}

"الحياة مشيًا تحت سماء أريحا": نوستالجيا المدينة المسروقة

محمد جميل خضر محمد جميل خضر 20 يناير 2024
استعادات "الحياة مشيًا تحت سماء أريحا": نوستالجيا المدينة المسروقة
يعبّر الريماوي بالكتاب عن حرقته لضياع مدينة أريحا
بحنينٍ مضبوط الإيقاع، يدوّن الكاتب الفلسطيني/ الأردني محمود الريماوي في كتابه الجديد "الحياةُ مشيًا تحت سماء أريحا" (2023) الصادر أخيرًا عن دار فضاءات للنشر والتوزيع في عمّان، "جوانب من سيرةٍ ذاتيةٍ/ موضوعيّة".
ضبطٌ يتحقق عبْرَ صفحات الكتاب الواقع في 220 صفحة من القطع المتوسط، في بعديّ المبنى من خلال لغة السرد البعيدة عن أي تهْويل، أو بكائياتِ رحيل، الشبيهة، إلى حدٍّ بعيد، بالطريقة التي يتحدّث بها محمود الريماوي (أبو فادي) لِمن يعرفه، والمعنى من خلال إتاحة مساحات للعقل، أوفر بكثير، على اتساع العناوين الفرعية في الكتاب، من تلك المساحة المتروكةِ للقلبِ وأنّات شوقه، ونوسْتالجيا احتراقِهِ على ما فات، ولا يخدعنّكم الاستهلاليْن القلبييْن اللذين بدأ بهما الريماوي كتابه: "أريحا أقدم مدينة في التاريخ... وأقدم مدينة في قلبي" (صفحة 5)، الذي يتبعه باستهلالٍ قلبيٍّ وجدانيٍّ تحسريٍّ آخر: "لا يعقل أن تكون أريحا قريبةً إلى هذا الحد، وأكون بعيدًا عنها إلى هذه الدرجة" (ص 7)، فهما يعبّران عن جوانيّاته، أكثر، بكثيرٍ، من تعبيرهما عن هوية "الحياة مشيًا على الأقدام تحت سماء أريحا". ففي فصوله استعراض بارد التذكّر، هادئ التركيز، لا يكاد يتْرك قبل أن يغادر مكانًا من أمكنة الكتاب، شاردة، أو واردة في هذا المكان إلا فصّلها (أو فَصْفصها كما يقولونها في الدّارجة) تفصيلًا دقيقًا، وفي كثيرٍ من الأحيان محايدًا، كما لو أنه واصف خارجيٌّ، حتى لا نقول سائح عَبَرَ ذات يوم من هُنا.
ساعد على هذه الطريقة من الوصف أن (ميم) كما أحبّ أن يطلق على نفسه في غير موضعٍ من مواضع السّير بين دفاترِ إقامته في أريحا، لم يكن، تمامًا، مثل باقي أطفال أريحا، فهو كان يؤثر أن يبقى على مسافة، أن لا يتورّط بعلاقات حميمة جدًا، أو صراعات دامية، أو تنافسات مؤلمة مع أترابه ومختلف تفاصيل محيطه. تلك المسافة هي نفسها التي أتاحت له مساحة من التأمل بالمشهد من خارجه، تحليله بعقلٍ غير انفعاليٍّ خالٍ من الدوافع، أو النوازع، أو الأجندات.
ما تقدّم أتاحَ لنا الحصول على كتابٍ ناعم المَرامي، غير ثقيل الأيدولوجيا؛ وَلا مؤْلم الصّفعات... لا غضب فيه، لا كُرَب، وَلا نُدَبَ من تلك التي تتركها مراحل الطفولة، وَصدماتها، في كثيرٍ من خلق الله قاطِبة.
