}

عاشَتْ العربية في غرْبتها (18)

دلال البزري دلال البزري 14 يناير 2024
استعادات عاشَتْ العربية في غرْبتها (18)
دلال البزري في ندوة في البحرين، 1989
تعريف:
عنوان هذا الكتاب، الذي ننشره على حلقات أسبوعية كل يوم أحد، تفصّله ثلاثة خيوط مختلفة:
ــ في الخيط الأول، يتكلم بصيغة الغائب المفرد. أي أنني أصف فيه محطات من حياة شخص، هو أنا: في إبحاري بالعربية، عبر أحداث سياسية ـ ثقافية.
ــ الخيط الثاني: أن العربية الراهنة ما زالت عائشة. ما زالت تقاوم من أجل البقاء، رغم تعثر أبنائها وإهمالهم لها. ويدعي هذا الكتاب بأنه ذرَّة في رمال إرادتها بالحياة.
ــ الخيط الأخير حماسي، يشبه صرخات التمنّي بالبقاء، مثل "يحيا الملك!" أو "يعيش الزعيم"! أقول "عاشت العربية!"، بمعنى أنني أتمنى لها البقاء، وتجاوز وحْشتها.

الوقائع المروية في هذا الكتاب كلها حقيقية، غير متخيّلة. وهي ناقصة بالتعريف. وأنا مسؤولة فقط عن صدقها.

القاهرة 1999 ـ 2009
قبل ذلك بخمس سنوات، أصدرتُ كتابًا عن مصر أيضًا. ولكن هذه المرة بتمويل من مؤسسة "فورد" الأميركية، وكان قد تغير مديرها وأصبحت بعهدة بسْمة قضماني. وفكرة الكتاب هي تلك الجدلية المستمرة بين الحداثة والتقليد. والنقاش الذي ما زال صاخبًا بين دعاة الاثنين. هي نفسها الثنائية التي شغلت كتابي السابق عن نساء "حزب الله" اللبنانيات.
في مصر، بدت لي الحداثة للوهلة الأولى مختلفة عن الحداثة اللبنانية، أبطأ منها، مع أنها أقدم. وددتُ القيام بدراسة شبيهة بدراسة نساء "حزب الله"، ميدانية، أتتبع فيها الحداثة في حيوات الأفراد. ولكنها ستكون مختلفة بأنها تجمع تنوعًا من هؤلاء الأفراد، ليسوا في حزب واحد. تنوع في العمر والطبقة والمنطقة والنوع (نساء/ رجال). على أن يكون هذا الفرد اتصلت حياته بوجه من أوجه الحداثة، فانقلبت هذه الحياة، أو تبدّلت، أو سلكت طريقًا جديدًا... وفي كل الحالات، غيّرت حياته الشخصية. في العمل، في الدراسة، في الغرام... كان السؤال واحدًا: إحكي لي حياتك.
لم يكن ممكنًا أن أقوم بنفسي في اختيار الأفراد وفرز حكاياتهم، وطرح السؤال عليهم. والتدقيق في كل جواب، واستعادة السؤال مرة أو اثنتين. "لبنانيتي"، سفوري، هندامي، طبقتي الاجتماعية... جميعهم في هذه الحالة لا يصلحون على الإطلاق. وأنا هنا معرِّضة إما للرفض التام، المهذب دائمًا، أو الاستغراب من هكذا حشرية، أو السقوط في بحر من التجميل لصورة الذات، كما يدرج في أي لقاء بين مصري وغير مصري. اختبرتُ ذلك قبل الشروع في البحث، عندما كانت فكرة تنفيذه تشغلني.
لذلك، كان عليّ أن أستعين بمساعد باحث، خصصت له ميزانيتي مع "الفورد" مبلغًا معقولًا. بعد بحث وسؤال، أعانتني عليهما صديقتي سارة بن نفيسة، وهي باحثة تونسية تعمل في مركز بحوث فرنسي. قالت لي بأن الدكتور علاء عرفات هو أفضل المساعدين. وهكذا كان.
علاء عرفات يبحث عن الفرد المناسب، يأخذ بعض المعلومات منه عن "الحدث الحداثي" في حياته، يراه صالحًا للرواية، يسأله إن كان موافقًا على الإجابة عن السؤال إياه، وينطلق. يأتي بالمقابلة مكتوبة بخط يده، يتلوها علي وأنقلها إلى اللابتوب، أتوقف عند الثغرات، أو التناقضات في الرواية، أسجلها، وأطلب من علاء أن يعود إلى صاحبها فيطرحها عليه، ويكون الجواب. وذكاء علاء يغنيه عن كثرة إعادة طرح السؤال، أو إيجاد ثغرة في الإجابة الجديدة. فهو مثقف "عضوي" و"معدني"، إذا كان ولا بد من إيجاد عكس "العضوي"؛ متشرّب لثقافة الريف التقليدي العميق. دقيق في وصفه لبيئتهم، وعاداتهم وطبائعهم. ولكنه أيضًا ابن العاصمة، يعيش فيها ويتفاعل مع أهلها ذوي المنابت المختلفة، متآلف مع ثقافتها، يتقن المناهج العلمية الغربية، ويسعى إلى فهمها ميدانيًا. فيكون في الآن عينه، ناقدًا حذقًا ومتعاطفًا، متفهمًا تمامًا لمثالِب سياقات الأشخاص الذين اخترناهم، بعد الاستكشافات الأولية.
والكتاب يمكن تصنيفه في خانة السوسيولوجيا، ولا يدعي الشمول. فإدارة فورد لم تستجب لطلبي تمويل بقية المشروع من أجل زيادة عدد أصحاب الحكايات، بما يغطي شيئًا من التنوع المصري. فكانت النتيجة منحصرة بثمانية عشر فردًا مصريًا. وتوصلتُ فيها إلى أن العهود السياسية هي المفعِّلة لديناميكية الحداثة، أو لنقيضها. وذلك بصرف النظر عن حيوية هذا الخيط الحداثي، أو المصلحة المستفادة منه. وكان عنوان الكتاب "السياسة أقوى من الحداثة" (2003).




