}

عاشَتْ العربية في غرْبتها (16)

دلال البزري دلال البزري 31 ديسمبر 2023
استعادات عاشَتْ العربية في غرْبتها (16)
اللقاء العام الأوّل لتجمع الباحثات اللبنانيات، 1992

تعريف:
عنوان هذا الكتاب، الذي ننشره على حلقات أسبوعية كل يوم أحد، تفصّله ثلاثة خيوط مختلفة:
ــ في الخيط الأول، يتكلم بصيغة الغائب المفرد. أي أنني أصف فيه محطات من حياة شخص، هو أنا: في إبحاري بالعربية، عبر أحداث سياسية ـ ثقافية.
ــ الخيط الثاني: أن العربية الراهنة ما زالت عائشة. ما زالت تقاوم من أجل البقاء، رغم تعثر أبنائها وإهمالهم لها. ويدعي هذا الكتاب بأنه ذرَّة في رمال إرادتها بالحياة.
ــ الخيط الأخير حماسي، يشبه صرخات التمنّي بالبقاء، مثل "يحيا الملك!" أو "يعيش الزعيم"! أقول "عاشت العربية!"، بمعنى أنني أتمنى لها البقاء، وتجاوز وحْشتها.

الوقائع المروية في هذا الكتاب كلها حقيقية، غير متخيّلة. وهي ناقصة بالتعريف. وأنا مسؤولة فقط عن صدقها.