ولولا الألم الذي تركه داخل روحه وقوع أريحا تحت الاحتلال في العام 1967، واضطرارِهم لِمغادرتها، ولو مؤقتًا، بِالنسبة لِوالديه، ونهائيًا بِالنسبة له وَبعض أشقائه وشقيقاتِه، لَكان الكتاب من الغلاف إلى الغلاف مجرّد وصفٍ لألعاب شعبية ومأكولات تراثية فلسطينية ومغربية وَغيرها، واستعراض مطاعم المكان ودكاكينِهِ وصيدليّاته وملحماتِهِ وبقالاتِهِ وعياداتِهِ الطبيّة الخاصّة وأسواقِهِ وشوارعِهِ وبيوتاتِهِ وحاراتِهِ ومتنزّهاته (أو مُنتزهاتهِ كما كتبها غير مرّة مبرّرًا أنهم أيامها لم يكونوا قد استبدلوا مُنتزه بِمتنزّه) ومدارسِه وبساتينِهِ، وحتى سجنهِ ومُستشفاه وَمبنى بلديّته ومكتبتهِ الوحيدة للكتب إضافة لِمكتبات القرطاسية، ومرورٍ على أسماء أشخاص وأعلام من داخل أريحا ومن خارجها، إمّا شكّلوا حالة ضمن اللوحة الكبرى لِموزاييك المدينة الغوْرية الأمويّة العريقة، أو تصادَف تعامُلِ الكاتب معهم، أو التقائِهِ بهم، أو صادَقَهُم، أو عاصرَهُم، أو زاملَهُم، أو تَشاركوا معه بدايات الكتابة، أو تأثّر بِهم.
النكبة في عام 1948، ثم النكسة في عام 1967، شكّلا الفاصليْن الأكثر تشعيلًا وتصعيدًا للغةِ الريماوي في كتابه الجديد، ولِنبضِ تلك اللغة، ولحرارةِ مشاعره، وجذوةً لمشاعلِه. فعلى سبيل المثال، وفي سياق وصفهِ كيف كانت اللاجئات الفلسطينيات اللاتي هجّرن وعائلاتهنّ من مدن فلسطين وقراها إلى أريحا واستقروا في مخيمات المدينة: عين السلطان، عقبة جبر والنّويعمة، يتوافدنَ إلى بيتهم ليسألن والده الذي كان يعمل في وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، عن كيفيةِ حصولهنّ على بطاقة الإعاشة الزرقاء (بطاقة أمّي رحمها الله كانت بيضاء)، لا يتوانى، خلال ذلك، بالانتقال إلى لغة غاضبة، حانقة، مُتعاطفة مع أوجاعهنّ، رائيًا أن على المجتمع الدولي عدم التباطؤ بتحقيق مطالبهنّ وهو الذي تواطأ مع "جريمة استيلاء الصهاينة على فلسطين" (ص 196)، وربما، سهّل لهم ارتكاب جريمتهم هذه.
أو كما في وصفه لِهريسة (أبو إسماعيل)، حين يقول: "والآن نصدّق على مضضٍ شديد وسخطٍ أشدّ، سقوط أريحا بِأيدي الغُزاة الصهاينة، ويصعب علينا التسليم بِبعض تفاصيل الكارثة، كأن يتوقّف أبو إسماعيل عن صنع الهريسة وَبيعها لِزبائنه الكُثر، الذين يعرفهم واحدًا... واحدًا... وهؤلاء مثلما لا يستبدلون بِأريحا أي مدينة، فإنهم لا يستبدلون بِهريسته أي حلوى في الكون" (ص 138).
نلحظ هُنا عدم تحرّج الريماوي بِالتعبير عن حرقته لِضياع أريحا، وتركه العَنان لِتلك النوستالجيا التي تسكنهُ شوقًا لِمدينةٍ سرقها السارقون، كما لا يتورّع عن استخدام لغة غير دبلوماسيّة كما هي عادته، وكما هو في واقع الحال، ووصفه العدوّ المحتل بِـ"الغُزاة الصهاينة".
في مناسبةٍ ثالثةٍ، وتحديدًا في صفحة 144، يعرفّهم بـ"الغزاة الإسرائيليون" الذي حاولوا سرقة الملكية الفكرية للحمّص، فهم كلما أعجبهم أمر رغبوا بأن يصبح ملكهم، وأن يربطه العالم بِهم، كما يفعلون "مع البوْن الشاسع" يستدرِك، مع بيت المقدس، محاولينَ تهويدَ المدينة المقدّسة، وَطَمْسَ هويّتها.




