}

دوبريه وزيغلر مُستشرِفَيْن مصير العالم

جورج كعدي جورج كعدي 17 يونيو 2023
استعادات دوبريه وزيغلر مُستشرِفَيْن مصير العالم
ريجيس دوبريه (يسار) وعالم الاجتماع السويسري جان زيغلر(Getty)
ثمّة كتب مركونة منذ سنين على رفوف مكتبتك "الجاحظيّة" تفرض عليك العودة إليها في قراءة ثانية، لآنيّة محتواها الذي لا يتقادم مع الزمن، بل يلبث الأوان أوانه، والساعة ساعته، ما يؤكّد أنّ الفكر الاستشرافيّ العميق والملمّ يحتفظ دومًا براهنيّته، لا يهرم ولا يتجاوزه التاريخ.
هذا ما حصل معي بالأمس القريب حين دلّني حَدْسٌ ما إلى أنّ هذا الكتاب يستحقّ منّي قراءةً بعد ثمانية وعشرين عامًا على صدور ترجمته إلى العربيّة، ويحمل عنوان IL s'agit de ne pas se rendre  1994 في منشورات arléa الباريسيّة، وولدت ترجمته العربيّة بعد سنة لدى "المركز الثقافي العربي" (الدار البيضاء وبيروت) بجهد مشترك من الشاعر والمترجم الراحل بسّام حجّار، والروائية رينيه الحايك، اللذين تصرّفا قليلًا بالعنوان، فأضحى "كي لا نستسلم"، بينما ترجمته الحرفيّة عن الفرنسية هي "المسألة ألّا نستسلم". إنّما ليس هذا المهمّ قياسًا بمحتوى الكتاب الذي يقدّم نسخة "مفرّغة" مكتوبة لحوار إذاعيّ بُثّ عبر France culture عام 1994، ضمن حلقات، وطوال أسبوع، بين الفيلسوف الفرنسي ريجيس دوبريه/ Regis Debray (المناصر للقضية الفلسطينية)، وعالم الاجتماع السويسري جان زيغلر/ Jean Ziegler. عالِما فكر تناظرا وتساجلا في مسائل فكريّة وسياسيّة واجتماعية كانت ولا تزال مطروحة بقوّة، حول مصير العالم في أكثر من منحى واتجاه، بدءًا بالعولمة (قبل تهافتها وانطفاء الخطاب المستعر بشأنها) إلى قضيّة التهديد النووي، مرورًا بإشكاليات اليسار واليمين، العالم الرأسماليّ والعالم الفقير، الاستهلاك والتكنولوجيا والتحوّلات الثقافية والحضارية (ربما اللا حضاريّة) التي يشهدها كوكبنا منذ عقود.
يرى زيغلر (ولا ننسيّن أن الحوار في عزّ "فقّاعة" العولمة) "أنّ ثمّة توحيدًا مصطنعًا للعالم وتوحيدًا له بالصور والأقمار الاصطناعية وشركات الاتصالات والمواصلات يتسلّل إلى أبعد القرى النائية، في شمال شرق البرازيل مثلًا، إذ تُنقل إلينا الصور من عمق الداخل الأفريقيّ، أو من الهضاب البرمائية خلال عشر من الثانية. للوهلة الأولى، نحسب أنّ مثل هذا التقدّم التقنيّ من شأنه أن يحفّز ولادة وعي كونيّ شامل، مع كل ما يترتّب على هذا الوعي من معرفة للآخر، وانفتاح عليه، وإدراك للاختلاف وقبوله، لا بل قيام نوع من التضامن مع الآخر الذي ننظر إلى شقائه المقيم ونبصره ونعرفه. والحال أنّ ما يحصل هو نقيض ذلك (...) "، عادًا أنّ الجبهات أو الأحزاب أو الأمميات الإشتراكية التي كانت تحمل ماضيًا شعار التضامن تشهد حالة من التفكك والانحلال، وبالكاد هي موجودة. والتناقض بالنسبة إلى زيغلر، بات معضلة بلا حلّ.
