}

خوان غويتيسولو صاحب الروح المغربية

بشير البكر بشير البكر 2 نوفمبر 2023
استعادات خوان غويتيسولو صاحب الروح المغربية
خوان غويتيسولو

ليس هناك بلد في العالم العربي جذب قدرًا من الكتاب والفنانين الأجانب مثل المغرب، الذي لم يكتفوا بزيارته، من أجل التعرف على تنوعه وغناه الثقافي، بل تم اختياره وطنًا ثانيًا حتى الوفاة والدفن في ترابه، كما هي حال الروائي الأميركي بول بولز الذي عاش في طنجة منذ أواخر الأربعينيات، حتى رحيله ودفنه هناك عام 1999. وكذلك الأمر بالنسبة إلى الكاتب الإسباني خوان غويتيسولو، الذي عاش العقدين الأخيرين من حياته في مدينة مراكش، التي سحرته منذ زمن طويل، قبل أن يختارها كمكان جغرافي للإقامة والحياة، بل كانتماء روحي وجداني وثقافي للمغرب وللمدينة بد ذاتها، التي كان يعد نفسه أحد أبنائها، ولذلك بذل كل جهده كي يضرب جذوره عميقًا فيها.

هو واحد من الكتاب الإسبان الأكثر شهرة خلال النصف الثاني من القرن العشرين.
عاش في جو ثقافي عائلي، كان له أخوان في مجال الأدب هما الشاعر خوسيه أغوستين غويتيسولو، والكاتب لويس غويتيسولو. درس خوان الحقوق في جامعة برشلونة وسافر بعدها مباشرة في عام 1956 إلى باريس ليتخذ منها منفى اختياريًا، حيث اشتغل مستشارًا في "دار غاليمار"، ولم يسلم من قمع نظام فرانكو الذي منع كتبه منذ عام 1963، نظرًا لانتقاده واقع إسبانيا الاجتماعي ودعوته إلى حرية الفكر. ولم يستطع العودة إلى بلاده إلا بعد وفاة فرانكو وزوال نظامه، نظرًا للحكم عليه غيابيًا بالسجن.

مارس خوان تدريس الأدب بجامعات كاليفورنيا وبوسطن ونيويورك بين سنتي 1969 و1975، وساعدته نظرته النقدية في بناء فكر وأسلوب أصيلين. وكتب ما يزيد على 24 رواية و35 كتابًا تنوعت موضوعاتها بين الحكايات ووصف الأسفار والشعر، وتوج سنة 1985 بجائزة "أورولاليا" عن مجموع مؤلفاته، وفي سنة 2002 حصل على جائزة "أوكتافيو باز"، وجائزة "خوان رولفو" للأدب الأميركي اللاتيني ومنطقة بحر الكاريبي سنة 2004، ثم جائزة سرفانتيس المرموقة في سنة 2014، وعاش متنقلًا بين فرنسا والمغرب بعد وفاة زوجته الفرنسية مونيك لانج سنة 1996، ثم قرر نقل مقر إقامته نهائيًا إلى مدينة مراكش في المغرب.

اختيار المغرب لدى غويتيسولو يختلف عن أغلبية الكتاب، الذين اندمجوا في الفضاء المغربي، الذي يتسم بالغنى الثقافي والتسامح وانفتاح أهله على الغريب، وحسن الاستقبال الذي يحظى به. وهناك نقطة مهمة تميز علاقة هذا الكاتب الاسباني في علاقته الخاصة مع المغرب، تتعلق بالتاريخ المشترك، الذي تعرض إلى التعسف من قبل السلطات الإسبانية المتعاقبة، التي تعالت على كل نظرة تهدف للذهاب في الاتجاهين، وأبقت على نظرة أحادية من طرف واحد. وقد لعب دورًا أساسيًا في هذا الاختيار الموقف السياسي من حكم اليمين الجمهوري بقيادة الجنرال فرانكو، الذي حكم إسبانيا 1936-1975. وقد لعب التاريخ العائلي دورًا أساسيًا في تشكيل موقف الكاتب الذي ينحدر من عائلة أرستقراطية معارضة لفرانكو، فقد سجن والده على يد الجمهوريين خلال الحرب الأهلية الإسبانية، فيما قتلت والدته في غارة لفرانكو على برشلونة عام 1938، وعمرة سبعة أعوام.

