}

تشريح جثمان قصيدة سورية حيّة

منذر مصري 22 يناير 2024
استعادات تشريح جثمان قصيدة سورية حيّة
حسان عزّت

(لعلّ زمنًا ما) للشاعر حسان عزّت

1 ـ الوقوع في شرك قصيدة
أعترف! لفتت انتباهي فرادة هذه القصيدة للشاعر حسان عزّت، منذ أن وقعت عليها عيناي أوّل مرة، وذلك خلال إعدادي لجزء ثالث "انعطافة السبعينيات في الشعر السوري"، من "أنطولوجيا الشعر السوري" في القرن العشرين، التي أصدرتها الأمانة العامة لاحتفالية دمشق عاصمة الثقافة العربية، عام 2008. ليس فقط، لأني وجدتها، آنذاك، غريبة عن تجربة صاحبها بالذات، التجربة التي عرف عنها الغرق في غنائية طافحة أوصلتها إلى أن تحتل مفردة (الورد) عناوين ثلاث مجموعات متتالية للشاعر؛ "جناين الورد" (1998)؛ "مجنون الورد" (2000)؛ "حواري الورد" (2002)، وإلى أن يطلق صاحبها على نفسه لقب شاعر الورد! حتى أني لم أجد ما أفسر به إحساسي هذا بالغرابة، سوى: "اخترت ثلاث قصائد من شعر حسان، الأولى من مجموعته الثانية "تجليات" (1984)، والثانية من مجموعته الثالثة "زمهرير" (1987)، والثالثة من أشعاره المتأخرة، بعنوان (لعل زمنًا ما)، تظهر بوضوح حيويته واستمرارية قدرته على التنوع". بل أيضًا لاستثنائيتها في التجربة الشعرية السورية الجديدة التي يعدّ صاحبها أحد شعرائها المبرزين بكل المعايير. بالرغم من أنها في الوقت ذاته، وهنا المفارقة، قصيدة سورية بكل المعاني التي يمكن أن تحملها هذه الصفة! إن كان هذا من حيث بنيتها الشعرية، ومشاركتها بذلك قصيدة النثر السورية السبعينية، وما بعدها، التي، أستطيع الادعاء أنها تكونت في ظرف ثقافي وسياسي لا يختلف إلّا بالظاهر، وهذا بالضبط ما سيكون له شأنه في قراءتي لهذه القصيدة، عن الظرف الثقافي والسياسي الستيني السوري من حيث الانغلاق والضيق والمنع، أو إن كان من حيث الموضوع والمضمون السوري تحديدًا وحصرًا، الأمر الذي حرصت أن أحصر اهتمامي به، ولا أتعدّاه إلى سواه، مهما ضاقت بي السبل، في جميع ما أكتبه هذه الآونة في "ضفة ثالثة".

2 ـ رسم خلفية شخصية لقصيدة
إلّا إني أرى، وقبل الخوض في معمعة هذه القصيدة، بأنه يتوجب عليَّ، لفهم القضايا الإشكالية التي تثيرها، أن أرسم الخلفية اللازمة لصورة حسان عزت (دمشق، 1949) كإنسان، كإنسان سوري بالتحديد، فأمر له دلالة قصوى أنه ابتدأ مسيرته الأدبية بكونه أحد أعضاء نشرة (كراس) الشهرية للكتابة الحرة خارج النص السائد في المنابر الأدبية والثقافية التي كانت بمجموعها تعود للجهات الرسمية. متى وأين؟ أواسط ونهايات عقد السبعينيات في دمشق، في الزمان والمكان اللذين كانت فيهما سورية تتهيأ لذلك الاضطراب الكبير! والتي كانت تطبع على الآلة الكاتبة وتنسخ وتجمع وتخرز، وأخيرًا تباع، أو لا تباع، بليرة سورية واحدة، من قبل شعراء وقاصّين شبان، حالمين بالتغيير، ومؤمنين بقدرتهم على صناعة الفرق، جميعهم، لم يصدروا باكورات أعمالهم حتى ذلك الوقت، وصاروا بعد ذاك، معروفين في الوسط الأدبي السوري والعربي، وهم بالأسماء، من دون التطرق إلى ما آلت إليه مصائرهم: فادية لاذقاني، فرج بيرقدار، بشير البكر، خالد درويش الفلسطيني، وائل السواح، جميل حتمل، وأخيرًا رياض الصالح الحسين، الذي حدث أن اعتقل وقتها وحقق معه بشأن هذه النشرة. أمّا حسّان، كما ورد في طيّة غلاف مجموعته الرابعة "جناين ورد" (2002)، فقد تحصّل على شهادة جامعية في الأدب العربي من جامعة دمشق، وبعد فترة قصيرة من قيامه بالتدريس، انتقل للعمل كرئيس تحرير مساعد في صحيفة "تشرين" لأعوام من عقد التسعينيات، تابع فيها كتابة إحدى الزوايا الأدبية في الصحيفة، أظنها جمعت ونشرت في مجموعته السابقة الذكر، كما كان أمين سر جماعة الشعر في اتحاد الكتاب العرب، حتى سفره إلى الإمارات، كما يذكر صديقه وائل السواح في إحدى استعاداته لحكايات ذلك الماضي الجارح: "وهاجر حسّان إلى الإمارات بحثًا عن عمل، لأن بلده لم يزوّده بأكثر من مكتب في جريدة بائسة". حيث غرق لشوشته، من منّا لا يذكر شعر حسان الكثيف الأجعد، في العمل الصحافي في أبو ظبي إلى درجة ألهته كثيرًا عن كتابة الشعر، متسلمًا عددًا من المناصب في المجلات والصحف التي تصدر هناك، حتى تقاعده أخيرًا، واضطراره للبقاء في مدن الغبار والرمل والذهب الأسود، كما وصفها مرة، إلى اليوم. مما أتاح له، بعد انقطاع طويل طويل، بعد عشرين عامًا بالتمام والكمال، أن يصدر مجموعته الخامسة "سباعية خلق" (2022) عن دار عوام السورية في السويداء. وكأنه، بهذا، يحلو لي أن أفسّر، يعود، كشاعر هام طويلًا إلّا أنه لم يضلّ يومًا، إلى وطنه!