هنا يدعو دوبريه زميله وشريكه في الحوار إلى الاستعاضة عن مصطلح "التناقض" بـ"الارتباط المتبادل" (مصطلح من الرياضيّات)، سائلًا إيّاه: ماذا لو قلنا "إنّ العالم يزداد تشرذمًا بازدياد وتائر توحيده؟". معادلة مثيرة، جدليّة، بليغة يطرحها الفيلسوف الفرنسي، ليخلص إلى معادلة ثانية لا تقلّ إثارة وأهميّة، إذ يقول: "كلّما تفاقمت عولمة الاقتصاد، تفاقم تشرذم السياسيّ". ولا بدّ من أن نظرته هذه لاستشرافها منذ منتصف التسعينيّات ما نعيشه اليوم في مطلع العشرية الثالثة من القرن الحادي والعشرين: ألسنا نشهد اليوم أفظع تشرذم سياسيّ على المستوى العالميّ، وأخطر صراعات بين الدول العظمى؟ أليس عالمنا باقيًا على وحدته الاقتصادية (العولميّة) مقابل تشظّيه سياسيًّا و"صراعيًّا" لو صحّ التعبير؟ بل يتابع دوبريه ملاحظًا أنّه "كلما ازداد اتساق العالم، تفاقمت بلقنته"، مشيرًا إلى أن حيّز التبادل الموحّد للصور، أو "نطاق الفيديو" ـ بحسب تسميته ـ الذي يُزعم أنّه يشمل الكرة الأرضيّة بأسرها، هو أميركيّ في الجوهر والأساس، ما يعمّم نمط الحياة والفكر الأميركي الشماليّ. هي، إذًا، عولمة زائفة لا تبادل فيها ولا تعامل بالمثل، بل تمويه للطابع المحليّ بآخر شموليّ جامع، وتغليف لثقافة الغرب بطابع الحضارة الكونيّة. "مزحة خشنة" يقول دوبريه.



هنا يوافق زيغلر شريك الحوار، وإن بطريقة أخرى، أو إضافيّة، إذ يقول: "إنّ توحيد العالم يتمّ وفق نمط عقلانية السوق، لا عن طريق إيجاد هوية جمعيّة موحدة. وعقلانية السوق هذه تفرض نفسها حيثما كان بصورها المسفِّهة وتسلسل فكرها المدقع، فتستنهض في أثر معاكس حركات تتمسّك بالهوية ذات الطابع المحلي بالضرورة، إذ تستمدّ جذورها من معين سلفيّ يتصف بوهن بنيانه المفهوميّ". فكم هو مصيبٌ زيغلر منذ ذلك الحين، إذ يسبق برؤياه ما نشهده حاليًا من عودة قويّة إلى التمسّك بالهويات الخاصة، وعلى نحو متطرّف مليء برفض الآخر، بل كرهه، انطلاقًا من عصبيّة قوميّة، أو دينيّة، أو عرقيّة،... إلخ. ولزيغلر ملاحظة أخرى مهمّة قائلًا: "عندما أزور بلدانًا أفريقية ـ داكار، كمبالا، طرابلس الغرب، جوهانسبورغ ـ ألاحظ أنّ هذه المدن متشابهة على نحو مذهل: لجهة العمران، أو لجهة الصيدليات المنتشرة فيها، والتي تعرض كميات هائلة من مستحضرات التجميل، وسواها. لقد وحّدت السلعة، على نحو ما، هذه القارة الأفريقية، غير أنها أفقدت الناس الذين يحيون فيها هويتهم (...)". وإذ يرى زيغلر أنّ السواد الأعظم من ثلاثة أرباع البشرية يحيا في أطراف العالم الصناعي (حقيقة تقفز إلى عيوننا بيسر اليوم) توغل في حلك الظلمة وتغادر التاريخ بوتائر متسارعة، وأنّ دول الطرف كفّت في معظمها عن كونها صانعة التاريخ، تاريخها الخاص وتاريخ العالم. ويطرح هنا السؤال الأخطر: "ما السبيل كي لا تفضي هذه الجدليّة التي أطلقها التوحيد المصطنع لوعي البشر بواسطة السلعة إلى زوال غالبيّة قاطني هذا العالم من تاريخ العالم؟" أليست بلقنة دموية للعالم وفوضى قاتلة ما نشهده اليوم في صراعات القوى العظمى (أميركا، روسيا، الصين...) في مناطق متفرّقة من عالمنا التعيس الذي لا تهدأ حروب أممه وشعوبه ونزاعاتهم؟!
