عنوان هذا الكتاب، الذي ننشره على حلقات أسبوعية كل يوم أحد، تفصّله ثلاثة خيوط مختلفة:
ــ في الخيط الأول، يتكلم بصيغة الغائب المفرد. أي أنني أصف فيه محطات من حياة شخص، هو أنا: في إبحاري بالعربية، عبر أحداث سياسية ـ ثقافية.
ــ الخيط الثاني: أن العربية الراهنة ما زالت عائشة. ما زالت تقاوم من أجل البقاء، رغم تعثر أبنائها وإهمالهم لها. ويدعي هذا الكتاب بأنه ذرَّة في رمال إرادتها بالحياة.
ــ الخيط الأخير حماسي، يشبه صرخات التمنّي بالبقاء، مثل "يحيا الملك!" أو "يعيش الزعيم"! أقول "عاشت العربية!"، بمعنى أنني أتمنى لها البقاء، وتجاوز وحْشتها.
الوقائع المروية في هذا الكتاب كلها حقيقية، غير متخيّلة. وهي ناقصة بالتعريف. وأنا مسؤولة فقط عن صدقها.
القاهرة (1999 ـ 2009)
وللكتّاب نصيب من صروف الدهر هذه. فكانوا عكس المصريين. هاجروا وتبعثروا. والذين عادوا من بينهم كانوا متوجين بكتابتهم باللغتين الفرنسية والإنكليزية. وهم فوق ذلك غير متجانسين، غير متآلفين. يجتمعون، يلتقون، ونادرًا ما يتصادقون. والأندر أن يتفقوا على ذوق، أو رأي... رغم التناغم، وأحيانًا التشابه، الحاصل بين بعض الشلل، الأصدقاء، الذين يلتقون في المقاهي، أو حول "مشروع".
منشوراتهم الأكاديمية ترعاها الجامعات، اليسوعية بالفرنسية، الأميركية بالإنكليزية، واللبنانية بالعربية. والأخيرة أصدرت في بداياتها منشورات قيمة، ثم توقفت ودخلت مرحلة الأبحاث الوهمية، كما أسلفت. وخارج الجامعات الثلاث، أو حولها، مراكز أبحاث، ومجلات، تعيش طويلًا أو قصيرًا، وهي في غالبيتها مدعومة من الخارج.
والصحافة، حيث مجال الكتابة والاعتراف، ليست واحدة. لا صحافة تابعة للدولة هنا، كما في مصر، والمسماة "قومية". إنما مجموعة صحف أسسها رجال طموحون، بعضهم صار وزيرًا، وتمويلها خارجي وداخلي: الأول، الخارجي، موزع بين عربي وغير عربي. أما التمويل الداخلي فمن شخصيات، أو متمولين، أو أحزاب محلية. فيما دور النشر، وهي كلها "مستقلة"، متنوعة المشارب والأذواق، يديرها رجال ونساء ذوو قبضة مالية صارمة لا يرجى منها أكثر من طبع الكتاب.
"الاعتراف" اللبناني في هذه الحالة ليس له طريق واحد. يُطبخ في السهرات، الصاخبة والهادئة، والعشاوات، والمقاهي وسط الشلل، أو الصداقات... والاثنتان مقفلتان على "الدخلاء". تتداول، تجسّ نبضًا، تنظم "فاعلية"، تترقب إشارة ما، تنتبه إلى من حضر، ومن لم يحضر، في ندوة تكريم الصاحب، أو في توقيع كتاب... ويقع الاختيار بسلاسة، وكأنه تراكم عفوي: هؤلاء علينا التسويق لاسمهم، فتتعزز الصداقة وتقوى الشلة، لتنافس غيرها وهكذا...
الفرق بين اللبنانيين والمصريين من الكتاب باختصار: اللبنانيون قلقون، متأرجحون، منقسمون، مضطربون، متنوعون، مستعجلون، مهاجرون، أبناء مهاجرين، عائدون، متوجسون، متنقلون مرتحلون، هنا وهناك... وهذا ما يجعل مساراتهم الكتابية تذهب بالاتجاه الذي يوفره لهم ظرفهم المباشر. على صورة بلادهم المتناثرة، الواقعة فوق صفائح زلزالية، لا يعرف بركانها الخمود إلا لحظات.
في المقابل، المصريون مطمئنون، نعم مطمئنون، إذا ما قيس قلقهم بذاك الثابت الذي يحكم اللبنانيين. متجانسون رغم تنوعهم. لهم هيكليات واضحة. والهيكلية تُبنى على رأس كل مجموعة، رسمية غير رسمية، كبيرة أو ضيقة... بل لدى لقاء شخص بآخر. من يكون ملك الجلسة، أو بطلها أو فرعونها. هويتهم المصرية حاضرة في كل حين. في الكتابة، كما في الشفاهة. بكلام ومن دونه. اعتزاز كبير بهذه الهوية، وجرح نرجسي، على تدهور أحوال أبنائها، الذين كانوا عظماء ذوي تاريخ. يداوَى عادة بالإنكار، أو التعظيم.
الاستثناءات المصرية قليلة مقارنة باللبنانية. خذ مثلًا الكتابة بغير العربية. فسوف تجده في زمن آخر، سابق على عهد عبد الناصر، عندما اختلط جيل بأكمله بالثقافة الأجنبية. ومعظم هؤلاء خرجوا من مصر، وأقاموا في فرنسا، حيث ألفوا الشعر والروايات. منهم جان ديدرال، جورج حنين، إدمون جابس، وغيرهم. أشهرهم ألبير قصيري، الذي استقر في باريس في نهاية الحرب العالمية الثانية، وبقي فيها بعد عهد عبد الناصر، وألف روايات بالفرنسية كلها تدور حول الحياة المصرية: تلك التي عرفها قبل هجرته، وتلك التي تخيلها. ومثل نظرائه، ينتمي قصيري إلى "شوام مصر"، أي الأسر المسيحية الهاربة من اضطهاد الأتراك، والمستقرة في مصر منذ عقود، والمنفتحة على الثقافة واللغة الأوروبيتين.