(1990 ـ 1999): المقهى، الإصدارات، تجمع الباحثات اللبنانيات
تجمع الباحثات اللبنانيات
تعود أصول "تجمع الباحثات اللبنانيات" إلى السنوات الخمس الأخيرة قبل نهاية الحرب الأهلية. نحن في المنطقة الغربية من بيروت، ذات الغالبية المسلمة، تجمعنا الصداقة، ومهنتَي البحث والتدريس. نلتقي أسبوعيًا في منزل إحدانا، نخفف عن أنفسنا العزلة التي تفرضها علينا ظروف الحرب. نتبادل الكتب والخبرات والأفكار، وحتى أحيانًا وصْفات الطبخ والجمال والأناقة. نضحك كثيرًا، نستمتع، ننتعش، ونتشجع على قدرنا، نتبادل مقالِبه. حالة شبه طوباوية... كنا ست نساء، مارلين نصر، وعزة شرارة بيضون، وفاديا حطيط، وأنيسة الأمين، وندى مغيزل، وأنا.
وبعد حين، قلنا لبضعنا إننا جاهزات لتكوين جمعية مدنية تهتم بشؤون البحث، وتيسر عملنا. ومن أجل أن يكون إطارنا وطنيًا، غير طائفي، تولينا الاتصال بصديقات من بيروت الشرقية، ذات الغالبية المسيحية. ندى مغيزل، ابنة المحامية والمناضلة النسوية لور مغيزل، هي صلة الوصل بيننا وبين أولئك النساء الجامعيات. بالإضافة إلى لور مغيزل، كانت ليلى ناقوزي شيخاني، وماري تيريز خير بدوي، وكارمن بستاني، وميّ هزاز.
هكذا بدأت بيننا اللقاءات، نناقش خلالها تصوّرنا للعمل المستقبلي، وتصورنا لأنفسنا، ماذا نسمي جمعيتنا، ما هو دورها؟ نضالي؟ بحثي؟ الاثنان معًا؟
في هذه الأثناء، نتعرّف على السيدة أنغريد شمعون، زوجة داني شمعون، ابن رئيس الجمهورية السابق كميل شمعون، ورئيس "حزب الوطنيين الأحرار"، المسيحي اليميني. والسيدة أنغريد مهتمة، في هذه السنوات الأخيرة من الحرب الأهلية، بأن تمدّ جسورًا مع لبنانيات منشغلات بالشأن الوطني. ولديها اقتراح بعقد ندوة نسائية تحت عنوان "المرأة والحرب". من أجلها، تسخّر السيدة أنغريد علاقاتها مع الديبلوماسي التونسي حمادي الصيد، مدير مكتب الجامعة العربية في باريس. فاتفاق على تنظيم ندوة بالعنوان نفسه، "المرأة والحرب في لبنان"، في مقر الجامعة في باريس. هكذا تأمّنت تكاليف رحلة عشر نساء، غالبيتهن من مجموعتنا، واثنتان صديقتان لها، يقدّمن أوراقًا، ويخضنَ نقاشات على مدى يومين. وكانت هذه الإطلالة الأولى لنا على الخارج، كمجموعة نسائية لها رأي بالحرب، في السنوات الأخيرة منها.
اغتيلت أنغريد شمعون هي وزوجها وابناها طارق وجوليان، في الشهر الأخير من أولى سنوات السلم الأهلي. وفي هذه الأثناء، كنا نحضر لتأسيس كيان جمعياتي خاص بنا، اسمه "تجمع الباحثات اللبنانيات". كنا أربع مؤسِّسات، مسلمتان ومسيحيتان، قدمن "العلم والخبر": عزة شراة بيضون وأنا، ثم لور مغيزل، وماري تيريز خير بدوي.
ومشروع مجلة سنوية، يتضمن محورًا وأبحاثًا مختلفة. نتفق من الأول أن لا تكون رئيسة تحريرها أبدية، كما هو حاصل مع هيئات، رجالية ونسائية، منتشرة بيننا.
تأتينا المساعدة من سليم نصر، زوج مارلين، الذي يدير مكتب "فورد فوندايشن"، في القاهرة. وهي منظمة أميركية غير ربحية تدعم الأبحاث في العالم العربي وشرق آسيا.
أتولى شخصيًا تحرير العدد الأول، وكان محوره "المرأة والسلطة".
أولى الاختبارات "النفسية": من بين المهام، "تقييم" الأبحاث الواردة إلى المجلة من الباحثات المكلفات بها، وأقل منهن باحثين. نتشارك عليها أنا وعزة شرارة بيضون، الأنشط من بين عضوات هيئة التحرير. نتخذ القرار بنشرها، أو تعديلها، أو رفضها. وأصعب ما في العملية هو الثاني، "التعديل"؛ متعب، ويوجع الرأس. فيما الثالث، "الرفض"، غير وارد.
وبين أيدينا بحث لزميلة في "التجمع" أستاذة جامعية، فكان الوضع أشد إرباكًا. كيف نقول لها كذا وكيت؟ أسأل عزة. ونحن الاثنتان محرجتَان. وعلينا إيصال ملاحظاتنا إلى صاحبة النص. ولا يمكننا أن نرسله إلى النشر، من دون "وخْزة ضمير" أكاديمية. نقرر الاجتماع بالزميلة، وأن تكون عزة هي من يطرح الملاحظات، كونها ألطف مني. تقول لها بهدوء ما نراه من ثغرات في بحثها. وتكون ردّة فعل الزميلة صمتًا، نترجمه قبولًا موثوقًا، أو هكذا بدا لنا. ولكن في اليوم التالي، تظهر الآثار الفعلية لهذه الجلسة:
ــ صار معها "بلوكاج"... تقول لي عزة على التلفون.




