}

فيروز: حينما لا يستطيع الصائغ صناعة الجوهرة مرتين

فارس الذهبي 19 أبريل 2023
استعادات فيروز: حينما لا يستطيع الصائغ صناعة الجوهرة مرتين
فيروز في باريس (19/ 5/ 1975/ Getty)
لم يملك المتابعون لمسيرة عائلة الرحباني المثيرة والمتميزة إلا أن يذهلوا حينما أعلن الموسيقار والملحن الراحل عاصي الرحباني (1923 ـ 1986) قرار انفصاله عن المطربة والمغنية الأساسية التي بني مجد الأغنية الرحبانية عليها طويلًا... فيروز.
في عام 1978، أعلن المكتب الصحافي الخاص بالأخوين الرحباني من مكتبهما الكائن في محلة أنطلياس خبر الانفصال الرسمي بين الملحن العبقري والمؤسس الأول لتجربة الرحابنة ـ برفقة أخيه طبعًا ـ عاصي الرحباني، عن زوجته وأم أطفاله وشريكته الفنية نهاد حداد الشهيرة بـ(فيروز)، والتي استمرت الشراكة معها لمدة تتجاوز عشرين عامًا. ساد الوجوم والسكون المشهد الفني اللبناني والسوري والعربي على حد سواء، فهل سيكون إعلان الانفصال العائلي هو بداية لانفصال مهني يهدد ثبات ومتانة التجربة الرحبانية التي أنتجت مئات الأغاني، وعشرات الألبومات، والمسرحيات الغنائية، أم سيكون انفصالًا احترافيًا بين ثنائي متميز وعلى قدر كبير من الوعي بما أنتجته التجربة الرائدة، في فصل تام بين الشخصي والعملي؟
ما جرى كان مخيبًا للآمال، إذ سرعان ما انتشرت أخبار موثقة تفيد أن الانفصال الزوجي بين الأسطورتين تبعه انفصال فني وعملي، لا بل من الممكن أن يكون انفصالًا انتقاميًا، فيروز التي بنت تقريبًا مجدها الفني بكامله على خلاصة ما أنتجه الأخوان الرحباني من أغان، وطقاقيق، ومسرحيات، واسكتشات، وألبومات خاصة، وحفلات، ودبكات، كانت بلا شك هي المغنية الأساسية بلا أي منازع لكل إبداعات الرحابنة، حينما كان كادر الفرقة الرحبانية يتكون من عشرات الأصوات الخالدة والمتميزة التي لا تقل عن فيروز أصالة وفرادة وتميزًا، ابتداءً من صباح التي انفصلت عنهما، وصولًا إلى وديع الصافي، ونصري شمس الدين، مرورًا بملحم بركات، وهدى، وصولًا إلى إيلي شويري، وجوزف ناصيف، ومحمد غازي، وآخرين كثر جدًا.



عاصي الرحباني الذي جسدت كلمات شقيقه منصور كل ما كان يتخيله من رومانسية رعوية و إبداعية لإنشاء ذلك العالم الفني العملاق، نجحت فيروز فيه ليس فقط بأن تكون الضلع الثالث في ذلك المثلث الفني الصعب، بل بإدخال صوتها كشريك إبداعي متمكن لدرجة أنها استطاعت إضافة نوطات وعلامات موسيقية ومساحات جديدة لتلك الأغاني والمسرحيات، طبعتها بطابعها، عبر حضور هائم مثل النسائم فوق تلال جبال بكفيا وقرى جبل لبنان، فكانت الصوت الذي لا يمكن تخيل استبداله، أو تأديته مجددًا، مجسدة المجد لتلك الأغاني من جهة، ونهاية قاتلة أيضًا لتلك الألحان التي استقرت في صوت فيروز ولم يجرؤ أي مطرب أو مؤد من بعدها أن يذهب بعيدًا في أداء تلك الروائع بسبب الأداء فائق الجودة الذي أسبغ فوق اللحن مطيحًا بكل من يقترب منه، وليس من سترفعه في عالم الموسيقى والفن، فكانت فيروز القفل والسقف الذي لم يقبل رجل بعظمة وقوة وإبداع عاصي الرحباني أن تأسره موهبة ما، حتى لو كانت زوجته ومالكة قلوب البشر والمستمعين طوال عقدين ونصف العقد من الزمن، فقرر التحدي، وقبلت هي ذلك، ضمن تداعيات زواج فني طويل تخللته كثير من المشاعر والخيبات والنجاحات، فكان ذلك الخلاف الزوجي الذي تبعه الانفصال الفني كنتيجة لذلك التحدي.