3 ـ لعلّ قصيدة ما
لا يضع حسان عزت تواريخ في نهاية قصائده! شعراء كثيرون يحبذون ألّا يفعلوا هذا، رغبة منهم في تحرير قصائدهم من الزمن، بفك الرباط بينها وبين ما يمكن أن يحمله التاريخ الذي كتبت به من أحداث ومدلولات، أو ربما خشية من وطأة الزمن على قصائدهم، فيشعر قارئها بتقادمها وانحسار حقبتها.



غير أن قصيدة (لعل زمنًا ما) بالتأكيد مكتوبة بعد صدور مجموعته الرابعة "حواري الورد" (2002)، وقبل 2008 عندما التقطتها من موقع ما وأوردتها في كتابي "انعطافة السبعينيات في الشعر السوري". ألفّ وأدور حول زمن كتابة هذه القصيدة ليس لأنه إحدى مفردات العنوان الثلاث فحسب، بل لأني أريده أن ينزل عن ظهره ويضع أمام القارئ كل تلك الحمولات والخلفيات! أي سورية خلال بداية العقد الأول من القرن الحالي، رغم أن النص يقوم بمناورة مكشوفة على هذا التاريخ، بكون خلاصته، عبرته، غير محصورة في هذه الفترة، بل تشمل بكل تأكيد ما قبل كتابته بعقد من السنين، أو عقدين، أو ثلاثة، كما أنه، ومن هنا تنبع أهميته في رأيي، يصح أن يقال اليوم، وبعد ما ينقص، أو يزيد، عن عقدين من كتابته، الأمر الذي، بطريقة أو بأخرى، يدل عليه تضمينه في "سباعية خلق" (2002).