الآن، لكل واحد من أولئك الثمانية عشر المختارين حكاية تروى، هو بطلها. وكل حكاية تبدأ من حيث المزاج. تبدأ أحيانًا من النهاية. وباللهجة المصرية المكتملة. وكل أصناف الاستدراك، أو "الفلاش باك"، أو مجرد الثرثرة، وضبط التواريخ. كان لا بد من تحويل حياة كل واحد من هؤلاء إلى قصة مروية، متماسكة، تسترعي الانتباه. فكانت أولى التدخلات، الضرورية. مع الوعي التام بأن تحويلها إلى قصة يقلص من العفوية، أي من تلك الخصلة التي تفضي أحيانًا إلى مناطق داخلية محمية من عدم البوح، وتغيّب أيضًا نبرة الصوت، ولغة الجسد والوجه، وهؤلاء يعطون معنى ناقصًا أو زائدًا للكلام.
هكذا، أشرع في "هيكلة" مقاطع الحياة، بما يجعل كل واحدة منها قصة، ثم "أترجمها" إلى العربية الفصحى. فيكون نصًا مفتعلًا، فقيرًا، ثقيلًا، مفكّكًا. وضعتُ هذه "المحاولة" جانبًا، وبعد التشاور مع الأصدقاء، رأيت بأن تكون لغة تلك القصص مزيجًا من النحوي والعامي المصري، المصري تحديدًا، مع الاحتفاظ بكل العبارات والمفردات المصرية المعروفة وغير المعروفة. وصرت كلما وقعت على واحدة من هذه المفردات أبحث عنها في قاموسين: قاموس "شعبي"، شفاهي، أستقي معانيه من المصريين الذين من حولي، أسألهم فردًا فردًا، وأعتمد التفسير الغالب بينهم، ثم قاموس "أكاديمي"، الكلاسيكي المعروف، الموجود في الكتب. أتوصل هكذا إلى الاكتشاف بأن بعض ما نعتقده عامية المصرية هو في الأصل نحوي، وما تبقى منه هو ابن بيئته المصرية المباشرة، أو بالأحرى معيوشها. وهذا الاكتشاف يدفعني إلى وضع فهرَسين في نهاية الكتاب: واحد للفئة الأولى من المفردات، تلك التي نعتقدها عامية مصرية، وهي في الأصل نحوية، ولائحة أخرى للفئة الثانية، أي المفردات المصرية حصرًا.
مرة أخرى، الكتاب يخيّب توقعاتي. "أتيلييه" القاهرة "للفنون والآداب"، ملتقى الأدباء والفنانين المصريين، الواقع في وسط القاهرة، ينظّم من أجله ندوة يحضرها عشرة أشخاص، بمن فيهم المتدخلَون وأنا، وصديقتي وزوجي. ويتكلم فيها كامل السيد، الأستاذ في جامعة القاهرة. ويأتي مديحه لكتابي، بصفته "تعبيرًا عن حرية الكاتبة"، وكأنه مُراضاة على ضآلة الحضور. وأنا أستمع إليه، أنظر من حولي، وأرى أعضاء من "الأتيلييه" يتجولون في ممراته، يطلّون برأسهم على الحديقة، حيث "يناقَش" الكتاب، ثم يختفون. فكرتُ وقتها بأن هذه اللامبالاة هي لقلة قيمة كتابي، وعدم استواء قدراتي إلى المستوى المطلوب.
وتكون ردود فعل أخرى على هذا الكتاب، ذات النوعين. واحدة تمرَّر شفاهةً، بصفتها شائعة، عن سرّ يُراد له أن يُذاع، من أن هذا الكتاب مموَّل من "فورد فوندايشن"، أي من الإمبريالية الأميركية. وهذه غَمْزة منتشرة وسط عدد من المثقفين اليساريين المصريين، وخلفياتها لا تقل ذيوعًا: من أن هذه دراسات "معروفة"، يطلبها الأميركيون، هي أعمال التجسس، تتستّر بالوقار الأكاديمي، وغرضها تحطيم الثقافة المصرية.
