}

"يا تلاميذ غزة علمونا بعض ما عندكم"...

سمر شمة 29 نوفمبر 2023
استعادات "يا تلاميذ غزة علمونا بعض ما عندكم"...
(غيتي)

إنها غزة مدينة العزة والقوة كما تقول معاجم العرب. المدينة الغافية على الساحل الشمالي للبحر الأبيض المتوسط. تنام وتستيقظ منذ القدم على تاريخ عميق وثقافة غنية. يتطاير لحمها منذ عقود ويولد أطفالها رجالًا أشداء. 

هي ليست أبنية شامخة وليست إحدى أقدم مدن العالم فحسب بل هي مدينة الحياة والموت، الألم والصبر، القتل البربري على الهواء مباشرة وإصرار أهلها على البقاء، عار العالم المتمدن والقوانين الدولية ومنظمات حقوق الإنسان ومحاكم جرائم الحرب، وعار الأهل وذوي القربى والمتشدقين بالانتصارات الكاذبة.

إنها الكنز الملكي كما يسمونها، الجرح النازف الذي لا يندمل. تحولت مشافيها هذه الأيام إلى مقابر جماعية لمعروفين ومجهولين دخلت المصفحات والدبابات الإسرائيلية إلى ساحاتها واقتحمت حرمة مرضاها وكوادرها الطبية النبيلة والنازحين الهاربين إلى ملاذٍ ظنوه آمنًا وتحولت منازلها وجوامعها وكنائسها ومدارسها ولعب أطفالها وحكاياتهم إلى هدف عسكري دائم لآلة الحرب الوحشية التي يواجهها العالم بالتثاؤب والدعم والحياد.

احتلت القضية الفلسطينية عمومًا وغزة خصوصًا حيزًا كبيرًا من أشعار وكتابات الشعراء والكتاب، وكان الشاعر السوري المعروف نزار قباني واحدًا من أبرز الذين كتبوا عن مأساة فلسطين التي لم تغب يومًا عن أشعاره في محاولة منه لإيقاظ الضمائر وفضح الاحتلال والمتآمرين معه والمهرولين إليه. 

وها نحن جميعًا وبعد خمسة وثلاثين عامًا من كتابته لقصيدته الشهيرة "يا تلاميذ غزة علمونا" نردد ما جاء فيها وكأنها تتحدث عن اليوم وعن ما جرى في غزة من قتل وتدمير وإبادة جماعية طوال عقود:

" يا تلاميذ غزة علمونا بعض ما عندكم فنحن نسينا.

علمونا بأن نكون رجالًا فلدينا الرجال صاروا عجينا ...".

ما أشبه اليوم بالأمس البعيد، فالعدو هو نفسه الذي يرتكب المجازر والجرائم ضد الإنسانية ويسفك الدماء. والشعب الفلسطيني وتلاميذ غزة وأطفالها هم نفسهم يواجهون حربًا بربرية تخطت كل القوانين والخطوط الحمراء وارتكبت جرائم يندى لها الجبين.

كتب نزار قباني هذه القصيدة منذ أيام الإنتفاضة الفلسطينية الأولى التي بدأت في الثامن من كانون الأول/ ديسمبر 1987 في جباليا بقطاع غزة، ثم انتقلت إلى كل مدن وقرى ومخيمات فلسطين بعد أن قام سائق شاحنة إسرائيلي بدهس مجموعة من العمال الفلسطينيين على حاجز للتفتيش يفصل قطاع غزة عن بقية الأراضي الفلسطينية منذ عام 1948، إثر ذلك اندلع بركان الغضب الشعبي من مخيم جباليا حيث يقطن أهالي الضحايا الأبرياء ليشمل القطاع برمته ولتتردد أصداؤه بعنف في الضفة الغربية المحتلة وكان لتلاميذ غزة وأطفالها نصيب كبير من المقاومة والبطولات آنذاك وأعطوا للعالم المتفرج كالمعتاد دروسًا في الدفاع عن الأرض والحقوق... 