إشارة رابعة للأعداء والعدوان والاستعمار في صفحة (162) من خلال تطرّقه لتفاصيل مشاهدة أهل أريحا فيلم "جميلة بوحيرد" في سينما هشام بعد أن أمّنت المدارس للطلبة تخفيضًا في أسعار التذاكر: "ألهبت الممثلة ماجدة مشاعرنا، وأسالَ تعذيبُها دموعَنا، وعمّقت نقمتَنا على الاستعمار". علاوةً على ذكرهِ أن جميع سكّان أريحا شاهدوا الفيلم حتى من لم تطأ منهم قدمه السينما قبل ذلك، لِشعورهم أن حضور هذا الفيلم، تحديدًا، يرْتقي إلى درجة الواجب الوطنيّ.
وحين يسهبُ في سرد حكاية زريفة (ظريفة) مع بيتِهم وأسرته، وهي السيدة المكافحة من مخيم عقبة جبر، وكانت واحدة ممّن توافدنَ ليسألن والده عن كيفية الحصول على (كَرْت المُؤن)، حيث عادت بعدها عارضة على والدته مساعدتها في شؤون البيت، فصارت من يومها واحدة من أهل البيت، لا يعاملونها معاملة الخادمة، بل يناديها الصغار، وهو منهم، بـ(الخالة زريفة)، وإذ يتذكّرها، ويتذكّر بناتها بحرارة صادقة، يختم فصلَها بِالقول: "طيّب الله ذكرى زريفة وعائلتها العزيزة، ولعن الغُزاة الأوغاد" (ص 205).

مدوّنة الأماكن...
لا يكاد الكاتب ينسى مكانًا واحدًا من أمكنة أريحا؛ يذكرها جميعها. بعضها يمرّ عليها مرورًا، بعضها يعود إليها ثانيةً وثالثةً وأكثر.
ابتداء من العنوان الفرعي "اللعب أمام العنابر" الذي يصف فيه تجربة دخوله مبنى السجن الموجود في أريحا (يسمّيه المقاطعة)، تنطلق مدوّنة الأسماء في الكتاب: بيت أبو نصار السلطي (ص16).... بستان حشْوة (ص18).... ملعب كرة قدم شعبي.... محل الطويل للدراجات (ص18).... مدرسة هشام.... نادي عقبة جبر (ص20).... وادي القلط.... بيت الألمانية (ص23).... بيت الأنشاصي (ص30).... المسكوبية (ص37).... دكان سيدي (ص39).... بيت جهشان.... الجسر.... متنزه الروضة.... بيت نجيب.... بيت الياسيني (ص40).... طلعة جودة.... بيت الجبشة.... مكتب البريد (ص46).... المقبرة القديمة.... شارع عمّان.... سوق الخضار المركزي الجديد (ص48).... مدرسة البحتري.... مدرسة هشام (ص61).... مدرسة البحتري الابتدائية (ص64).... بستان الجبشة.... مدرسة تراسنطة.... حي صبيحة (ص72).... ساحة السوق (ص73).... طلعة جودة (ص83).... (سميت باسم صاحب بيت جميل قربها من أثرياء رام الله اسمه عبد الله جودة). مستنبت الحكومة.... مخفر المدينة.... حارة الشيخ صبّاح (ص90).... بستان الجابي عبد الكريم.... بيت عرابي (ص92).... سوق واقف بالكويت.... الآثار الأموية في المدينة (ص94).... قصر هشام بن عبد الملك.... الجامع القديم.... مدرسة البحتري.... سينما هشام.... فندق قصر هشام (ص99).... حلويات أميّة.... "أريحا العربيّة وفيّة لِجذورها" (ص100). مخيم عقبة جبر.... كازينو الليدو.... دير قرنطل.... جبل التجربة (أو جبل الأربعين).... كنيسة اللاتين.... دير اللاتين.... دير صغير في كتف الوادي الذي تقع فيه حارتهم يشرف عليه راهب حبشيّ (هذه الأماكن جميعها في الصفحة 101).... صيدلية الأردن (ص106).... فرن ميشيل الطبّة وقربه محل الخمور الوحيد في أريحا (ص110).... محل أحمد صلاح للجاتو.... محل الصبّاغ.... المستشفى الحكومي (ص111).... مخيم النويعمة (ص119).... بقالة جميل زيدان حتر.... محل الدميسي.... مكتبة العالِم.... نوفوتيه جمعة الناجي.... محل الحلاق بكر.... عيادة الدكتور نويصر.... مقهى أبو زكية (جميعها صفحة 124).... دكان