}

وقفة مع "بابنوس" و"فستق عبيد": في أسئلة الحرية والعبودية

مها العتوم 5 أكتوبر 2023
تقدّم الكاتبة الأردنية سميحة خريس في روايتها "بابنوس" رؤية رمزية متخيلة للواقع العربي خصوصًا في دارفور السودان من جهة، وللواقع الإنساني عمومًا من جهة أخرى، ويمكن التوصل إلى مقولة الرواية من خلال القيم الإنسانية والأخلاقية التي تقدمها، فهي في زمن التطرف تدعو إلى الاعتدال والتوازن، بدءًا من السلطة ومرورًا بالدين وانتهاء بالقيم الإنسانية المختلفة، دون الوقوف عند شروط اللون أو الجنس أو العرق، بل تتجاوزها جميعًا، لتعيد الكون إلى لحظته الأمومية الأولى دون حروب ومنافسات وصراع مصالح.

ورواية "بابنوس" تقدّم في ظاهرها قصة متخيلة بسيطة لأناس بسطاء من السودان اختاروا الابتعاد عن المدينة والمركز، لكن تطاولهم الحرب القائمة في دارفور، وتنتهي القصة نهاية مأساوية بتشريد هؤلاء البسطاء في السودان وخارجه، إلا أن هذا حاضر النص، وثمة علاقات غيابية يستدعيها ويحيل إليها. "إن العلاقات الغيابية علاقات معنى وترميز، فهذا الدال يدل على ذاك المدلول، وهذا الحدث يستدعي حدثًا آخر، وهذا الفصل الروائي يرمز إلى فكرة ما، وذاك الفصل يصور حالة نفسية ما، أما العلاقات الحضورية فهي علاقات تشكيل وبناء" (تزفيتان تودوروف، الشعرية، ترجمة: شكري المبخوت ورجاء بن سلامة، دار توبقال للنشر، المغرب، 1987، ص31).

وأما روايتها "فستق عبيد" التي نالت عنها جائزة كتارا 2017 فإنها تعدّ بشكل من الأشكال امتدادًا لرواية "بابنوس" التي تسبقها زمنيًا، ويمكن ربط الروايتين معًا كأنهما قصة واحدة ممتدة، أو قراءتهما كقصتين منفصلتين دون أن يضر الوصل أو الفصل بقدر ما يغني ويثري، وهما تتناولان موضوعة العبودية في السودان، ومع أن الأمر يبدو كأن سميحة خريس قد عادت من العصر الحديث إلى الأقدم زمنيًا، إلا أنني أرى في هذا الرجوع تعميقًا وتبئيرًا لمقولة رواية "بابنوس". وأرى أن الكاتب والمبدع عمومًا يدور في إطار مقولات محددة تشكل خطابه الفني والموضوعي في مجمل أعماله وعلى مدى حياته، ولذلك لا أستغرب مقولة بورخيس في سيرته الذاتية حين قال عن كتابه الأول: "لدي شعور أن كل ما كتبته لم يكن سوى تطوير للأفكار المعروضة في صفحاته. أشعر أنني طيلة حياتي كنت أعيد كتابة هذا الكتاب الأوحد".

ومن هنا فإن لكل كاتب مقولاته التي تتلون وتتشكل وتتسع وتضيق. ولكنها تدور في إطارات محددة، وفي "فستق عبيد" كما في "بابنوس" أسئلة الحرية والعبودية المتشابكة إلى حد التماهي أحيانا، ولذلك تصبح المفارقة تقنية أساسية في العمل، وتتجلى من خلالها السخرية التي يعج ويضج بها السلوك الإنساني، والتي يظهر تعقدها في "بابنوس"، وتزداد تعمقًا وتعقيدًا في "فستق عبيد". فليس هناك مفهوم واحد للحرية، ولا مفهوم واحد للعبودية.

إن مسألة الحرية بصورها المختلفة أحد أهم أركان العمل الروائي عند سميحة خريس على مدى تجربتها الكتابية الروائية، ولكنها تلتقط الثيمة وتثبتها في الروايتين الأخيرتين وتربطهما بقضية إنسانية عرفتها عدة دول عربية ومنها السودان، لتعالج أبعادها المختلفة من خلال قصة محددة وفي إطار ما يعرف بالرواية التاريخية التي هي امتداد ما لرواية يحيى حقي من زاوية مختلفة.