ولكن من باب الحيويّة والفكرية وحماوة السجال يردّ دوبريه على زيغلر قائلًا له: "قد يجيبك عالمٌ أنتروبولوجيّ: يا عزيزي زيغلر، لم يصنع العالم يومًا تاريخ العالم... فلطالما صُنع تاريخ الجنس البشريّ في مواضع متعيّنة لم تلبث أن حملت في ما بعد راية الإنسانية جمعاء. هذا ما حصل في سومر، ثمّ في الصين، فحوض البحر الأبيض المتوسط، ولاحقًا في أوروبا الغربية. وما يُشعرك بالصدمة اليوم هو أنّ البشرية ماثلة لذاتها في نقاط وجودها كافة، كشبكة وتفرّعات، ومع ذلك ليست صانعة التاريخ. ولكن، إذا لم تكن البشرية يومًا صانعة التاريخ فلِمَ تكون اليوم كذلك، إنّ باتامبانغ، أو الخرطوم، موجودتان على مقربة، في ردهة الجلوس هذه، أو في ذاك الاستوديو، إذ نستطيع رؤيتهما على الشاشة الصغيرة، ومع ذلك نلاحظ أنّه لم يعد هناك، لا في باتامبانغ، ولا في الخرطوم، من يصنع التاريخ، بل من يخضع له" (هل ما تشهده الخرطوم حتى هذه الساعة يؤكد هذه النظرية المستشرفة، أم ينقضها؟).



يُردف دوبريه في ردّه المخالف (والمشاكس) متوجّهًا إلى شريكه في الحوار بالقول: "في معجمك الماركسيّ، لو أذنتَ لي بالقول، يسمّى ذلك ̕النموّ اللا متكافئ. نحن نشهد نموًّا رأسماليًّا حادًّا يُتَرْجَمُ هوّةً جديدة بين الشمال والجنوب، وأوافقك القول هنا إنّها هوّة لم تكن يومًا بمثل هذه القسوة والضراوة (...). تشهد الأرض اليوم وفرةً في الثروات والخيرات. ولم يتمّ التغلّب على الندرة فحسب، بل أضحت هناك وفرة في الخيرات أيضًا. ولن أذكر هنا سوى مثل واحد: عام 1982 تقدّمت منظمة الفاو (FAO) التابعة للأمم المتحدة والمتخصصة في شؤون التغذية والزراعة بأرقام تُظهر أنّ الزراعة العالمية، في المرحلة الراهنة من نموّها، يمكنها أن توفّر الغذاء، دونما مشقة، لنحو اثني عشر مليار نسمة. فيما لا يربو عدد سكان الأرض على نصف هذا الرقم. وتشير أرقام الأمم المتحدة، هي أيضًا، إلى أن هناك ستة عشر مليونًا من البشر يموتون سنويًّا بسبب الجوع، أو الأمراض الناجمة عنه. تمّ التغلّب على الندرة الموضوعية نهائيًا وإلى الأبد، وفي المقابل لا تزال الندرة الاجتماعية التي يولِّدها نظام قاتل للعالم ماثلةً على نحو مخيف (...). لِمَ يسلك عالم يملك إمكانات الرفاه كلّها وإمكانات إطعام وإسكان وإكساء مجموع قاطنيه، في حين أنّه يشهد شقاء أعداد هائلة منهم وموتهم، فلماذا يسلك عالمٌ كهذا ذاك المسلك الذي اختاره؟".
ببعض الظنّ والافتراض يتلقى زيغلر هذه الملاحظة المقرونة بسؤال جوهريّ، فيجيب زميله: "في خلفية كلامك تكمن تلك الفكرة القائلة بأنّ الرأسمالية يجب أن تكون أخلاقية. ولكن لِمَ يجب أن تكون كذلك؟ إنّ الرأسمالية تتبع منطقها الضمنيّ. أنت تجد بعض الظواهر مشينة، وهي فعلًا كذلك، إنّما من وجهة نظر ليست نفسها وجهة نظر الرأسمالية التي لها منطق على قدْرٍ لا بأس به من الجنون، لكنّها لا تأبه لواقع أنّ منطقها مجنون (...) أنت تشبهني، لا تزال مسكونًا، على الرغم من كل شيء، بإرادة التغيير والأمل في عالم مختلف، وبالوعي الشقي، بحسب عبارة هوركهايمر (...)".