ردة الفعل الثانية مكتوبة: تعليق على الكتاب، يكتبه الصحافي المصري أحمد الخميسي، عنوانه "السياسة أقوى من الحداثة أو الحكايات المختلقة". من أوله إلى آخره، يردّد الخميسي بأن نيتي غير الصافية تجاه الشعب المصري دفعتني لتشويه الشخصية المصرية في هذا الكتاب.
وبين "الإمبريالية الممولة" للكتاب، و"تشويه الشخصية المصرية"، خيوط متداخلة، لا تحتاج إلى من ينسجها.
وهذه الخيبة قليلة، نسبية، إذا ما قيست بعملية نشر الكتاب نفسها. أختار لطباعته دار "ميريت"، الواقعة في عمارة قديمة في وسط البلد. أجدها الأنسب من بين الدور. حيث ينظم مديرها حلقات ليلية يلقي فيها شعراء شباب قصائدهم، ويتحاورون حولها. وإصداراته جديدة في لغتها ومحتوياتها، تواقة إلى نوع من الطليعية. ظننت بأنني وجدت في هذه الدار ضالتي. من حيث النشر، ومن حيث شخصية هذا المدير الميّالة إلى نوع من البوهيمية المتقرّبة من المتمردين الشباب، وريثة هيبية يسارية قديمة. أسلّمه مخطوطة الكتاب، ونتفق على موعد صدوره، بعد ثلاثة أشهر. وفي نهاية تلك الأشهر، أتصل به، سائلة عن مجريات طباعة الكتاب:
ــ أين وصلنا يا أستاذ...؟
ــ إن شاء الله خير...
ــ يعني...؟
ــ اتصلي بي بعد أسبوع، تكون لدي تفاصيل.
أحاول أن أجادله:
ــ قلتَ بعد ثلاثة أشهر...
ــ إن شاء الله خير... اتصلي بعد أسبوع.
بعد أسبوع، يأتي جوابه على الهاتف:
ــ تكاليف الطباعة باهظة... والورق ارتفع سعره... والكتاب في أزمة كما تعلمين... أرجو أن تغطي هذه التكاليف وتتقبلي دفع خمسة عشر ألف جنيه.... لصالح الكتاب... من أجل أن لا نتأخر...
صدمة... لا أصدق. فـ"مفاوضات" بين زوجي ومدير الدار، بين هذا الأخير والروائي إبراهيم أصلان، الذي "يتوسّط" لي بطلب من الشاعر اللبناني محمد علي فرحات.
ــ هل هذه هي سياسته...؟ يدفع له الكاتب من أجل نشر كتابه...؟
ــ لا ليست سياسته... من أين لكاتب مصري، خصوصًا إذا كان شابًا شاعرًا، أن يغطّي...؟ أن يدفع هكذا مبلغ أو حتى أقل منه؟ وأنت ترين كم من الشباب ينشرون عنده.
ــ هو يقول بأنك ثرية. بوسعك أن تدفعي، طالما كتابك من تمويل مؤسسة أميركية... وهو كما ترين هفْيان... مسْكين!
أن يكون الناشر "هفْيانًا"، فهذا انطباع قوي يعززه سلوكه، حيث يبالغ في اللطف والإطراء، بلزوم ومن غير لزوم... وبعد "الحادثة"، صرت أتساءل: هل كان فعلًا ضيّق الأحوال؟
على كل حال، تم اتفاق في النهاية على دفع المبلغ، بالتقسيط. ولكن عند صدور الكتاب، فوجئت بأن الناشر أزال من الصفحة الأولى شكرًا خاصًا كتبته لمؤسسة فورد فوندايشن على تمويل البحث الصادر في الكتاب، كأنه أراد بذلك أن يصيب عصفورَين "وطنيَين" بحجرة واحدة: ألغى الشكر إلى الإمبريالية الاميركية، وعوّل على التمويل الأميركي "القذر" ليفرض عليّ أتاوة سكوته عن تعامله معي، بصفتي "مستفيدة" من هذا التمويل... تصوّرَ ربما بأنني قبضتُ نصف مليون دولار على البحث.