بذات القدر الذي صدم به المحيطون بخبر انفصال الثنائي الرحباني، كانت صدمة عشاق الرحابنة بخبر استئناف عاصي الرحباني نشاطه الفني بعد عودته من رحلة علاجه فرنسا بعد الأزمة الصحية الكبيرة التي تعرض لها في عام 1972، والتي أُجبر إثرها على اجراء عملية جراحية في الدماغ نتيجة لنزيف دماغي حاد كان قد ألم به. صحيح أنه استطاع تجاوز الأزمة، إلا أن حالته الصحية لم تكن مستقرة منذ ذلك الحين، نتيجة ساعات عمله الطويلة، والتدخين الكثيف، والإرهاق الذي كان يتعرض له على مدار الساعة، فكان استئنافه لنشاطه الفني بعيدًا عن فيروز خبر الصاعقة على متابعيه ومحبي صوت فيروز الملائكي، حيث أنه قرر إعادة إنتاج مسرحية "الشخص"، التي كان قد سبق للأخوين وفيروز تقديمها ابتداء من عام 1968، وعرضت في مسرح البيكاديللي في بيروت، وفي معرض دمشق الدولي، في عروض متقطعة... وكان السؤال الذي تبادر إلى أذهان النقاد والمتابعين وعشاق الموسيقى هو: من سيؤدي دور "بياعة البندورة"، كبديل للأداء المميز الذي أدته السيدة فيروز باقتدار وحساسية لا مثيل لهما.
في عام 1958، ولدت الطفلة عايدة مارون طنب من أبوين لبنانيين، وسرعان ما ظهرت ميولها الفنية والموسيقية برفقة أخواتها صاحبات الأصوات الرائعة. شاركت عايدة الشابة في برنامج "استديو الفن"، بإدارة الراحل سيمون أسمر، وسرعان ما جذبت الأنظار لصوتها ورقتها وجمالها، وعلى الفور تلقفتها الفرقة الأكثر احترافية في لبنان، وغدت عضوًا في كورال الرحابنة، لتؤدي خلف عمالقة الغناء اللبناني أغانيهم وموشحاتهم، ولكن مفاجأتها كانت حينما اختارها عاصي الرحباني لتكون المغنية الأساسية في فرقته بديلة عن زوجته وأسطورة الفرقة  فيروز، لينتقي سعيد عقل لها اسمًا أسطوريًا ميثيولوجيًا فينيقيًا، وليصبح اسمها الفني هو رونزا، ولتصبح بين ليلة وضحاها قبلة أنظار عشاق الأخوين الرحباني، وتحت دائرة أضواء مغرمي السيدة فيروز وغيرتهم وكرههم لها لتجرؤها على أن تسمح لنفسها أن تكون في الثياب ذاته، والدور الذي أدته فيروز منذ سنوات. عاب عليها نقادها ذلك، وانتقص من أمرها كثيرون، فالسيدة فيروز كانت لا تترك مساحات لارتجال أي مغن آخر من بعدها، كانت تملأ النوطة بصوتها، كما يمتلئ كأس النبيذ حتى الجمام، فلا هامش من بعدها إلا الانبهار بأدائها.
أدرك عاصي الرحباني خطورة الموقف فنيًا، ليس على الشابة اليانعة رونزا فحسب، بل عليه وعلى شقيقه، وعلى التجربة الرحبانية التي سيعني فشل مشروع إعادة مسرحية "الشخص" وصم تلك التجربة بالاستناد على  فيروز،  مما يعني أنها كانت هي من قام بشد ألحانهما نحو السماء، حيث لم يسجل أي فشل في مسيرة الرحباني، سواء على الصعيد المسرحي، أو على صعيد الاسكتش، أو الأغنية، نهائيًا، كانت كل أعمالهما تكلل بالنجاح تلو النجاح، فقبل الأخوين التحدي، ومضيا في المغامرة نحو النهاية، بدأ منصور وعاصي البروفات، وأضافا كثيرًا من البهرجة الموسيقية على ألحان المسرحية، لا بل أعادا توزيع الأغاني والمساحات الموسيقية الفارغة في الحوارات، داعمين الدراما الموسيقية التي كانت تعتمد بشكل أساسي على موسيقية أداء فيروز الدرامي، دعموها بتوزيع أكبر وأكثر تأثيرًا. اعتمد الأخوين على شباب رونزا وجمالها الأخاذ بذات الدرجة التي اعتمدا فيها على مقدراتها الصوتية في الغناء.




ولمزيد من التحدي، قرر عاصي الرحباني إخراج المسرحية بنفسه، حتى يكون ممسكًا بتلابيب العمل من الألف إلى الياء، من دون أن يسمح لأي خطأ أن يمر فيه، علمًا أن العرض الذي قدمته السيدة فيروز كان من إخراج صبري الشريف، وهكذا كان الموعد في الأردن للعرض الأول للمسرحية المجددة، فجأة وجدت الشابة الموهوبة الفتية الجميلة رونزا نفسها وجهًا لوجه مع واحد من أكثر الأصوات اللبنانية والعربية قوة وجمالًا، وقفت في حضرة نصري شمس الدين، وتحت أعين عاصي ومنصور الرحباني،  شمس الدين ذلك الصوت المكرس في آذان المشرقيين، نبع الينابيع بالنسبة لكثيرين، ورمز القوة والتحدي والانكسار في ذاكرة عشاق التجربة الرحبانية الدرامية.