أحمد الحوّاش وشقيقه عبد الوهاب.... محل محيي الدين لصناعة الأحذية.... شجرة الكينيا.... محطة بيع البنزين (ص126).... الحارات: كتف الواد.... صبيحة.... الخديوي.... شارع عمّان.... سينما ريفولي.... بيت السباسي.... شارع القدس (ص128).... فرن أبو صالح.... فرن سدر.... بقالة الجبشة.... مطعم شرف التميمي (ص134).... محل الصبّاغ للخضار والفواكه (ص136).... ساحة سوق الخضار القديم (ص139).... مبنى البلدية.... محل المعلم دعنا.... مقهى حمدان (ص141).... مطعم الخُزُق.... ملحمة عبد غوشة.... محل البريّة للحبوب (ص143).... صيدلية الداوودي.... صيدلية محمود درويش الياسيني وشريكه الفتياني (147ص).... مدرسة أريحا الثانوية للإناث (ص153).... شارع عين السلطان (ص157).... متنزّه حرب.... متنزّه الجندول (ص158).... محلات شفيق بالي للأجهزة الكهربائية.... مكتبة محمد ناصرية لبيع الكتب.... مالكها مراسل صحيفة "الجهاد" وأحد أعيان المدينة (ص172).

مدوّنة الأسماء...
بالقدر نفسه الذي وردت فيه أسماء الأمكنة بغزارة في الكتاب، تناثرت داخل صفحاته، ربما بغزارة أكبر، أسماء أشخاص وأعلام، كان لهم علاقة، بشكلٍ، أو بآخر، في أحداث صفحاته وعناوينها. سأسْتعرضهم هُنا، بأحيائِهم ورحّالهم، بأعلامِهم وبسطائِهم، من دون تثبيت الصفحات التي وَردوا فيها:
صديق الكاتب الأرمني كلوست مهسرجيان.... الداية أم العبد الحوّاش (عراقية الأصل).... الصيدلي يعقوب الحسيني.... ميشيل الطبّة.... أبو إسماعيل الضبّان بائع الهريسة.... أنطون ضبيط بيّاع الفول المدمّس المهروس.... صالح عبده (أبو الطاهر) من وجهاء أريحا.... ومن وجهاء المدينة أيضًا: كامل عريقات.... شقيقه فوزي عريقات رئيس البلدية.... من مقادسة أريحا: فؤاد الجبشة وأبو خالد ازحيمان.... وراتب عبده الذي تولى رئاسة بلدية المدينة.... الدكتورة زينب الطبيبة الأشهر في أريحا أيامها.... وربما لم يكن هناك طبيبات غيرها.... والدها إبراهيم المحب صحفي لبناني وأمها شركسية.... الدكتور نديم نحوي.... د. إلياس غرفة.... عبد الرحيم بدر.... توفيق نويصر.... الممرضة (النِّيرس) أم فيصل غنّام.... الأستاذ محيي الدين معلم اللغة الإنجليزية.... خاله أحمد الشقيري مؤسس منظمة التحرير الفلسطينية.... سعدو بيّاع الصحف الجوّال... موسى العلمي صاحب المشروع الإنشائي... الحاجة زريفة (ظريفة)... غسان كنفاني... داوود الحسيني... رشاد أبو شاور... محمود شقير... فاروق وادي... ليانة بدر... أكرم شريم... سليم الشريف... محمود أبو الزلف... نشأت جميل شاكر... أحمد جميل شاكر... يحيى يخلف... فايز محمود... سمير إسحق... أدهم يوسف... عبد الحفيظ محمد صاحب جريدة "أخبار الأسبوع" الأسبوعية... خليل السواحري... أحمد حسن الزيّات صاحب مجلة "الرسالة" المصرية... معلم اللغة العربية عمر سعيد... محمد محمود ملكاوي... محمود كسّاب من المفرق... أمين شنّار... فايز صياغ... إبراهيم خليل... زياد أحمد سلامة... خيري منصور... ألفرد فرج... الإعلامي حسن معوّض... مدير المدرسة أحمد المغربي... مفدي زكريا... سليمان النابلسي... عبد الله الريماوي... النائب عبد الوهاب الدراوشة. إضافة إلى من رأى فيهم الريماوي أعلام مخيم عقبة جبر (ص 202)، ومنهم الروائي الراحل جمال ناجي (1954 ـ 2018)، والقاص الراحل إبراهيم العبسي (1945 ـ 2016) ملتمسًا المعذرة ممن لم تحضره أسماؤهم.