الإقامة المغربية المديدة كانت فرصة للتأمل والكتابة والقراءة في التراث والحضارة المغربية والعربية والإسلامية، وهو ما ساعده على ما أنتجه من كتب وقصص وروايات مستوحاة من عمق الثقافة المغربية، ومن واقع المجتمع المغربي بمختلف تجلياته وخصوصياته. وفي حفل تكريمه بعد رحيله تحدث عنه عدد من الكتاب المغاربة، فأشاروا إلى أنه تعلم لغة ولهجة أهل مراكش وخاطبهم بها، وجلس في مجالسهم واندمج في حياتهم البسيطة، حيث يعرفه الصانع التقليدي والتاجر وأصحاب الحلقة وجيرانه في الحي الذي يقطنه، وسكان عدد من أحياء المدينة، التي كان يرتادها، كما عاشر وجالس واشتغل مع ثلة من المثقفين والمبدعين وأهل العلم والسياسة وحقوق الإنسان. ولدى تسلمه جائزة سرفانتس من ملك إسبانيا، أعلن الكاتب أنه "يتشرف بإهداء هذه الجائزة إلى سكان مدينة مراكش الذين احتضنوه بحنوهم ومودتهم ورحبوا بشيخوخته المتعبة". وليس هذا سوى إعلان حب تجسد من خلال حضور هذه المدينة في أعماله، ومثال ذلك رواية "مقبرة" و"أسابيع الحديقة" التي تجري بعض أحداثها في حي القصبة.


ليست الضيافة المتميزة التي حظي بها الكاتب وحدها، هي التي جعلته يعد نفسه ابن الروح المغربية، بل الاهتمام والتقدير من قبل الكتاب والمترجمين والصحافيين والقراء في هذا البلد الذي تمتاز فيه الحركة الثقافية بالحيوية والانفتاح والتفاعل مع الآخر. وتضيء شهادة الناقد والمترجم إبراهيم الخطيب وصديق الروائي الإسباني جانبًا من الصورة "الرجل يعتبر آخر المورسكيين، الذي اهتم بالثقافة العربية والإسلامية اهتمامًا كبيرًا"، واستشهد بكتاب "من السكة إلى مكة" الذي خصّصه غويتيسولو للدراسات السوسيولوجية والثقافية سواء في المغرب، تونس، الجزائر، وتركيا... من منطلق ضرورة الاهتمام بالعالم العربي والإسلامي.

وفي التفاتة ذات دلالة من الشاعر والكاتب حسن نجمي، الذي كان رئيسًا لاتحاد الكتاب، منحت العضوية الشرفية لاتحاد كتاب المغرب لغويتيسولو سنة 2003. ويقول نجمي: في السنة نفسها طلبت منه أن نكرمه في اتحاد كتاب المغرب فرع مراكش فأبى، وقال لي لا أحب التكريم، لم أقنعه إلا بعدما قلت له: إننا سنقيم لك يومًا دراسيًا حول أعمالك، إذاك استجاب وعلمت أن الرجل لا يحب البهرجة، كنت حينها قد هيأت ورقة، واستدعينا لهذا اليوم كلًا من إبراهيم الخطيب مترجمه، وبنعيسى بوحمالة، ومحمد أمقار، وحسن بحراوي، ومحمد أيت لعميم، وإبراهيم أولحيان، وعبد الغفار السويريجي. كان لقاء هامًا تناولنا فيه بالدراسة أعمال  خوان الروائية والفكرية، وقد كانت فرحته عارمة، لما التف حوله هؤلاء الكتاب المغاربة.

