}

محمود درويش في المرحلة الباريسية

بشير البكر بشير البكر 2 سبتمبر 2023
استعادات محمود درويش في المرحلة الباريسية
استقر درويش في باريس عام 1982 (Getty)
مرت في التاسع من الشهر الماضي ذكرى رحيل الشاعر محمود درويش عام 2008 في الولايات المتحدة. وفي هذه المناسبة، تبقى محطة باريس الأهم على مستوى تطور وتنوع نتاجه، وقد شكلت منعطفًا في قصيدته، ذلك أنه كتب فيها أهم أعماله الشعرية والنثرية، ومنها أطل على فضاءات الثقافة في فرنسا والعالم العربي. وتستحق إقامة درويش في هذه العاصمة الأوروبية، التي اختار الحياة فيها بعد الخروج من بيروت عام 1982، دراسات منهجية معمقة، من أجل تقصي تأثير المكان على نص الشاعر، فما قبل باريس، وما بعدها، يختلف عما كتبه في هذا الفترة التي تجاوزت 15 عامًا.
وهنالك إجماع بين النقاد الذين على صلة ما بمشروع الشاعر على أن فترة إقامته في باريس الأغنى بين مراحل حياته على الصعيدين الإنساني والإبداعي. عدا عن أنها تعد الأطول في المكان الواحد، من الناحية الزمنية، منذ خروجه من فلسطين سنة 1972، حيث امتدت إلى نحو 15 سنة، أمضاها وهو يتمتع بحيوية متجددة ودينامية عالية، انعكستا في صورة واضحة، من خلال غزارة وتنوع وعمق إنتاجه، وعبر عنها في النقلة النوعية التي أحدثها في قصيدته.
أحد الأسباب التي تقف وراء تطور نص درويش الشعري هو التمتع بحيوية جعلته يقبل على الحياة في هذه المدينة الثرية ثقافيًا وإنسانيًا، وقد كان نجاح عمليته الجراحية في القلب، التي خرج منها بصعوبة، أحد المحفزات للعمل على النص من منظور المكان الجديد، وقد كان هذا واضحًا في الأعمال التي كتبها هناك، لجهة اللغة والصورة الشعرية والموضوعات، حيث وسع بشكل كبير من عالمه، وذهب في فضاءات أبعد وأوسع.
بعيدًا عن انهماك الشاعر بالكتابة، فقد أحب باريس، وصارت خلال سنوات قصيرة مدينته القريبة إلى عالمه الخاص، له فيها عاداته الشخصية وأمزجته ونزواته، ولديه أماكنه المعتادة من مقاه ومطاعم، وصداقاته الحميمة، وهو أضحى وسط ذلك أحد نجوم الحياة الثقافية ومحركيها، سواء بكتاباته النثرية، أو عبر الأماسي الشعرية، التي أحياها في اليونسكو، ومعهد العالم العربي، والتي كان لها الفضل في كسر الصورة النمطية السائدة حول عدم وجود جمهور للشعر، فقد كان حضور أماسيه بالآلاف، وهو ما نبه درويش منذ ذلك الحين إلى شروط ومواصفات القارئ والمستمع المتابع له، دون غيره من الشعراء الآخرين، وقد اشتغل على هذا الجانب حتى بات له جمهوره الخاص في فرنسا، وهذا ما يفسر جانبا أساسيًا من رواج ترجماته بالفرنسية أكثر من بقية اللغات الأجنبية. ومن المظاهر المعبرة عن شعبيته العارمة هي الأمسية الأخيرة التي أحياها قبل شهر من رحيله، في ملعب لكرة القدم في جنوب فرنسا (مدينة آرل)، وكأنها كانت أمسية الوداع لجمهور نوعي، واكبه إبداعيًا بمحبة وشغف، وكان ينتظره عند كل نقلة جديدة.