"لا تسامحونا يا تلاميذ غزة واقلعوا أحذيتكم الطاهرة 

وعلى رؤوسنا بقوة اضربونا

أمطرونا بطولة وشموخًا واغسلونا من قبحنا اغسلونا...".

ومعروف أن انتفاضة الحجارة في ذلك الوقت والتي استمرت حتى عام 1991 وتوقفت نهائيًا مع توقيع اتفاق أوسلو 1993 استخدم أطفالها الحجارة لمقاومة المحتل وبهروا العالم وما في يدهم إلا الحجارة كما قال الشاعر قباني :

" بهروا الدنيا وأضاؤوا كالقناديل وجاؤوا كالبشارة. 

آه يا جيل الخيانات وَيَا جيل العمولات سوف يجتاحك مهما أبطأ التاريخ 

أطفال الحجارة".

كان نزار قباني وقبل عقود يرى أن غزة لن تموت وستبقى كالسنديانات العتيقة وبيارات الليمون مدمنةً قيم مقاومة المحتل والدفاع عن الكرامة: 

"غزة لن تموت ولو كره الأشرار.

غزة لن تموت يحميها رب الدار.

لغزة سوف نعود بإذن رب الدار"...

ومن المعروف أن الشاعر الراحل نزار قباني اتجه بعد نكسة حزيران/ يونيو 1967 في شعره إلى الإلتزام بالدفاع عن قضايا الأمة العربية والإنسان العربي والشعوب، وتحريرها من الاستعمار والثورة على الظلم والاستبداد. وكانت القضية الفلسطينية من أهم القضايا التي شغلته وهاجسه الأول والأخير: 

"لن تجعلوا من شعبنا هنودًا حمر فنحن باقون هنا.

فهذه بلادنا فيها لعبنا وعشقنا وكتبنا.

مشرشون نحن في خلجانها".

كان نزار قباني وقبل عقود يرى أن غزة لن تموت


كان يكتب أشعاره عن فلسطين بأسلوبين: الأول حماسي لشحذ همم الشباب وتشجيعهم على الدفاع عن وطنهم وحقوقهم المشروعة، والثاني رثائي وذلك لما وصلت الحال إليه من إجرام المحتل وتقاعس العرب والعالم عن نصرة فلسطين وأهلها:

"بكيت حتى انتهت الدموع، صليت حتى ذابت الشموع

سألت عن محمد فيك وعن يسوع

يا قدس يا منارة الشرائع، يا طفلة محروقة الأصابع

حزينة حجارة الشوارع، حزينة مآذن الجوامع".

حظيت قضية فلسطين بحضور مهم في شعره وكان من أوائل الشعراء الذين نبهوا إلى خطورة الهجرة اليهودية إلى فلسطين، فكتب عام 1955 (قصة راشيل) مستنكرًا تجاهل الحكام العرب لآلام فلسطين ومصيرها: 

"فليذكر الصغار، العرب الصغار حيث يوجدون من ولدوا منهم ومن سيولدون

قصة إرهابية مجندة، حلت محل أمي الممددة في أرض بيارتنا الخضراء في الخليل، أمي أنا الذبيحة المستشهدة".

وأحدثت هزيمة حزيران/ يونيو شرخًا كبيرًا في نفسه فتحوّل من شعر الحب والحنين إلى شعر الرفض والمقاومة. رفض الاحتلال وانتهاكات حقوق الإنسان والواقع العربي المزري الذي تسرب المحتل منه إلى فلسطين: 

"ما دخلَ اليهود من حدودنا وإنما تسربوا من عيوننا".

ينتمي الشاعر قباني إلى الجيل الثالث من الشعراء المجددين بين عامي النكبة والنكسة ولم تكن قصيدته المعروفة (هوامش على دفتر النكسة) هي الأولى في هذا المجال ولكنه وجّه فيها نقدًا جارحًا للتقصير والتواطؤ العربي وربط بين ضياع فلسطين واستباحتها وغياب الديمقراطية في العالم العربي وقد أحدثت جدلًا كبيرًا عندما نشرت في أعقاب هزيمة حزيران:

"إذا خسرنا الحرب لا غرابة لأننا ندخلها بكل ما يملك الشرقي من مواهب الخطابة،

بالعنتريات التي ما قتلت ذبابة".