رحل غويتيسولو يوم 5 يونيو/ حزيران 2017 بمدينة مراكش عن عمر يناهز 86 عامًا، وذلك بعد كسر تعرّض له على مستوى الحوض، إثر سقوطه في ديسمبر/ كانون الأول 2016 بمقهاه الأثير، مقهى فرنسا المُطل على ساحة جامع الفنا، وكانت التقديرات أن جثمانه سيوارى الثرى في مدينته التي كان يعتبر نفسه ابنها. وتحدّث كتّاب مغاربة أنه أوصى أن يتم دفنه في مقابر المسلمين بمراكش، وثمة من جزم بأن الوصية لم تكن شفوية فقط، بل كانت مكتوبة. وذلك في رد على السفارة الإسبانية التي حاولت نقل النعش باتجاه برشلونة ليُدفَن الراحل هناك في مسقط رأسه. ونظرًا لتعذر وجود وصية مكتوبة من الكاتب للدفن في مراكش، جرى اختيار مقبرة العرائش إلى جانب صديقه جان جينيه.

ومن أبرز المحطات في حياة هذا الكاتب تعرفه إلى الكاتب الفرنسي المتمرد جان جينيه، الذي عاش حياته خارج المؤسسة، ودافع عن القضايا الكبرى، من التمييز ضد السود في الولايات المتحدة، وحتى القضية الفلسطينية. وبفضل ذلك اللقاء تغير مسار الكاتب الإسباني، الذي أحس أن الحياة الباريسية ليست ما يطمح إليه كاتب لديه مواقف وأفكار إنسانية مختلفة من المضطهدين عمومًا، وتاريخ إسبانيا الحديثة الذي أقصى العرب والمسلمين، وتنكر لدورهم التاريخي، ولذلك ليس مصادفة أن يختار قبرًا في مدينة العرائش في شمال المغرب إلى جوار صديقه جينيه، بعد أن أمضى العقدين الأخيرين من عمره في مدينة مراكش، حيث تعلم اللهجة المغربية من مجالسة حكواتيي المدينة الشعبيين في مقاهيها الواقعة في ساحة جامع الفنا، التي اعتبر أنها غيّرت نظرته للكتابة، ولذا أعلن نفسه مدافعًا عن الثقافة الشعبية المغربية، وقاد معركته الأشهر من أجل إقناع اليونسكو بتصنيف ساحة جامع الفنا تراثًا شفويًا للإنسانية، ونجح في مسعاه حينما تم اعتماد طلبه رسميًا من طرف اليونسكو عام 2002.

لا يقتصر اهتمام غويتيسولو على المغرب فقط، بل تجاوزه إلى الحضارة العربية والإسلامية في كتب أبرزها "إسطنبول العثمانية" (1989)، وكتاب "من دار السكة إلى مكة" (1997) الذي أبدى فيه اهتمامه وقلقه بشأن العلاقة بين الغرب والإسلام. وانتقد في عديد المرات من لا يسعون إلى معرفة الثقافة العربية، ومن ذلك تصريحه: "قال لي أحد الأصدقاء العرب المختصين بالدراسات الإسبانية: هل تعلم بأنك أول كاتب إسباني يعرف التحدث بلهجة عربية منذ "راهب هيتا" في القرن الرابع عشر؟ فتخيلوا ذلك، إنه لأمر يحز في نفسي". واشتهر في العالم العربي بكتابه "إسبانيا في مواجهة التاريخ... فك العقد"، الذي دافع فيه عن الثقافة العربية ودورها في التقريب التاريخي بين الشعوب والأمم، وكتاب "خوان بلا أرض" (1975) الذي اختتمه بصفحة مكتوبة باللغة العربية، لتسليط الضوء على قراره قطع علاقته بأوجه معينة من ثقافة وتاريخ بلاده.

ومن المواقف التي تسجل في السيرة الناصعة لهذا الكاتب رفضه في عام 2009 "جائزة القذافي العالمية للأدب" (قيمتها 200 ألف دولار)، لأن مصدرها المالي - وفقًا لما كتبه - كان الجماهيرية الليبية "التي استولى فيها معمر القذافي على الحكم بانقلاب عسكري".

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.