وإذ ينتقل المتحاوران إلى المسائل الشائكة بين الماركسية والرأسمالية، يضيء زيغلر على آفات الرأسمالية التي ما انفكّ العالم حتى هذه الساعة يتداعى تحت ضرباتها. يقول: "أظهرت الرأسمالية، منذ نشأتها، طاقة على التجدّد لا تُستنفد، وحيويّة لا تضاهى. كما أظهرت في مجال إنتاج السلع والخدمات قدرة على الابتكار نفيد منها جميعًا هنا في الغرب. بيد أنّ النظام نفسه يعيث اليوم في الأرض فسادًا. يُفسد البشر ويُفسد الطبيعة التي كان ماركس يسمّيها ̕الجسد البرّاني للبشر̔. وفي مجال التملّك الخاص للمواد الأولية ولجهد البشر، يسلك هذا النظام مسلكًا لا أخلاقيًّا، متهكمًا، وعلى قدر عالٍ جدًا من القسوة. إنه يشيئ الوعي، ويُحيل الإنسان على وظيفيّته السلعيّة الخالصة، ويسلبه حريته، ويسلبه في آخر المطاف مصيره. واليوم (أي منتصف التسعينيّات، فما بالنا بالواقع المتفاقم راهنًا) بلغ هذا النظام الرأسمالي ذروته: فالرأسمال الماليّ المتحرّك إلى أقصى حدّ، والقادر على إفساد أي شيء، يحوّل الكرة الأرضية بأسرها إلى حيّز متجانس، حيث العمل على بلوغ الحدّ الأقصى من الربح يشلّ الفقراء ويمنح مالكيه سلطانًا اعتباطيًّا كاملًا. إنّ تدفّق الرأسمال المالي من جهة، وتبادل الخدمات والثروات من جهة أخرى، يبدوان اليوم إلى مزيد من الافتراق الواضح. فلا مرجع للرأسمال العالمي إلّا ذاته. وتدرّ المضاربة على المواد الأوّلية والأرض والعملات الوطنية والتكنولوجيا الوراثية ـ أي في اختصار على كلّ ما هو حيّ وما هو كائن تحت السماء ـ ثروات يوميّة هائلة. وماذا عن السوق العالميّة؟ إنّها فسحة عيد شعبيّ يحكم فيها الأقدر على الاستغلال والأبرع والأسرع مبادرةً بين مغامريها. فكيف السبيل إلى وضع سياسة السواد الأعظم من البشر حين يكون الاقتصاد العالمي رازحًا تحت هيمنة شركات متعدّدة الجنسية؟". هو واقع لا جدال فيه يشهده عالمنا اليوم ويصفه زيغلر خير وصف دقيق مفحم، ليخلص إلى "أنّ العبوديّة واستغلال البشريّة ـ بما في ذلك الأطفال والفتيان ـ سيتفاقمان مرة جديدة في بلدان الأطراف. أمّا في أوروبا فسترتفع نِسَب البطالة إلى معدّلات خرافية (...)". فلننظر إلى واقع أوروبا الآن، أليس حرفيًّا ما استشرفه زيغلر منذ منتصف التسعينيّات؟
إلّا أنّ دوبريه، وبعد تسليمه بأنّ ماركس هو من أكبر مؤرّخي الرأسمالية ومؤلّفه "رأس المال" نموذج فعليّ لنزعة التشييء، يرى في المقابل "أنّ الماركسية والليبرالية هما الشيء نفسه تقريبًا، وجها وَهْمٍ واحد لازم حقبة الثورة الصناعية الأولى (...) وهذا ما أسمّيه بـ"̕الوهم الاقتصادي"، فماركس، وآدم سميث، وريكاردو، ليسوا في الحقيقة سوى تنويعات على فرضيّة واحدة، وأرى أنّها فرضية خاطئة. إنّ ما يضعه ماركس في خانة البنية الفوقية إنّما ينتمي، واقعًا، إلى البنية التحتية للنمو الاجتماعي. فالدين (وأؤثر هنا استخدام مصطلح "الديني"، وليس "الأديان"، التي تفترض إلهًا شخصيًا) ليس معطى انتقاليًا، بل هو معطى بنيويّ في سائر المجتمعات البشرية، حتى العلمانية منها (...) وما شهدته الشيوعية في هذا المجال ستشهده الرأسمالية أيضًا".