بعد ذلك، صرت أنتبه وأسأل. كيف طبعت كتابك؟ هل دفعت للناشر مالًا؟ كم من الوقت أخذ كتابك ليُطبع؟ في أي دار؟ وتأتي الإجابات بتجارب مختلفة. وفي كل إجابة "حالة"... وفي يوم، أكون أنا المجيب على السؤال: الناقد الشهير جابر عصفور في إحدى السهرات الهادئة، في منزل زميله عماد الدين أبو غازي. يوجه لي السؤال على حين غفلة، يسألني عما دار بيني وبين دار "ميريت"، ويعيد كل الموضوع إلى افتقاري للشهرة:
ــ لو كنت فلانة من الكاتبات المعروفات، لهرع إلى نشر كتابك... من دون دفع كل هذا المبلغ...
ــ الله غالب.... أجيبه على الطريقة التونسية...
لكنه يتابع:
ــ وكيف يحصل يا سيدتي أن أحدًا لم يسمع بكِ؟
ــ يعني...؟
ــ تكتبين في الصحافة عن مصر، تصدرين الكتاب عن مصر... ولا أحد يعرفك. كيف تفسرين ذلك؟
ــ ربما لأنني أقل من المستوى... أو أن ما أكتبه لا يثير الاهتمام...
كنت أريد أن أسخر من سؤاله، ومن نفسي.
وعندما نقلت هذا الحديث إلى جميل مطر في أحد لقاءاتنا، قال لي بأن جابر عصفور على حق، وبأنه عليّ بذل القليل من الجهد، لكي أصبح "معروفة".
وأنا أعاند، أكابر:
ــ وبماذا أستفيد بأن أكون معروفة؟
كنت أناقش نفسي أيضًا. فالفكرة ليست جديدة. ولكنها المرة الأولى أن تصاغ بهذه "الواقعية".
ــ أن تكوني معروفة يدرّ عليك خيرات، مادية ومعنوية. أليس هذا ما تعانيه الآن؟
ــ بلى... بلى... ما المطلوب إذًا؟
ــ عليكِ على الأقل حضور الندوات المعقودة هنا، أو الاحتفالات في المناسبات الثقافية، أن تظهري على التلفزيون، باختصار أن نراك، أن تكوني مرئية، أن يعرفك الناس.
وأنا أعرف نفسي. لا تجذبني الندوات والمؤتمرات. اعتزلتها بعد تلك السنوات الخمس في لبنان، التي عشتها على وقع تواريخ الندوات وتحضير الأوراق... ولكن الآن عليّ تجديد علاقتي بها والمشاركة في القليل منها. يجب أن أعاملها بصفتها ضرورة مهنية. هكذا صرت ألبّي الدعوات للاستماع إلى ندوات ذات أسماء، أو عناوين تهمني، وأحيانًا التكلّم فيها. المرة الأولى تمر على سلامة. قلت لنفسي أن عليّ أن أتغير. ولا أعرف كم ندوة أحضر، ربما عشرة... فيضيق خلقي. أضيع كل هذا الوقت في التنقل، من المعادي إلى وسط البلد، يعني ساعتين أو أكثر، ثم اسلِّم وأجلس للاستماع إلى مديح وذم ومكررين، ومطولات، إلى نكران، إلى معان متضخمة، ولغة رتيبة... كل هذا يثير ضجري، ولا ينقضي الأمر على خير. فبدل أن أغادر هذه الندوة وقد تغذت معرفتي بهذا الشيء أو ذاك، أو تبلورت فكرتي بهذه الإشارة، أو تلك... أشعر بأن طاقتي على وشك النفاد. فأسرع إلى الخارج مثل الهاربين...

(يتبع...)

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.