لا ينسى الكاتب أسماء بعض الأشجار المثمرة وغير المثمرة، خصوصًا تلك التي تفاعل أهل أريحا مع وجودها بينهم، أو تلك التي ترعرع الفتى وهي موجودة في بستان بيتهم، ليكتشف كبيرًا أنها من الثمار غير المألوفة في بلادنا، مثل شجرة وثمرة "البَباي". من أشجار أريحا والكِتاب: الزنزلخت، السدر، محصول الليف. للطرافة، وفي وصفه للزّنزلخت يقول الريماوي: "لا شجر أعلى منها إلا شجر موسى حوامدة المجازي" (ص92).
لا ينسى حتى أنواع الدخان التي كانت معروفة في ذلك الزمان: "لولو"، "كمال"، "سبورت"، "ريم"، "غولدستار"، "بلايزرز"، "ثري" و"فايف".

قوات الاحتلال الإسرائيلية وهي تدخل مدينة أريحا عام 1967 (Getty)

كما لا ينسى ذكر بعض حيواناتها: الضفدع وحيوان مائي آخر، وأنواع الشاي: الفراشة. البطّة. الوزّة. ويتوقّف عند العبارة الدارجة عند مشّائي أريحا: (عنديكو شاي؟ عندينا وعنديكو الخير). وفي الكتاب إشارة لِتبجيل أهل أريحا النبي شعيب (ص115)... وتطرُّقٌ لِموسم النبي موسى الذي يفرد له عنوانًا فرعيًا (ص117).
يكتب الريماوي في مقدمة الكتاب قائلًا إن الكتاب يمثّل، بالمقام الأول، "تحية محبة وشوق إلى مدينة أريحا التي أمضى المؤلف سنوات طفولته وفتوّته على أرضها وتحتَ سمائها" (ص11). فإذا كانت "الكتابة هي، بصورةٍ ما، تسخير للكلمات لإنتاج معنى" (ص69)، كما يرى صاحب الكتاب السيرويّ، فمِن السهل، وَالحال كذلك، التقاط المعنى الساكن أنفاس الحروف المكتوبة بحبٍّ واعتدادٍ عن مدينة يؤكد الكاتب أن رقيّها كان لافتًا، والاختلاط فيها كان جزءًا لا يتجزّأ من سيرورة مدينيةٍ مُحافِظةٍ على قيمِ الريف والبادية، في قلب نسيجٍ مجتمعيٍّ يمثّل مختلف مدن فلسطين وأطيافِها، والتّناغم والتّراضي والقبول والتسامح سماتٌ كانت تسكن أعماق وجدانِ مدينة شامخةٍ بين مغطسٍ وَقِيامة.
إنه المعنى الذي تشهق به حروف وصفه للمشي اليومي، والتوافق اليومي، والتوافد اليوميّ للرّياحنة (بحسب اسمهم المتعارف عليه)، نحو ما يجعل لساعات النهار التي كانت تمضي على مهلِها مع عددٍ قليلٍ جدًا من ساعات اليد، بعض وزنٍ في صفحات الحياة: قطعة هريسة على سبيل المثال.
في خضم حديثه عن المظاهرات، والموْجات القوْميات، وعيون المخابرات، والصحف اليوميات والأسْبوعيات، والأولاد والبنات، يباغتك الريماوي، فجأةً، بنصٍّ يخصّ به (الرّياحنة) هو أقرب للشعر قياساً مع باقي الصفحات: "رغم أن نسبتهم لم تكن تتعدّى 20 في المئة من باقي مكوّنات المدينة، لكنّهم يجسّدون روحَها وريْحانها... ويمثّلون ملحَ أرضِها، والعَبَقَ الخفيّ والذّائع لِفضائها... فَأريحا هي أبناؤها أولًا... وهم من يمنحون المدينة، ابتداءً، إيقاعَها العذب" (ص120).

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.