كتب كثيرًا عن هموم وأزمات المواطن العربي وعن إهدار حقوقه والمؤامرات التي حيكت ضد فلسطين: 

"بالناي والمزمار لا يحدث انتصار 

لو أننا لم ندفن الوحدة في التراب،

لو بقيت في داخل العيون والأهداب 

لما استباحت لحمنا الكلاب".

هذا الشاعر السوري الذي ولد في مئذنة الشحم بقلب مدينة دمشق القديمة حاول منذ طفولته "رسم بلاد تسمى مجازًا بلاد العرب. وحاول رسم بلاد لها برلمان من الياسمين، تنام حمائمها فوق رأسه وتبكي مآذنها في عيونه، يراقب منذ خمسين عامًا حال العرب وهم يرعدون ولا يمطرون ويدخلون الحرب ولا يخرجون".

يمثل شعر نزار قباني وثيقة أدبية رفيعة المستوى عن فلسطين سجل فيها الصراع الفلسطيني الاسرائيلي والفلسطيني العربي بكل أبعاده وحمّل شعره رؤيته لاستعادة الأرض عبر التمسك بالبندقية فهي وحدها القادرة على تسجيل الانتصارات:

"أصبح عندي الآن بندقية، إلى فلسطين خذوني معكم

إلى ربى حزينة كوجه المجدلية،

قولوا لمن يسأل عن قضيتي،

بارودتي صارت هي القضية".

وهو يرى أن تحرير فلسطين لن يتم بالمعاهدات ومفاوضات السلام والتنازلات ولذلك تحدث عن المهرولين من العرب والفلسطينيين وعن سلام الضعفاء: 

"سقطت آخر جدران الحياء 

وفرحنا ورقصنا وتباركنا بتوقيع سلام الجبناء 

وانتهى العرس ولم تحضر فلسطين الفرح".

ورغم حزنه وسخطه وغضبه مما حدث لفلسطين وأهلها كان نزار قباني يرى أن فلسطين ستعود إلى أهلها بهية وشامخة وسيعودون إليها بحنينهم وخفقات قلبهم: 

"للحزن أولاد سيكبرون، 

للوجع الطويل أولاد سيكبرون،

وهؤلاء كلهم في أي لحظة من كل أبواب فلسطين سيدخلون".

وغدًا كما كان يقول: 

"يا قدس يا مدينتي، يا قدس يا حبيبتي
غدًا سيزهر الليمون وتضحك العيون".

كانت غزة وما زالت في قلب الصراع التاريخي الدموي مع الاحتلال الاسرائيلي منذ النكبة وصولًا إلى الحصار الذي فرض عليها منذ أكثر من سبعة عشر عامًا. وقد شهدت هذه المدينة الساحلية سلسلة حروب إسرائيلية مدمرة وصارت عبارة عن سجن بشري كبير يقطنه أكثر من مليوني فلسطيني وهي تتعرض منذ السابع من أكتوبر الماضي إلى حرب إبادة عرقية ممنهجة لا رادع لمجرميها وداعميهم ولا أخلاق ولا معايير ولا قوانين اشتباك.

غزة تحترق بصغارها وكبارها وأطفالها الخدج ولكنها تؤكد كل يوم بأنها تؤمن بأن

"هذا العصر اليهودي وهم سوف ينهار لو ملكنا اليقينا".

منذ عقود حتى الآن وتلاميذ غزة يعلمون العالم كيف تغدو الحجارة بأيديهم ماسًا ثمينًا وشريط الحرير يغدو كمينًا:

"يا تلاميذ غزة لا تبالوا بإذاعاتنا ولا تسمعونا 

اضربوا بكل قواكم واحزموا أمركم ولا تسألونا"...

*كاتبة سورية. 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.