يردّ زيغلر على دوبريه بأنّه يفصل بين تاريخين، إذ لدينا من ناحية تاريخ العلاقات بين البشر والأشياء، ومن ناحية ثانية تاريخ صلة الإنسان بالإنسان، عادًا "أنّ التاريخ الأول قابل للتطور وقد يشهد اضطرابات وثورات، والدليل على ذلك الثورة العلمية والتكنولوجية،... إلخ. أمّا الثاني، أي تاريخ صلة الإنسان بالإنسان فهو غير قابل للتحسّن أو للتحوّل (...) إذ لا تزال العبودية موجودة اليوم، بخاصة في العالم الثالث، وهي أشبه، بل مماثلة تمامًا، لنظام الرقّ الذي ساد الإمبراطورية الرومانية الآفلة في القرن الرابع بعد الميلاد (...) قد تعترض قائلًا: بلى، ولكنّ المرجوّ فعلًا هو أن يطرأ تبدّل نوعي على علاقات البشر في ما بينهم، على مستوى الوقائع، وليس فقط على مستوى الإدراك البِنْيَفوقيّ (superstructurelle) الذي يتحصّل لدى البشر من العلاقات التي يقيمونها في ما بينهم (...) إنّما لم يُكتشف لقاح ضدّ الاستبداد، وضدّ التشدّد والعنصرية ورفض الآخر والممارسات السلطوية. ولم يُكتشف لقاح ضدّ الأصوليات (...) أعتقد أنّ كل شيء في مضمار السياسيّ هشّ وقابل للكسر (...) إنّ براهيني الأنثروبولوجيّة الجاهزة ليست على الإطلاق ذريعة للتخلّي، أو الاستسلام لغفوة اليائس، بل هي دعوة لأن تكون يقظة كلٍّ منّا أشدّ في كل لحظة. إنّ أساليب التعذيب المختلفة تُستخدم في القرن العشرين أكثر بكثير ممّا استخدمت في القرن التاسع عشر، والقرن التاسع عشر كان قد خلّف بدوره أعدادًا من الجثث في ساحات القتال تفوق بكثير تلك التي خلّفها القرن الثامن عشر. إن البندقية الرشاشة أشدّ فتكًا من البندقية ذات الطلقة الواحدة، والقنبلة الذرّية أشدّ فتكًا من البندقية الرشاشة. وأخشى ما أخشاه هو تحديدًا تضافر الانبعاث القبلي والتسلّح النوويّ، لحصد النتائج في أسرع وقت. ثمة في الطابع الحاسم والتراكميّ الذي لا رجوع عنه لجهة التقدّم التقنيّ، شيء ما يصبح أكثر قابليّة للانفجار حين يلتقي بالرواسب السلفيّة للسياسيّ، بل يغدو خطره أعظم. مرّة أخرى أقول، دَعْنا لا نكون من دعاة الدوران في دوائر مغلقة. وفي أي حال، ثمة أمر يجعلني مختلفًا تمامًا عن المؤمنين بالماركسية، وهو التفاؤل. إنّ الماركسية هي نزعة تفاؤلية مرضيّة، وعمياء، وبلغت من الخطورة مبلغًا، إذ لم ترَ الضوابط البنيويّة للكائن الجمعيّ، والطابع المتجدّد لتوالد العنف، والطابع الدينيّ الذي لا يمكن تجاوزه. فالتفاؤل قد يتسبّب أحيانًا بشرور قد لا يتسبّب بها التشاؤم".