وسميحة خريس تربط بين الشخصي والعام، والذاتي والموضوعي، وتشكل مادة روائية من المزج بين ما عايشته على المستوى الشخصي، وما قرأته وتعلمته وتوصلت إليه من خلال الدرس والبحث، وبين هواجس الحرية التي تلاحقها وتعبر عنها بهذا الشكل أو ذاك، وفي أعمالها الجديدة كما في أعمالها القديمة على حد سواء. حتى يزداد سؤال الحرية تعقيدًا وتشابكًا في "فستق عبيد" خاصة عند ارتباطه بالدين. وكانت قد طرحت هذه القضية أيضًا في "بابنوس"، ثم عادت إلى تعميق طرحها في "فستق عبيد" ليظل سؤال الحرية مطروحًا وإشكاليًا حين يرتبط بالدين وحين يرتبط بالسلطة الداخلية والخارجية على حد سواء.

سميحة خريس في "بابنوس" وفي "فستق عبيد" وفي مجمل أعمالها تعبّر عن الإنسان أيًا كان لونه وعرقه وجنسه ودينه  


وأما الركيزة الأخرى في "فستق عبيد" والتي تشكل أحد أهم أركان الخطاب الروائي عند سميحة خريس بشكل عام فهي المرأة، هذه الصورة التي تتعدد وتتنوع ضعفًا وقوة، وجمالًا وقبحًا، ولكنها تجعلها دائمًا حاضرة وتشكل بها ومن خلالها ركنًا أساسيًا في صياغة الأحداث وتوجيهها، ففي "بابنوس" كانت الحكّامة امرأة أكثر عدالة ونزاهة وحكمة من كثير من رجال "الخربقة"، وهناك أوسني وعاج وهي شخصيات نسوية تتفاوت حضورًا وقوة ولكنها شخصيات مؤثرة وركائز في صناعة العمل الروائي، وكذلك الأمر في "فستق عبيد" وشخصية رحمة المتحولة من الحفيدة الجميلة إلى الجدة على مدى أحداث وزمن الرواية والتي تعد بصورة من الصور، وكما ذكرت الروائية نفسها هي جدة قديمة لبابنوس إذا ما قرأنا الروايتين متصلتين على أنهما روايتا أجيال. وهذه المرأة هي ركيزة أساسية في هذا العمل، ليس لدور البطولة الذي تحمله، وليس لدورها المركزي في القص، وإنما للوظيفة التي تؤديها في حمل المعنى الذي تريد الروائية إيصاله، والخطاب الذي تحمله في هذا العمل، والذي يتوازى مع دور المرأة في أعمالها المختلفة منذ بداية تجربتها. ولو تسنى المجال هنا لعرضت لبعض صور المرأة المتنوعة في أعمال سميحة خريس الأخرى، والأساليب المختلفة التي تعرض بها سميحة خريس نساءها، إنهن نساء ذوات حضور، وكل رواية من رواياتها ستعرض إحدى جوانب قوة المرأة التي لا تقف بها عند حدود المرأة التقليدية المرغوبة الجميلة الراضخة للرجل أو المجتمع أو السلطة بصورها المختلفة. وإنما تحمل هاجس الحرية جنبا إلى جنب مع الرجل، وتدافع عما تؤمن به طوال الوقت.

وهناك مسألة أخرى أعدها مفتاحا مركزيا في قراءة "فستق عبيد" و"بابنوس" والأعمال الأخرى لسميحة خريس وهي قضية المكان، إذ هناك ارتباط عاطفي وإنساني بالمكان الذي تختلقه خريس، أو تقدمه في روايتيها: واقعيا كان أم مجازيا، وكل مجاز هو تحول ما أو تمثيل ما للواقع. لكن المكان أحد أبطال العمل الروائي، لقد ظل المكان، وهو في "فستق عبيد" كما في "بابنوس" يركز على السودان، وعلى أوجاع المكان العربي الغني بخيراته الذي تتناهبه الأيدي والمطامع، كما كان المكان أساسيا ومركزيا في أعمال سابقة، على الرغم من أهمية الزمن ومركزيته كذلك. إلا أن المكان العربي والذي يتحدد في السودان في هاتين الروايتين يشكل ركيزة في تقديم مقولتهما، وثيمة الحرية والعبودية ترتبط بشكل مباشر بالمكان العربي، ولكنها تحيل على صورة الحرية والعبودية في أمكنة أخرى، والقضايا الإنسانية الكبرى مشتركة بين البشر جميعًا على اختلاف المكان والزمان، ولذلك فحرية الإنسان مستهدفة دائمًا من قبل السلطة في الشرق خصوصًا وفي الغرب والعالم كله عمومًا. ويمكن النظر إلى ثنائيات المكان في الرواية من زاوية شرق/ غرب أيضا، أو العلاقة الجدلية بين الأنا والآخر، حيث السودان/ الشرق من جهة، وفرنسا/ الغرب من جهة أخرى، وهذه هي الثنائية الإشكالية: القديمة الجديدة. صورة الشرق في عين الغربي، وصورة الغرب في عين الشرقي.

