}

ذاكرة آخر اليهود المصريين

دلال البزري دلال البزري 16 نوفمبر 2023
استعادات ذاكرة آخر اليهود المصريين
نيسيم زوهار، إسحق غورين غورميزانو ورونيت متالون


المقصود هنا بالذاكرة، الرواية المكتوبة. أما اليهود، فهم ثلاثة روائيين إسرائيليين من أصول مصرية. أسماؤهم ستأتي بعد قليل، وكذلك عناوين رواياتهم (*). كتبتْ عنهم جامعية فرنسية، اسمها رينا كوهين مول، في دراسة مطوَّلة عنوانها "بحثًا عن المشرق الضائع: كتّاب من إسرائيل يرْوون مصر".

يجمع الثلاثة توقيت الصدور: إنه المناخ السلمي الذي ساد في إسرائيل، بعد إبرام معاهدة السلام بينها وبين مصر، عام 1978. وإذا قستَ الوقت الفاصل بين إعلان الرئيس المصري أنور السادات عن نيّته زيارة إسرائيل، وبين توقيع هذه المعاهدة، أي 1977، يمكنكَ تصوّر لهْفة الروائيين... بضعة أشهر على المعاهدة، وانطلقوا، وكأن مخطوطاتهم كانت جاهزة، ولم يحتاجوا إلا لإخراجها من الأدراج.... في مناخ "تحولت فيه مصر من أكبر عدو لإسرائيل، إلى صديق".

زاوية نظر كوهين في هذه الدراسة واضحة: عندها أن الرواية نوع غير منفصلة عن حركتَي التاريخ والمجتمع. نوع كلي، شامل، يتفوَّق على غيره من أصناف الكتابة، بما يضيفه من رحابة ومساحة. من هنا يأتي تأثير الرواية. لذلك ترى كوهين أن ما تتناوله من روايات لمصريين يهود له علاقة قوية بالتاريخ وبالمجتمع.

وبناء على ذلك، تسْهب كوهين في وصف "عملية الانصهار" التي خاضتها الحركة الصهيونية. منذ بدايتها، رمتْ إلى "خلق إنسان جديد" ينْسف ماضيه وماضي أهله الذين بقوا في الشَتات، خارج إسرائيل. وهذا "الإنسان الجديد"، ينظر إلى اليهود ذوي الأصول العربية، وكأنهم كتلة منصهرة واحدة، لهم مسمّيات معينة: إنهم "جماعة الشرق"، أو "اليهود الشرقيين"، أو "اليهود العرب". فتضعهم كلهم في سلّة واحدة، موحية بأنهم جماعة واحدة، في تاريخها وطرق عيشها... فيما هم مختلفون جذريًا عن بعضهم، وبلادهم التي قدموا منها مختلفة أيضًا.

فإسرائيل، منذ نشأتها، خاضت عملية الاندماج "الوطني" بالقوة، في قالب انصهاري واحد، مؤسسوه أصحاب ثقافة أوروبية وأصول أشكنازية. والروايات التي نحن بصددها حطّمت هذا القالب. فهي تسرد وقائع مختلفة عن تلك التي فرضتها إسرائيل في نشأتها؛ والتي لا تتكلم سوى عن العذاب والشقاء اليهودي في البلدان العربية. تقول الروايات عكس ذلك تمامًا، تنقض "المركزية الغربية" التي نشأت عليها عملية الاندماج القسرية بين مختلف المهاجرين اليهود، مهما كانت أصولهم.

والروائيون الثلاثة هم: نيسيم زوهار. ولد عام 1937 في الإسكندرية وهاجر إلى إسرائيل في عمر الثالثة عشرة. الثاني إسحق غورين غورميزانو، ولد أيضًا في الإسكندرية عام 1941، وهاجر الى إسرائيل وهو في العاشرة من عمره. والثالثة رونيت متالون. ولدت في إسرائيل عام 1959، ولكن والدتها إسكندرانية المولد، هي بطلة الرواية وصاحبتها، تستعيد عبرها ذاكرتها المصرية.