و"البلوكاج"، كلمة فرنسية تعني تعطّل القدرة على فعل شيء من الأشياء التي يقوم بها المرء عادة.
ــ كيف يعني؟
ــ تقول إنها لم تعد قادرة على كتابة حرف واحد، بعدما تلقته من نقد، تقول إنه قاس.
ــ كيف علمتِ؟
ــ علمتُ... وخلاص...
ــ حسنًا، كيف سيعالَج نصها إذًا؟
ــ لا أعرف الآن... سنتدبر الأمر.
فكان تدبّرًا عصيبًا، بالتي هي أحسن. إذ انتقل "البلوكاج" إلينا، عزة وأنا. فارتبكنا خلال مراجعتنا للأبحاث التالية الواردة إلينا تباعًا.
في هذا العدد الأول أيضًا، ندعو وضاح شرارة للمشاركة، فيوافق ويكتب بحثًا عن أبو حامد الغزالي والنساء. نصه أيضًا يحتاج إلى توضيح ومراجعة. توضيح خصوصًا، نظرًا لتعقّد لغته وغموضها. وأنا أطلب منه اللقاء من أجل "مناقشة بحثه"، أقول لنفسي بأنني، بهكذا لقاء، أقوم بعملية انتحارية...
أعود فأتذكر أول معرفتي به، وأنا في بداياتي في "منظمة العمل الشيوعي"، وقد تحدثتُ عنها آنفًا. ثم تحضر الحادثة "الشهيرة" في كلية التربية في العام الرابع منها. خلال هذا العام، يدرسنا وضاح شرارة مادة التحليل النفسي الفرويدي ومتفرعاته.  نتعذب أثناء حصته. لا نفهم ما يتلوه علينا من دروس، يصيبنا النعَس والرغبة الملحة بانتهاء الحصة. وفي يوم، مع اقتراب الامتحانات النهائية، يطرح علينا أثناء الحصة سؤالًا مبهمًا، لا نفهمه، كالعادة، ولا نعرف أن نجيبه عليه. يطرحه وينتظر الجواب بإلحاح. وبعد لحظات، نرفع العشرة:
ــ "كعينا" أستاذ...! عجزنا... لا نعرف.
فيكون الجواب على هذا السؤال، شيئًا نعرفه جيدًا. فالفرويدية والماركسية من القراءات الرائجة بيننا. نقرأ القديم منها، والجديد نجده في مكتبة أنطوان، أو مكتبة كليتنا الغنية، نتناتشه... نعبّر إذًا عن امتعاضنا. نقول له إننا نعرف الجواب، ولكننا لم نفهم السؤال. فيكون رده غاضبًا متوعدًا بأنه سوف يطرح علينا أسئلة خارج المنهاج في امتحان آخر السنة... وقد فعلها.
هذا القصاص يتسبّب بتمرد طلاب مادتنا، وإضرابهم عن متابعة الامتحان. وينتهي هذا الأخير بحلّ هو ربما ثمرة "اتفاق" بين الأستاذ شرارة، وبين مديرتنا أمان شعراني. فيحصل كل الطلاب الممتَحنين على 12/ 20. أما عقوبتي أنا، فهو حرماني من السنة الرابعة بأكملها، واعتباري راسبة فيها. وبعد وساطات، مع سليم الحص أيضًا، تنخفض العقوبة إلى حرماني من نتائج الدورة الأولى، و"السماح" لي بخوض امتحانات الدورة الثانية في الخريف. وسبب مضاعفة القصاص بحقي هو اتفاقي مع زملائي على الإضراب في حال كانت أسئلة الأستاذ شرارة خارجة فعلًا عن المنهاج، كوني ممثلتهم في مجلس فرع الكلية.
علاقتي، إذًا، بوضاح شرارة تستعصي على الود والفهم. ولكن، والآن، لا مفرّ من لقائه، بخصوص بحثه حول الغزالي والنساء. كيف هي ردّة فعله على ملاحظات هيئة تحرير المجلة؟
في مقدمتي التي لا بد منها، أقول له إن بحثه نال إعجاب هيئة التحرير في المجلة. لا يرتاح لهذا الثناء، هذا واضح في نصف ابتسامته الجانبية. أكاد أقول له بأنني تأكدت الآن من سمعتكَ الكتابية، من أنك لا تحب المعجبين بما تكتب. لكنني لا أفعل. المهم أن وضاح لا يعترض على الملاحظات. يظل صامتًا، يستمع إليها بنصف الابتسامة نفسها. هذه الجلسة مرهقة، تكاد تمتد دهرًا. كأن كتلة إسمنْتية تجمدّني على كرسيي، وأقول لنفسي، طوال الجلسة، إنني ثقيلة الظل، سئيلة... أكررها مرات "أنتِ سئيلة...!". ولا أتخلص من ثقل دمي إلا عندما ينتهي اللقاء وأخرج إلى الهواء.
أمرٌ آخر أدركه بعد هذا اللقاء، بأن وضاح يتعامل معي، ومع أمثالي، وربما مع قرائه وغير قرائه، بروح أرستقراطية صريحة. كأنه هو لوحده النخبة. ناشف، بعيد، يمكن أن تقع عينك على عينه، وأنت تتنزه في الشارع، أو تدخل إلى حمام السباحة، من دون أن يلقي عليك التحية، كأنه لا يعرفك، ولا تعرفه.