جزء آخر مثير في هذا الحوار الفكريّ الشائق بين دوبريه وزيغلر حول مسألة الدولة وضرورة وجودها، أو عدم وجودها، ويبدأ زيغلر السجال مستفزًّا دوبريه الجالس قبالته أمام ميكروفون إذاعة "فرانس كولتور"، إذ يبادره بالقول: "يبدو، من مؤلفاتك السياسية، أنك تضفي على الدولة طابعًا من الجلال اللافت (...) ولا تخطر في بالك البتة فكرة تجاوز الدولة، وهذا حلمي وحلم الملايين من البشر، فكرة تفكيك هذا الجهاز الهائل الذي يقوم على القَسْر"، فيجيبه دوبريه لتوّه: "(...) أرى أن الإنسان ليس طاقة من النزوع الفكريّ والعفويّ، بل هو كائن مؤسَّسة. كائن تربية. ويبدو لي أن المؤسسة الدولتيّة (من دولة) هي ضمان الكرامة الإنسانية (...) حصل أنني ولدتُ في بلد استطاعت الدولة فيه أن تمدّن المجتمع. وهذا واقع. تمكنت الدولة ومنطق الدولة من التغلّب على منطق الكنيسة، أي على التعصّب، ومن هَزْم الإقطاع وإتاحة المساواة بين الجميع أمام القانون (...) لا وجود لحقوق الإنسان إنْ لم تكن هناك حقوق المواطن (...) فالإنسان لا يستمتع بحقوقه إلّا بوصفه مواطنًا، وحيث لا وجود للدولة لا توجد حقوق للإنسان. في معنى آخر، الدولة ليست هي الخير، بل القَدْر الأقلّ من الشرّ. أو هي أسوأ الشرور قاطبة، باستثناء تلك التي ستنجم عن غيابها (...)". هنا يتلقّف زيغلر كلام دوبريه ليشنّ هجومًا مضادًا على فكرة الدولة، من خلفيته الماركسية الأممية شبه الراسخة، سائلًا شريكه: "(...) أليس بإمكان البشر أن يأملوا في ما هو أفضل من الدولة؟ إنك كاتب فرنسي، وقد ورثت تقليد الدولة العنيفة، المصفّحة بالفولاذ. أنت ابن مجتمع يعقوبيّ (...) أما أنا فقد شاءت المصادفة أن أولد في سويسرا، وسويسرا ليست لها دولة، بل إنّها كونفدرالية ومتّحد دفاع ذاتيّ من وديان مأهولة ومدن (...) هناك سنوات ضوئية من الفروق تفصل بين قاطني وادي أنغادين العليا وقاطني مدينة زوريخ، وبين فلاح مقيم في سهل موغادينو في تيسّان وزارع كرمة من بحيرة ليما، إن على مستوى الذهنيات، أو الميراث الثقافي، أو على مستوى اللغة والدين والتقاليد والسلوك السياسي. تجمعهم إرادة الدفاع المشترك عن الحريات المحلية التي اكتُسبت محلّيًا بمشقة كبيرة بعد القتال ضدّ أعداء من الخارج. إلّا أنّ هؤلاء الأعداء الخارجيين لم يبقَ وجودهم بديهيًّا اليوم، لذا ستزول سويسرا في وقت قريب. قد تصمد حتى نهاية عهد جيلي أنا، لكنّ النهاية وشيكة. لقد وُلدتُ في بلد ليست له دولة، وبالكاد يمتلك حكومة. ولسوء الطالع، إنّه بلد يمتلك أوليغارشية مصرفية هي الحكومة الفعلية لسويسرا. لكن هذه مسألة أخرى". ويسلّم دوبريه في هذا الجانب مع زميله في الفكر والثقافة: "يا للأسف الشديد، هذا صحيح. إنّي أؤمن أيضًا بأنّ تجاوز الدولة ممكن. ولكنّي أرى الأمر على نحو مغاير. نحن لا نقف على عتبة تجاوز الدولة، بل على عتبة انحلال الدولة، أي على عتبة انبعاث الإقطاعيات (...) إنّنا نقترب من حقبة ثانية لسيادة الإقطاع في الغرب. فعندما تزول الدولة، ويزول القانون، ويزول موظّف الدولة، تسود ظاهرتان: الإكليروس، والمافيات. على مثال صقلية. وهذه المرة مَنْ سيحيي الإقطاعية