الزمن الخلْفي الذي يتناوله الروائيون الثلاثة هو زمن واحد: مصر التي يحتلها البريطانيون منذ عام 1882، إلى عهد الملك فاروق، ثم انقلاب "الضباط الأحرار"، وصعود عبد الناصر، وأخيرًا حرب سيناء عام 1956، المعروفة عندنا بالعدوان الثلاثي على مصر.

عدد اليهود المصريين وقت تأسيس إسرائيل لا يتجاوز الثمانين ألفًا. غالبيتهم من اليهود الشرقيين، سفارديم، يعود تاريخ استقرارهم في مصر إلى القرن الثاني عشر، مطرودون من إسبانيا بعد "الرُكونْكِسْتا"، أي استعادة الكاثوليك لإسبانيا من الحكام العرب، تهجير المسلمين منها ومعهم اليهود. لاحقًا، انضم إليهم في مصر يهود أتراك. وازداد عددهم في أوائل القرن الماضي مع ازدهار إقتصادي عرفته مصر، بعد تطوّر تجارة القطن وافتتاح قناة السويس. في عام 1948، هاجر أقل من نصفهم إلى إسرائيل، رغم كل النشاط الصهيوني الذي سبق هذا التاريخ بثلاثة عقود أو أربعة. أما الباقون، فتوزّعوا بين الولايات المتحدة وكندا وفرنسا وإيطاليا وبريطانيا.

ما يجمع الروائيين الثلاثة وحْدات مختلفة.

تنضحْ هذه الروايات بنوع من الحنين التراجيدي، لأن إمكانية إشباعه مستحيلة (في الصورة: "الذي نراه وجهًا لوجه"، "صيف في الإسكندرية"، و"ملوخية أمي")


إنهم يغطون عشر سنوات بين عام 1940 وعام 1950 من تاريخ حياتهم في الإسكندرية. جميعهم من المذهب اليهودي الشرقي، ولكنهم لا يمارسون الطقوس الدينية. وأحيانا ينتقدونها. ولكنهم يجتمعون عائليًا في المناسبات الدينية الكبرى. ينتمون إلى طبقة ميسورة، تعاطت تجارة القطن والمضاربات في البورصة والرهان على سباق الأحصنة. والترفيه يحتل مكانًا كبيرًا في نشاط أبطال هذه الروايات، مثل الحفلات الراقصة وألعاب القمار لدى الرجال، وألعاب الورق لدى النساء. حياة رخاء وانشراح، "مثلهم مثل القناصلة الفرنسيين أو الإيطاليين أو الأفندية الأتراك وضباط جيش جلالة الملك فاروق أو الملك جورج السادس".

إنهم مواطنون كوزموبولتيون، يتْقنون عدة لغات أوروبية. يتكلمون العربية بين أهلهم. هويتهم الدينية، أو الوطنية، هي نتاج تهجين لخيارات متعددة متوفرة أمامهم ولمخيلتهم الخصبة: "عندما كانوا يقولوا "الله"، لم يكن واضحًا إن كان الله يهوديًا أو مسلمًا أو مسيحيًا. والأهم بالنسبة لهم أن الموضوع الديني من أساسه غير مهم على الإطلاق".

والثلاثة يجمعون أيضًا على وصف النساء في ذاك الزمن وتلك البقعة: النساء اليهوديات لا يختلفن عن أخواتهن المسلمات والمسيحيات. يلتزمن بيوتهن، ولا يخرجن إلا برفقة فرد ذكر من العائلة، حتى لو كان طفلًا. والزيجات هي دائمًا نتيجة ترتيبات عائلية. ولا يمكن أن تتم إلا بين أفراد الديانة الواحدة.

