراف، ويأتي أبي بسيارته، ونعود إلى البيت.
وقبل شهر واحد من هذه الامتحانات، يفاجئني أبي بسؤال:
ـ هل تريدين أن تتعلمي أم لا؟ أم أن تتزوجي...؟ ماذا تختارين؟
أحسب بأن ثمة عريسًا خلف ذلك...
ـ عريس...؟
ـ نعم، وهو من عائلة محترمة، وذو أخلاق ومركز اجتماعي...
ـ لا... طبعًا. أريد أن أكمّل تعليمي.
ـ ولكنك لم تنتظمي في دروسك، وكل الجيران يتكلمون أنك تمشين في التظاهرات... والتبرعات...
ـ طيب... طيب... إذا أكملتُ هذه الشهادة بنجاح هل تعفيني من العريس؟
ـ لكن لديك شهر واحد... هل يكفيكِ؟
ـ سأدرس طوال هذا الشهر... لن أتحرّك من مكاني.
وهكذا صار. أقضي شهرًا بأكمله رابطةً الليل بالنهار، أستعين بحبوب "يقظة"، اشتريتها سرًا من الصيدلية. حتى نلتُ شهادة الفلسفة الفرنسية الرسمية، وبعلامات متفاوتة. أعلاها، علامة مادة الفلسفة نفسها، تليها مادة الأدب الفرنسي، والاثنتان تنقذانني. وعلامات الفلسفة ما كان يمكن أن تبلغ تلك الدرجة العالية لو لم أعتمد فيها "منهج" الديالكتيك العلمي الذي حفظته من برنامج التثقيف الحزبي، وكان على رأسه كتاب فريديريك أنجلز "ديالكتيك الطبيعة"، بالفرنسية.

(يتبع...)

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.