إن "فستق عبيد" هي حفر عميق في مفهوم الظلم ومفهوم العبودية الذي تعرضت له السودان بالذات، لكن الرواية في الوقت نفسه، رغم تاريخيتها وارتباطها بمكان وزمان محددين، إلا أنها تحمل فلسفة مرتبطة بالإنسان عمومًا، وهو مرتبط بالجانب المظلم والأسود في داخله بغض النظر عن لونه، ولذلك نجد الأسود يظلم الأسود والأبيض يظلم الأبيض، والأسود والأبيض يتبادلان الظلم. كما أن الشرق يظلم الشرق والغرب يظلم الغرب، ويتبادلان الظلم كذلك بدرجات مختلفة، فالرواية وروايات سميحة خريس عموما تنطلق من المكان المحلي أحيانًا ومن العربي أحيانًا أخرى، ومن القضية أو القضايا المرتبطة بالحكاية أو الحكايا لتطاول الإنساني عمومًا في أي مكان وزمان. لأن ما يحدث للسودان يمكن أن يحدث في أي مكان أو زمان آخر ما دام الإنسان نفسه، قادرًا على الظلم، وما دامت الظروف تصنع التغييرات والتحولات في الإنسان. وبالتالي فإن المفتاح المركزي لقراءة سميحة خريس في أعمالها وعلى مدى تجربتها الروائية هو سؤال النفس الإنسانية، والوجود الإنساني، والحفر العميق فيها وفي قضاياها المختلفة والمعقدة والمتشابكة.

إنها إيديولوجيا الفن والعمل الإبداعي، الذي يحمل خصائص فنية وجمالية تمنحه البقاء والخلود وتجاوز التاريخ واللحظة التي تجري فيها الأحداث. "إن النص الأدبي بأيديولوجيته الخاصة المتميزة يكشف زيف التصورات السائدة، وهي تصورات محكومة بوعي زائف أحيانًا، أو محكومة بعقدة الخوف من السلطة السائدة للنصوص والتصورات والمفاهيم" (فخري صالح، أرض الاحتمالات/ من النص المغلق إلى النص المفتوح في السرد العربي المعاصر، ط1، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، عمان، 1988، ص 125).

وهاتان الروايتان وإن كانتا تقدمان الإنساني على السياسي فإنهما في الوقت نفسه تفضحان السلطة بأشكالها المتنوعة، على الرغم من أنهما ترتبطان ظاهريًا بمكان واحد وزمان محدد، إلا أنهما تحيلان على المكان العربي والإنساني على امتدادهما، والزمان العربي والإنساني أيضًا.

ولذلك فإن مهمة النقد هي الكشف عما وراء النص، وعما لم يقله وأراد من المتلقي أن يصل إليه، إنه يعيد بناء النص فنيًا وجماليًا، ويقدم الخطاب الذي ينطلق منه المبدع في صياغة عمله الروائي، فالناقد يستطيع "أن يعيد فحص الكثير من الخطابات الروائية العربية الحديثة، منقبًا عن تجليات المسكوت عنه والمغيب والمقموع، وربط كل ذلك بالسياق الثقافي والتاريخي وبالتجربة الحسية للإبداع، لإماطة اللثام عن النصوص الغائبة أو الموازية ورؤيا العالم، وأيديولوجية النص الروائي، والدلالة الثقافية والفكرية، والأشكال والأنساق السردية التي يتحرك من خلالها النص والتي تتضافر مع مستوى العناصر الحضورية والظاهرية لإعادة تشكيل وتكوين الصورة الممزقة والمشوهة للخطاب الروائي الأصلي" (فاضل ثامر، المقموع والمسكــوت عنه في الســـرد العربـــي، ط1، دار المدى، بغداد، 2004، ص ص 14- 15).

وأخيرًا فإن سميحة خريس في "بابنوس" وفي "فستق عبيد" وفي مجمل أعمالها تعبّر عن الإنسان أيًا كان لونه وعرقه وجنسه ودينه، والقضايا الفلسفية المرتبطة بهذا الإنسان ووجوده واستمراره وصراعه ومصيره، الذي يرتبط بالعلاقة الجدلية بين الحرية والعبودية وبين الشرق والغرب وبين الماضي والحاضر.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.