تنضحْ هذه الروايات بنوع من الحنين التراجيدي، لأن إمكانية إشباعه مستحيلة، حتى من دون الحاجة إلى الذهاب لذاك المكان- الزمان؛ إسكندرية ذاك الزمن، عالم اندثر، إنتهى. الأبطال يلْسعهم حنينهم إلى تلك "الجنة الضائعة"، إلى تلك البقعة الأسطورية من الأرض، تلك المدينة العالمية الواقعة شرق المتوسِّط، حيث الحياة كلها لذة. تطرح رونيت متالون السؤال على والدتها إذا كانت نادمة على ترك مصر، فتجيب: "كلا، ولكنني أشتاق إليها حتى الموت".

وحنين إلى الموائد الإسكندرانية... بعد عام على وفاة والدته، يشتاق نيسيم زوهار إلى الملوخية، التي لم يذقها منذ خمسين سنة. فيقرر أن يطبخها، بعدما سأل عن وصْفتها وجمعَ بهاراتها، ونفّذ مراحلها بنجاح... ومن الملوخية ينتقل زوهار إلى الكشف عن علاقاته المعقّدة بأمه، ونمط علاقتها هي بأمها وأخواتها البنات، ومناخ الفرح والخفّة والتواطؤ بين النساء.

حتى جاء اليوم الذي "فجّر كل شيء"، وأرغم العائلات على الرحيل. جرّتهم إسرائيل إليها، بقوتها التعبوية والتنظيمية. كانت الهجرة إليها "ضرورة يجب الانصياع إليها". ليس بالحماسة أو العقيدة، إنما بحتمية أشياء الحياة، مثل القدر. يكتب إسحق غورميزانو: "كان والدي يردّد بأنه إذا كان هناك دولة لليهود، فمن الطبيعي أن يذهب اليهود إليها ويعيشوا فيها. ببساطة هكذا، من دون حمّية ميسيانية أو حماسة صهيونية. ببساطة هكذا، بقوة المنطق، كأمر لا مفرّ منه".

الوصول إلى إسرائيل يشكّل صدمة عند الثلاثة. صدمة وعدم فهم. متالون: "المجتمع الإسكندراني الأصلي لليهود المصريين المهاجرين كان كوزموبوليتيًا، متعدّد اللغات. لم يهيئهم لمجتمع مهاجرين إسرائيليين، تختلف قواعد لعبتهم. فهم لم ينتقلوا من ثقافة إلى أخرى، إنما فرضت عليهم ثقافة أحادية واحدة".

وهم بتعبيرهم عن هذه الصدمة وكلامهم المطوَّل عن سُبل مقاومتها، يطرحون هوية "نسبية" غير ثابتة الى الأبد. هوية في حالة تفاعل مستمر مع محيطها، تتغير، ترتدي وجوهًا مختلفة. وهي في مواجهة مباشرة مع السردية الصهيونية التي فرضت هوية واحدة، جديدة ومطلقة.

هؤلاء هم آخر يهود مصر. آخر الشهود على نهاية فصل من فصول تاريخهم. عام 2017، بلغ عدد اليهود المصريين ثمانية عشر، جلّهم من النساء العجوزات. وفي عام 2020، كان في القاهرة خمس نساء يهوديات ورجل واحد، أسْلمَ. أما في الإسكندرية، فصاروا أربعة.

كما نعلم، أخفقت عملية السلام التي سمحت بكتابة تلك الروايات. وانتقلت المنطقة إلى مناخ حربي جديد. ومعه جاء غزو إسرائيل للبنان عام 1982، وفتح الأرشيف الرسمي للدولة اليهودية لعام 1948. فكانت التسعينيات، وصعود "المؤرخين الإسرائيليين الجدد"، الذين نستعيد بعضهم هذه الأيام مع الحرب على غزة. وقد انكبوا على تكذيب الرواية الصهيونية لتأسيس إسرائيل، بتفكيك سرديتها وإقرانه بوقائع تاريخية كشف عنها الأرشيف.

(*) عناوين الروايات:
نيسيم زوهار:"ملوخية أمي". إسحق غورين غورميزانو: "صيف في الإسكندرية"، "بيضاء"، و"في الطريق الى الملعب". رونيت متالون: "الذي نراه وجهًا لوجه" و"أصوات خطواتنا".

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.