وجدت رونزا نفسها في مقارنات لا ناقة لها فيها ولا جمل، سوى أن الكبير عاصي أراد ذلك، فأطاعت كونها قادمة من شغف فني حقيقي، ومن رغبة دفينة لديها في تكريس موهبتها التي اعترف بها أخيرًا أباطرة الموسيقى اللبنانية والعربية من دون منازع، فانهال عليها الثناء بذات القدر الذي قرعتها فيه الانتقادات تجريحًا وملامة، تارة فنيًا، وتارة شخصيًا، فحملوها وزر انفصال الثنائي الرحباني، وانهيار المثلث المقدس للموسيقى اللبنانية، ولكنها صمدت، واستطاعت بأداء خلاب أن تكون علامة متميزة في تلك المسرحية، وتجديدًا كبيرًا أراده عاصي الرحباني أن يكسر لعنة الاكتمال الفيروزي.
بعد نجاح المسرحية الناجز، قرر عاصي أن مشروعه الفني لا يمكن أن يكتمل من دون اقتحام السوق المصرية العنيدة التي كان حتى ذلك الوقت متمنعة عن التجربة الرحبانية، فقرر إعادة ذات المسرحية "الشخص"، ولكن مع فريق عمل مصري بالكامل، ليثبت أن المسألة ليست تحد شخصي، وإنما تجريب فني وموسيقي لا بد له أن يكتمل، فاستعان بفريق تمثيلي وفني مصري بالكامل ، وعهد بالنص إلى الشاعر الراحل أمل دنقل، ليعمل على تمصير المسرحية، وإلى الفنانة عفاف راضي لتقوم بدور بياعة البندورة مكان فيروز، وقام المونولوجيست سيد الملاح بأداء دور الشاويش، وقام المخرج المسرحي جلال الشرقاوي، بتاريخه المسرحي الكبير، بإخراج العمل.
نجح العرض مسرحيًا في القاهرة، ولكن هيئة التلفزيون والإذاعة امتنعت عن عرض المسرحية لأسباب تتعلق بعدم الرضى عن المشاهد المسرحية الترميزية الناقدة لسياسة الكرسي، والجلوس على الكرسي، في تلك البلاد، وعدم السماح للغير بالجلوس على الكرسي سوى الحاكم الفرد، حيث كان عاصي الرحباني يتوقع نجاحًا كبيرًا للمسرحية حينما تعرض في التلفزيون، خصوصًا في الأعياد، حيث ينتظر الشعب المصري المسرحيات الغنائية والكوميدية، ولكنها منعت منذ ذلك الوقت، وحتى اليوم.
أدرك الأخوان عبثية الحالة، وأن المقارنة التي نشبت بين فيروز، وأي كان، لن تصب في المصلحة الفنية للجميع، وقررا أن يتركا التاريخ يستريح بعيدًا في هدوء وسكينة، حتى قرر عاصي الهروب إلى الأمام، تاركًا الماضي خلفه، ومقتحمًا المستقبل كما عشق دائمًا، فاستدعى رونزا، وملحم بركات، وشقيقة رونزا،المطربة الشابة فاديا طنب، ليكونوا أبطال  مسرحيته الجديدة "المؤامرة مستمرة" (1981)، التي استوحى نصها من قصص جرت في الحرب الأهلية اللبنانية، وأتبعها بمسرحية "الربيع السابع" (1982)، بالكادر نفسه الذي قدم فيه العروض في صالة السفراء، ومسرح جورج الخامس أدونيس في بيروت... وهكذا بات القطار الرحباني يمضي قدمًا، والتذاكر تنفد من جديد، والناس تصفق بشدة، ولكن من دون وجود عصفورة الحرية فيروز في تلك العروض... فالجمهور الذي كان يقارن المسرحيات المعادة بأداء السيدة فيروز كان أيضًا يتحدث عن شكل أداء المسرحية لو كانت فيها سفيرتنا إلى النجوم بطلة كما اعتاد الجمهور.
رغم كل ذلك النجاح، فُقد شيء ما في مسرحيات الموسيقار المتفرد عاصي الرحباني، لم تعد مسرحياته تحمل ذات القدر من البراءة والطزاجة، كانت روح الغضب تسيطر عليه، والمرض ينهكه بشدة، بينما بقيت فيروز صامتة تتفرج من بعيد، وها هي مسرحيات مثلث المجد فيروز والأخوين رحباني لا تزال تدور من جيل إلى جيل، وتراجعت مسرحيات عاصي من دون فيروز إلى رتبة الأرشيف الفني، لتبقى فيروز تلك الجوهرة النادرة التي لم يستطع ذلك الموسيقي العبقري صياغتها مرتين.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.