بعد زوالٍ، كبار مرتزقة المال في تحالفهم مع الأصوليات. وأخشى ما أخشاه أن تصبح أوروبا الأوروبية هذه، التي ترتسم ملامحها في أيامنا هذه، أوروبا العابرة للحدود القومية، أوروبا الشركات الكبرى، والمصارف، والمؤسسات الإكليريكية، التي بدأت تكوّن لنفسها سلطانًا أخلاقيًا مذهلًا (...) فوفق ضربٍ من ضروب حقّ التدخّل، الاستعماريّ على نحو ما، والذي يُعاود العمل به اليوم، وأحيانًا بذرائع لا تُدحض، وتحت راية الدوافع الإنسانية والخيريّة، كالمواثيق التي تُوقّع تحت هذه الخانة، ثمة تشريع لحقّ القوي في النظر بأمور الضعيف دونما اعتبار للحدود. لقد استُغلّ مبدأ عدم التدخّل وحق سيادة الدولة على ذاتها كذريعتين لممارسة أسوأ أنواع الاستبداد وأفظعها، بيد أنّ إلغاء معايير السيادة قد يعود بنا إلى منطق سيادة الأقوى (...). أرى المنحى الذي تسلكه الدول ـ الأمم الأوروبية للتخلّي عن كلّ إرادة تاريخية حيال إرادة الولايات المتحدة الأميركية التي أضحت السلطة الموحِّدة، والوحيدة القادرة على اتخاذ القرارات السياسية والعسكرية في أوروبا بالذات، كما يحصل اليوم في يوغوسلافيا السابقة (...). بديهيّ أن الدولة ينبغي أن تتخذ مسار تطوّر، وأن تكفّ عن أن تكون الدولة البطريركية أي دولة نبالة الدولة. إنّما في وسعها أن تكون دولة الجمهوريّة. وهذا مثالي الوازع، في أيّ حال".




هنا يخالفه زيغلر رأيه المثاليّ: "إنّ الجمهورية التي تحلم بها ولا تتوقف عن ذكرها ليست غير سراب، وَهْم (...)". يقاطعه دوبريه: "الدولة ليست غاية في ذاتها، هي وسيلة. لخدمة ماذا؟ الأمة والشعب. فما أن تتخذ الدولة ذاتها غاية لها، تدخل في ضرب من الاستبداد الوظيفي هو خيانة للمضمون الجمهوريّ للدولة". ويمضي زيغلر أبعد في محاججته: "(...) تؤدي الإمبراطورية الكولونيالية الفرنسية الجديدة في أفريقيا ـ ويبدو لي ذلك فضيحة لا يمكن القبول بها ـ إلى الحفاظ، بشكل مصطنع، وعبر وسائل هذه الدولة القوية التي هي فرنسا (استخباراتها واتفاقيات الدفاع وثُكنها الموزّعة هنا وهناك في مواضع استراتيجية داخل القارة الأفريقية) على أنظمة حكم لا تطاق (...) إنّ رؤساء دول أوروبا يزنون شعبًا بأكمله بميزان الربح والخسارة (...) أضحت الجمهورية آلة دولة، غولًا أصمّ له منطقه الخاص، منطق السلطان، منطق السيطرة والمصلحة المتوافرة على المدى القصير (...)". هنا يُعلن دوبريه تسليمه (واستسلامه؟) أمام شريكه في الحوار، مصارحًا إيّاه بالقول: "(...) أجد أنك أصبتَ مني مَوْجعًا، فهذه المشكلة هي النقطة السوداء في سجلّ الجمهورية الفرنسية. أعني المسألة الكولونيالية. إنّها وجهنا المخفيّ (...) أنا جمهوريّ معادٍ للاستعمار (...)".

كم يحتاج زمننا المضطرب، بل شديد الاضطراب والجنون، إلى حوارات فكرية راقية، حيويّة، عارفة وموضوعيّة، كي يأمل العالم ولو قليلًا في الخروج من ضياعه وتخبّطه وحروبه وأزماته الكثيرة التي تكاد تفقدنا الرجاء بإمكان إصلاح أحوال كوكبنا المعذّب والمتوالية صراعاته وآلامه منذ الأزل، وما فتئ يخبط خبط عشواء، يحلم ويتعثّر.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.