لعلّ زمنًا ما


الأكثرون رأفة
كانوا يستعملوننا ديكورًا للزينة
وورودًا من الأدغال في أوانيهم
بعد أن يجروا علينا مقصاتهم
وطلاء أظافرهم
وأشرطة أحذيتهم
ويقولون: اكتشافاتنا!
والأكثرون قسوةً
كانوا يسحبون عنّا أسمال أرواحنا
ويسحبون من تحتنا حصائر الأرض
ثمّ يرموننا في رطوبة الأقبية
ولم نكن هناك... ولم نكن هنا
كان الهرب يتجمّع على حدود صرخاتنا ولم نفعل
وكان الموت يغمز لنا بشواربه المكشّرة
وعندما في زمن ما وفترة أخرى
إلى مدن المنّ والسلوى
والغيوم التي حوّل النفط فصولها غربًا
كان هربنا
ورحنا نكتب قصائد للغبار
في الغبار الذي يأكل الإحساس
أردنا أن نرسم صورتنا
وفي الرمل الذي يغطي المدن
أردنا الشعر والحياة
أية خديعة هناك
أي مسخرة هنا
والزمن لا حول ولا
والعواطف لا ماء ولا
وبين حدين ووقتين وفاصلتين
استراحة للمراجعة....
لقد أخطأنا أخطأنا ولم نزل
يوم لم نحمل سفاح آبائنا معنا
وأردنا أن نكون ملائكةً
ويوم تركنا قتلة أمّنا
ليأكلوا لحمها ويبيعوا تاريخها خواتم
ويوم لم يكن فسحة لخلية
إلاّ من رعشة لغصة
وانتعاش سريع في نقّالة
وخلنا نجونا
كنا نحمل نعوش أمهاتنا معنا
وجنازاتهن الطويلة التي لم تدفن
وفي ليل
يا أمنا التي ذهبت مع الأمنية والحسرات
من يمسح دمعة القلب
من يخبئ في الروح الهدأة
وفي ليل اقتربت فيه أنامل الله على شكل امرأة
وعانقت في الأقاصي ما تبقى
وعانقتني في صمت مبغوم
لعلها كانت روح أمي
أو حزن أبي المكلوم
وفي ظهيرة الرحيل إلى مدن الغبار
كانت طائرة الفاشي تمضي إلى حتفها
وكنت أبحث عن حقيبة للسفر في المدينة المقبرة
كنت هناك
ولم أكن هنا
فهل من طائرة أخرى
تهرب في هذا الموت الأكيد
إلى بلاد أخرى وعباد
ويا ليل ليس له من ليل
ويا صحراء ليس لها من أمد
كان الطاغية يسحب ما تبقّى
بما تبقّى
بأحلام مقتّلة
وشعب مهيض
وفسحات لا نوافذ لها
وأسماء بلا بشر
وقتلى بلا أسماء
ويجعل من بلد مقبرة
سلامًا على مقبرة أخرى
وقبور يتنفس فيها البشر
وتختلط فيها الوجوه والطيوف والشفاه
نحن الخلائط
جوالو أرض الذهب الأسود
أحلامنا بيضاء وحياتنا سوداء
وأزهارنا لا ألوان لها
نسبح في الرماد
ونظن الفصول في الفضاء المختلس
خلاسيون نمشي، خلاسيون ننام
وفضاؤنا في الغد
يفضي إلى عدم مؤجل ومقبرة
لا سلام هنا
ولا حبّ هناك
نحن كما نحن في رمل وعدّ ومصائر مكتومة
إلى زمن ما
وفترة أخرى...

 ـــــــــــــــــــــــ بلا تاريخ – دمشق.

4 ـ موقع الرصاصة في جثمان قصيدة حيّة
يمكن، بتبسيط شديد غير منصف ظاهريًّا، اعتبار قصيدة (لعل زمنًا ما) لا أكثر من قصيدة أخرى تمضي على خطى إحدى جواهر قصائد بدر شاكر السياب (غريب على الخليج). إنسان يهجر بلده، ويمضي غير مختار، ليحطّ في بلد آخر. وقد صدف هنا في القصيدتين أن يكون هذا الإنسان شاعرًا، وصدف أيضًا أن يكون البلد الآخر خليجيَّا، وصدف أن كانا كلاهما يشكوان الغربة والحنين. وبقدر ما يحتوي النصان الشعريان من متشابهات ومشتركات، فهما يحتويان، وبقدر أكبر، خلافات وتعارضات، أسلوبًا ومضمونًا في آن. سأكتفي بإيراد آخرها، المقطع الختامي من قصيدة السياب، لأن موضوعنا الآن ليس القيام بنقد مقارن بين القصيدتين، حيث يسأل الغريب الذي جاء مريضًا ومات في الكويت: "وهل يعود من كان تعوزه النقود؟".