وضاح شرارة 

ومع الوقت، وجدت في معرفتي به عونًا "ذهنيا"، إذا جاز التعبير، ساهم في إنزال النص الصعب من عرشه. وفي التخلص أيضًا من عقدة البوح بعدم الفهم. كيف؟ ساعدني وضاح شرارة على النظر إلى طبيعة كتابتي، في بدايتها. كان من حولي يقول بأن لغتي "صعبة"، "غير مفهومة"، وجملي متشقْلبة، لا "يفهم كوعها من بوعها". وفي يوم، شبَّهتني إحدى الصديقات بوضاح شرارة:
ــ أنت مثله... كتابتك غير مفهومة.
وكأنها نقطت بخلاصة العيوب الكتابية... فصرتُ أبحث عن نقاط "الصعوبة" في هذه الكتابات، فأجد بأنني أنا أيضًا لم أفهمها. أي أنني لم أفهم "الصعب" مما كتبت ونشرتُ. فتكوّن القانون عندي، أن لا أكتب ما لا أفهمه، أو ما لم أفهمه بعد كتابته. إما أن ألغيه، أو أبحث عن كلماته، أجدها فأكتبها، أو لا أجدها، فأتخلى عن الفكرة، وأحيانًا أضعها جانبًا ريثما تتضح لي، أو تنضج ربما. وأحيانًا أخرى أنساها، لأعود فأتذكرها بواحدة من المناسبات، أو الأحداث.
في العدد الثالث من المجلة، كانت هيئة تحرير جماعية. ونرتئي إشراك الرجال فيها. فكان موسى وهبة، الفيلسوف، ومارلين نصر، ومنى فياض، وأنا. وكان محوره "البحث العلمي". جلسنا نحن الأربعة، نناقش "الخلفية"، نصيغها، نكلف الكتاب بها، نناقش أبحاثهم، ويتولى موسى وهبة الاتصال بهم، عندما تدعو الحاجة إلى ذلك.
وبهذه المهمة التي يقوم بها موسى على أفضل وجه، أقارن بين التجربتين الأولى والثالثة: الباحثات النساء يتقّبلن ملاحظات موسى بترحاب. عكس التشنج الذي أصاب الباحثات في العدد الأول، عندما كانت صاحبات الملاحظات من النساء. وهذا سلوك يمكنك أن تلاحظه أينما حللت، بين جمعات نسائية صرفة وأخرى مختلطة. الأذن البحثية النسائية مستعدة لسماع السلبيات، إذا تلفظ بها رجل. مقابل رفضها القاطع والمقنَّع لملاحظات نساء.
مع أن خطاب "الباحثات" يدور كله حول تفوّق النساء على الرجال. من أنهن يتماهين مع الآخر، يشعرن بما يشعر. أنهن حانيات، حنونات، مضحيات، مسؤولات. كلهن خير بخير، أينما وجِدْن، مهما فعلن... من طينة أخرى تكاد تختلف جوهريًا عن الرجال.
أما الأبعد من الخطاب، والأقرب إلى الواقع فهو: أن "الباحثات" ورثن طبائع المجتمع التقليدي السالف، المبني على المواربة والباطنية والقساوة الرشيقة، العذْبة أحيانًا. ولا يهملن في الوقت نفسه الحرية الجديدة التي أتاحتها الثورة النسوية.