طيلة سنواته الباريسية كان درويش شخصًا يتمتع بجاذبية عالية، قل أن وصلها كاتب أو مثقف عربي آخر، وقد كانوا كثرًا حين استقر هو في العاصمة الفرنسية سنة 1982، ومنهم من سبقه إليها بزمن طويل، وهو يتقن لغة أهلها، لكن لم يكتب لأحد حتى اليوم المكانة التي حصل عليها الشاعر، الذي أثار اهتمام وإعجاب كل من التقاه، ليس ككاتب فحسب، بل كإنسان أيضًا، وغالبًا ما تحدث عنه الناس بإعجاب شديد. وكان جيرانه في السكن يتحدثون عنه بتقدير شديد، ويصفونه بـ"صاحب الروح الجميلة"، وهو من دون شك أدرك مكانته هذه، لذلك أحس بالندم لأنه غادر العاصمة الفرنسية، وترك شقته الصغيرة المطلة على ساحة الولايات المتحدة، والذهاب للعيش في عمان، ومن ثم التنقل بين عمان ورام الله، ومدن فلسطين المحتلة عام 1948، وتلك مرحلة مختلفة كليًا عن المرحلة الباريسية، حيث عاد الشاعر إلى الوطن ولم يعد. صار بلا إقامة ثابتة، أو مكان محدد. لم يعد مقيمًا أو مسافرًا، في الوقت الذي تحركت من جديد الأزمة الصحية المزمنة، وهي مرض القلب، الذي عانى منه، وكان سبب وفاته.
يمكن الجزم، من دون حرج، بأنه أكثر الشعراء العرب استفادة من إقامته في مدينة الأنوار، فهي فتحت آفاقه على تأثيرات شعرية كثيرة، وقادت كتابته نحو أسلوبية مختلفة كليًا، ففي هذه الفترة كتب أهم أعماله: "حصار لمدائح البحر"، "هي أغنية"، "ورد أقل"، "مأساة النرجس.. ملهاة الفضة"، "أرى ما أريد"، "أحد عشر كوكبًا"، "لماذا تركت الحصان وحيدًا؟"، هذا بالإضافة إلى كتب نثرية عدة: "ذاكرة للنسيان"، "في وصف حالتنا"، "عابرون في كلام عابر"، "الرسائل" (بالاشتراك مع سميح القاسم)، وهي حصيلة مراسلات جرت بين الشاعرين الصديقين، على صفحات مجلة اليوم السابع، والتي عدها النقاد عملًا أعاد الاعتبار إلى فن كتابة الرسائل.
كان الجو العام في باريس في الفترة التي وصل إليها درويش غير ما هو عليه اليوم، ففرنسا كانت تعد بالانتقال إلى مرحلة سياسية مختلفة، جسدها وصول جيل جديد من السياسيين الاشتراكيين إلى الحكم، بقيادة مثقف كبير هو الرئيس فرانسوا ميتران، الذي أولى الثقافة عناية خاصة، وكان يحتفظ بصداقات شخصية قوية مع كبار كتاب العالم، من أمثال غابرييل غارسيا ماركيز، وإيميه سيزير، وول سونيكا، وقد سادت النظرة الثقافية طيلة ولايتي ميتران، وترسخ البعد الكوني في الثقافة الفرنسية، أكثر مما كان عليه في السابق، ومن ذلك تأسيس معهد العالم العربي، الذي كان يهدف إلى بناء جسر غربي نحو الثقافة العربية، وفتح الطريق أمامها، لتصل إلى الكونية.
أما على صعيد جو باريس العربي، فقد كانت هنالك مجموعة من الصحف الأسبوعية المتميزة، التي تصدر من هناك: المستقبل، اليوم السابع، كل العرب، الوطن العربي، الطليعة. وقد جمعت هذه الصحف من حولها نخبة إعلامية وثقافية عربية من المشرق والمغرب، ووسط ذلك كله برز نجم محمود درويش كشاعر فلسطيني صاحب نص عربي، ينحو في اتجاه الكونية، كما برز ككاتب مقالة سياسية وثقافية ذات نفس خاص ومختلف. وكان مقاله الشهري في اليوم السابع بمثابة هدية المجلة إلى قرائها، الأمر الذي أعطى للمجلة دفعة كبيرة، بعد الاجتياح الإسرائيلي لبيروت وخروج المقاومة الفلسطينية من لبنان. ورغم انشغالاته السياسية والإبداعية الكثيرة، واظب درويش على الكتابة في اليوم السابع لعدة سنوات، لكنه استنكف عن الكتابة فيها قبل أن تتوقف عن الصدور بكثير، وأسر لنا مدير التحرير آنذاك المرحوم جوزيف سماحة وأنا، أنه مضطر للتوقف لأن الكتابة النثرية هي بالضرورة على حساب الشعر، لا سيما وأن الشعر يمتلك غيرة استثنائية ولا يقبل أي مشاركة. مع أنه في مراسلاته مع سميح القاسم يرى أنه "ليس من الصواب أن ندخر الشعر إلى أن تأتي قصيدته التي قد لا تأتي"، وحين غاب مقال درويش الشهري عن القراء تراجعت مبيعات المجلة على الفور.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.