أمّا حسان فشكواه تصب في مجرى دمع ودم آخر. وهو لا يستمهلنا في الدخول مباشرة إلى ما جعلني منذ قراءتها للمرة الأولى، كما ذكرت، أراه فريدًا وإشكاليًّا بآن، ألا وهو توصيفه لحالة المكان الذي ولد وعاش وأحب وكتب شعرًا فيه ثم غادره إلى غير رجعة، سوى بزيارات متقطعة توقفت بدورها منذ بدء الحدث السوري بداية عام 2011، وتبنّيه من قبل الشاعر باعتباره ثورة شعبية حقيقية كان يحلم بها طوال عمره! ما أتكلم عنه هو:
[الأكثرون رأفة
كانوا يستعملوننا ديكورًا للزينة
وورودًا من الأدغال في أوانيهم
بعد أن يجروا علينا مقصاتهم
وطلاء أظافرهم
وأشرطة أحذيتهم
ويقولون: اكتشافاتنا!
والأكثرون قسوةً
كانوا يسحبون عنّا أسمال أرواحنا
ويسحبون من تحتنا حصائر الأرض
ثمّ يرموننا في رطوبة الأقبية]
الشاعر هنا، في الأسطر السبعة الأولى من القصيدة، يكشف لنا نوعية العلاقة التي كانت قائمة بينه وبين من كان يحيا معهم في بلده، من كانوا يحيطونه في عمله ويجلسون معه في المقهى ويذهبون سوية إلى المسرح، أي من كانوا أصدقاءه! وهم، على حد تعبيره، الأكثرون رأفة. كيف أن صداقتهم كانت مشروطة، بصلاحيتنا، مستخدمًا الضمير المتصل (نا) الدال على جماعة المتكلمين، لأن نكون ديكورًا للزينة عندهم. يقلمون أظافرنا بمقصاتهم، ويطلونها بالألوان التي تروق لهم. ويقولون، وكنت أفضل لو قال يصيحون، وهذا لعمري عرفته أنا يومًا، وربما كان السبب في كل ذلك التأثير الذي أحدثته القصيدة بي: "اكتشافاتنا". وكأن أي شيء جميل فينا نادر إلى درجة يمكن عدَّه اكتشافًا. أمّا الأكثرون قسوة، ذلك الصنف الثاني الذي نحيا بين ظهرانيه، فقد كانوا يشدوننا من أسمال أرواحنا، ويرمون بنا في الزنازين الرطبة المعتمة تحت الأرض! أي قراءة شديدة القسوة هذه يا حسان لحياة السوريين في بلدهم؟ أي حكم قطعي جماعي، لا يفرق بين أبيض وأسود، بين صادق ومدع، أطلقته على من كانوا أصدقاءنا! ألم يكن منهم من أحببناه وأحبنا لا لغاية ولا لمنفعة! هل من المعقول أن جميعهم كانوا يقومون بخداعنا، وهم واعون لخداعهم؟ أتصدق أن جميعهم كانوا يتظاهرون بمحبتنا، بينما كان ديدنهم المكر والكذب؟ اسمح لي يا صديقي، رغم تفهمي للمرارة والغضب الذي تشعر به، ويشعر به كل من اضطر مكرهًا إلى مغادرة بيته وأهله، ألّا أجاريك في تعميمك المجحف هذا، وأن أخالفك الرأي فيه: لك ولي، كان وما يزال، أصدقاء حافظوا على مودتنا وأخوتنا رغم كل ما حدث من مآس وكوارث! أصدقاء لم يبخلوا في تقديم كل ما توجبه الصداقة من وفاء وإخلاص في أقصى حالات الخوف والخطر، أصدقاء يشاركوننا آمالنا وأحلامنا في بلدنا مهما آلت إليه مصائرنا! أمّا عمّن تكشفوا عن حقيقتهم، كما تصفهم، فأغلبهم، أراهم ويا للحسرة، وأرجو منك ومن القارئ الانتباه إلى هذه الفكرة، قد فشلوا في الاستمرار، ولم يستطيعوا متابعة مشاريعهم الشخصية بأن يكونوا بشرًا أفضل، مواطنين سوريين حقيقيين يضعون مصلحة شعبهم ووطنهم فوق كل اعتبار شخصي أو فئوي من أي نوع! وهذا، أقول لك، أحد انكشافات الثورة السورية التي لا تجعلني سعيدًا على الإطلاق!

5 ـ خاتمة متروكة للقارئ
تتضمّن القصيدة نقاطًا كثيرة كان يتوجّب عليَّ التطرق إليها، منها استخدام الشاعر لمفردة (الطاغية) التي درجت في الشعر السوري الجديد، حتى الصادر منه داخل سورية، محمد الماغوط، نزيه أبو عفش، رياض صالح الحسين، على سبيل المثال لا الحصر، كونها مجرد لفظة أتّفق على أنها لا تشير إلى رئيس محدد لبلد محدد، بل هي رمز لغوي يعبر عن حالة سياسية واجتماعية في فضاء ما، وكذلك ما قام عليه النص من مقارنات بين أرض أمٍّ جعلها الطغيان مقبرة، وبين صحراء من رمل وغبار ليس لها أمد. فلا سلام هناك، ولا حبّ هنا، ليرسم حالة ضياع كامل في كلتا الحالتين. وغير ذلك من حيثيات غنية جعلني طول ما سبق وكتبت أعفّ عن الكتابة عنه، وأدعه للقارئ المتمعّن في هذه القصيدة الفارقة في تجربة الشاعر السوري حسان عزت، وربما في تجربة الشعر السوري الجديد بمجمله.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.