الاجتماعات العلنية فيها يفترض أن تناقش وتقرر. ولكن تفاهمات ضمنية، أو شبه ضمنية تسبقها. تفاهمات عليّ أن أحدسها، وإلا، فلا أفهم معاني تصرفات وقرارات مستترة، تصدح بها الاجتماعات العلنية. ولا أفهم التجاهل والتلْطيش والغمز واللمز.  الأبلغ منهما، ذبذبات في الجو، غير صديقة، وحركة العيون والنظرات المتنقلة، المتحولة... وكلها سلوكيات أشبه بالأسهم المتناهية الدقة، المُحْكَمة والصامتة.
في هذه الفترة، أغادر "تجمع الباحثات" روحيًا. ويتيح لي انتقالي للعيش في القاهرة الابتعاد "الجسدي" عنه. أزور لبنان أحيانًا، وأحضر بعض اجتماعات هذا التجمع، أشعر في أثنائها بتزايد غربتي عنه. وعندما أعود نهائيًا إلى لبنان، ألاحظ أن الأسهم تسنّنت، وأخذت أشكالًا مختلفة، لا يصح رواية تفاصيلها هنا... فأقدم استقالتي الرسمية منه.
الخلاصة، أنه خلال السنوات العشرين على تأسيسه تحول "تجمع الباحثات" من مجال ممتع، تتقاسمه باحثات، يشتركن في تبادل الهواجس والأفراح، صديقات ودودات متضامنات، يؤسسن جمعية نسائية مختلطة طائفيًا، أستاذات من كل جامعيات، أو في طريقهن إليها، ويتساندن، يتشاورن، يفرحن... من هذه الجنة إذًا، وبما تَعِده للمستقبل، يتحول التجمع إلى مكان تسود فيه الطبْطبة والطمأنة، والثرثرة والتنابذ والوجاهات، واقتناص الفرص، ومديح الكسل بصفته ذكاء وتدبّر.
كل هذه الشوائب لا تمنع الباحثات من "تكْملة الطريق". فهن لا تخرجن عن قواعد العمل المدني وغير المدني المعمول بها في لبنان. وعنوانها الضمني، هو الآخر: العمل بقوانين غير معلنة، لا يباح بها، اسمه "تدوير الزوايا"، يتم التفاوض حوله في مداولات تلفونية، أو زيارات، أو في المقهى، يدعمه غضّ الطرف عن الإخلال بالقواعد الأولى، المنْسية، وقد صارت ملبّدة بالغيوم.
حكاية "تجمع الباحثات" تشبه حكاية "التجمع النسائي الديمقراطي"، التي تكبرها بعقد ونصف عقد من الزمن: المساهمة بالتأسيس، بذل الجهود في صياغة المعنى، والأمل بتحقيق أشياء وأشياء. الأول عمل نسائي حزبي، تحت إشراف منظمة العمل الشيوعي، والثاني عمل نسائي أهلي، أو مدني.
وبالنسبة لي، كانت الصعوبة مع الأخير، الأهلي المدني، هي الانتقال من الصرامة الحزبية ومعاييرها، الموروثة عن منظمة العمل الشيوعي، إلى ما يمكن اعتباره بالمقارنة معها "تراخيًا"، وأحيانًا قلة كفاءة. علمًا بأن العمل الحزبي لم يسلك دربًا مختلفًا. ولكن رغم خروجي منه، لم أتخلص من تلك الصرامة.
الآن، أنتبه إلى وجه من أوجه إشكالي مع "الباحثات". أنني أعامل البحث كما أعامل المهمة الحزبية، فيما العمل الأهلي يسمح بمعاملة البحث بنوع من "الليونة" التي لا يطيقها الحزبي. لا أفهم أنه عليّ التخفيف من هذا العبء "الحزبي" لدى انتقالي إلى العمل الأهلي المدني. ولكن أيضًا، لا يمكن أن أكون شخصًا آخر. أن أمحو تاريخي وذاكرتي الحزبية، الواعية وغير الواعية. على كل حال، لم أكن وقتها مدركة لهذه المشكلة.
وأمر "القطع" مع تجربة "باحثات" كان أقل مرارة من القطع مع المنظمة. ربما لطول الوقت مع المنظمة، ربما لأن حجم الخيبة من المنظمة قياسًا إلى ما كانت تعِد به من انتصارات تعد بها. ربما لأن وجاهة باحثات أدنى من وجاهة المنظمة بالنسبة لي. كون المنظمة هي "حبي الأول"، والتجمع "علاقة عابرة".
يبقى أنني في "التجمع النسائي الديمقراطي" كما في "تجمع باحثات"، تعرفت عن كثب على مجموعتين من النساء. الأولى هي مجموعة زوجات القياديين في المنظمة ومقربات منهن. أما الثانية، أي "باحثات"، فالتشكيلة مختلفة: ثلاثة منهن كان لديهن تجربة حزبية أو شعبية يسارية، كانت على كل حال قصيرة. وبعضهن يملن إلى التصرف بنوع من الاعتذارية عن تجربتهن اليسارية القصيرة هذه، كأنهن يسلمن سلفًا بأوراقهن إلى اللاتي لم يخضن ولا أي تجربة.
وحدها الراحلة لور مغيزل، وهي من جيل الرائدات، كان لها سجل حافل في العمل المدني، قبل الحرب الأهلية وطوالها، من أجل السلام، ومن أجل حقوق النساء. والباقيات الغالبات لم يسبق لهن الخوض في التجارب العامة.
أما التجانس: فنحن نتكلم هنا عن إطار جذب إلى داخله حوالي أربعين امرأة، بقي منهن الآن عشرون... وأخريات بين غياب وحضور، غير ثابتات العدد. أربعون امرأة على اختلاف طبائعهن، دخلن إلى "تجمع الباحثات" وخرجن منها، أو ثبتنَ فيها. فئة خاصة من النساء العاملات في التعليم والكتابة الأكاديمية. كان يراد لها في البداية أن تكون مختلفة طائفيًا. ولكنها رست في الأخير على غالبية مسلمة، أو متزوجات من مسلمين، أو قاطنات في الشق الغربي (المسلم) من العاصمة.
ولا يكتمل هذا الحديث من دون "نقد ذاتي":
ــ لماذا أنتِ "استفزازية"!؟
تسألني مرة واحدة منهن بصوت مرتفع يسمعه الجميع، ونحن على مائدة غداء، وفي جو احتفالي بواحدة من المناسبات.
وأنا مبغوتة، لا أصدق السؤال:
ــ ... عفوًا؟
ــ كنت أقول، لماذا أنت استفزازية؟
ــ كيف يكون المرء استفزازيًا؟ كيف تكون المرأة استفزازية؟ أسألها.
لا تجيب على سؤالي، ولا أصرّ عليها. والآن، الآن فقط، يمكنني أنا الإجابة عنها: نعم، أنا استفزازية. طبائعي ليست محبّبة. فأنا مليئة بالتناقضات، قليلة الصبر، لجوجة، حادة، بل عدوانية أحيانًا... وأنا الآن في السبعين من العمر، أنظر إلى ما كنته وقتها. أؤاخذ نفسي، ولكنني لا أزعل، من أنني خرجت من تجربة "تجمع الباحثات"، من دون خسائر بليغة. لا بفضلي تمامًا، إنما بفضل ما كُتِب لي من بعدها.


(يتبع...)

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.