أما اللبنانيون، فقديمون في الكتابة باللغتين الإنكليزية والفرنسية. جبران خليل جبران في ثمانينيات القرن قبل الماضي، كتب "النبي" بالإنكليزية. وكذلك إيتيل عدنان، كتبت باللغات الثلاث، الإنكليزية والفرنسية والعربية. وبينهما جيل شاب أنجلوفوني يكتب بالإنكليزية، مثل راوي الحاج، وجاد الحاج، بالإنكليزية والفرنسية. فيما الفرانكوفيون أكثر غزارة وعددًا من مقيمين في لبنان وخارجه. أشهرهم، الذي انتخب عضوًا في الأكاديمية الفرنسية، أمين معلوف، صاحب كتابات تاريخية ومعاصرة، مشرقية المخيلة. ثم أندريه شديد، ناديا تويني، فينوس خوري غاتا، ألكسندر نجار...
هذا الاختلاف هل يعود إلى الجغرافيتين المصرية واللبنانية المتباينتين؟ والتي تشكل أسس تاريخهما؟
في كتابه الموسوعي "شخصية مصر"، يصف جمال حمدان بلاده بأنها "بلاد المسافة، لا المساحة". ويعني أن مصر "المفيدة"، القادرة على العيش والحضارة، هي التي تقع على شواطئ نهر النيل، الذي يعبر مصر من جنوبها وحتى شمالها. أما بعد النيل، فصحراء، يصعب العيش فيها، أو الاستقرار والازدهار، إلا في الواحات القليلة البعيدة، أي أن مصر لها خطوط واضحة، بسيطة: مسافة من المياه، وحولها مساحة من الرِمال.
أما لبنان، مقابل المسافة والمساحة "الخالدتين"، فهو خليط من سلسلة جبال متوازية من الشمال إلى الجنوب، وشريط ساحلي ضيق ومتقطع، من شماله إلى جنوبه. وسهل خصب في شرقه، وأنهار كبيرة وصغيرة وينابيع ومغارات. كله "جنة مصغّرة" هي نقطة في بحر مصر المتناهي.
الجغرافيا والتاريخ كوَّنا تصورًا للوقت مختلفًا عن الآخر. والذي ينعكس على تصور الكتاب لنتاجاتهم. المصريون من الكتاب، ومعظمهم من اليساريين، أو الليبراليين... هم أصحاب هوية راسخة، واثقة. زمنهم ممتد، يبدو بطيئًا لمن لا يألفه أو يفهمه. زمن مستقر، يأبى الخلل والانشقاق. لذلك يسهل الإجماع بينهم. وإن كانت هنالك خلافات ومنافسات، فهي لا تعطله. إجماع ليس على اسم، أو فكرة، أو اتجاه، إنما على حماية مصر، ما يترجم بنوع من العنفوان "الهوياتي" بالولاء للدولة المصرية.
مثلٌ آخر عن إجماع مختلف، غير مكتوب، ولكنه غير مسكوت عنه أيضًا: نوال السعدواي، الأيقونة المصرية في النسوية والدفاع عن حقوق النساء، ليس مرحبًا بها وسط الكتاب المصريين. نوع من اللامبالاة الظاهر والعداء الضمني. تسألهم عن السبب. الأكثر محافظة منهم، يجيبون بأنها "مزعجة، مشاغبة"، تطعن في الدين وتجرّح بالرجال. وذلك من منطلق ديني صرف، أو تهيبًا من الأثر السلوكي والذهني الذي خلفه الصعود الديني في مصر. والآخرون يقولون: "مدعومة من الخارج"، "سمعتها من الخارج"، "صُنعت في الخارج"، ندواتها مؤتمراتها، حتى تلك التي تنظمها في مصر. وفي السببَين، مزيج من الحساسيات الدقيقة، دينية وزمنية، بل الزمنية بخدمة الدينية، طالما أن محاربة الإسلام "يأتي من الخارج"، الغربي خصوصًا.
ومع ذلك، نادرًا ما تجدها مدعوة إلى ندوة، أو مؤتمر محلي، تنظمهما الدولة، أو جمعية أهلية مصرية. وهذا لا يمنعها من تنظيم ندواتها الخاصة داخل مصر، تدعو إليها من الخارج ومن الداخل. تترأسها وتدير نقاشاتها، وتركز أثناءها على أعمالها، وقد ترجم أهمها إلى لغات أجنبية عدة. وتجاوز عددها العشرات. ومن بينها روايات ومسرحيات ومذكرات، إلى جانب دراساتها النسوية طبعًا. وفي آخر لقاء بيني وبينها، كانت غاضبة جدًا. لماذا يا ست نوال؟ لأنهم لا يكتبون عنها... ليس بالضرورة الكتاب المصريين الذين تعرف أنهم لا يستسيغونها، مع أن بعضهم تضامن معها، بعد دعاوى تطليقها من زوجها، كما حصل مع نصر حامد أبو زيد... إنما هي عاتبة على العرب أنفسهم. أقول لها بأن كثيرًا من المقالات والكتب تتناول فكرها، عربية وأجنبية.
ــ هذا لا يكفي... تجيب. لا تكفي الكتابة عن أفكاري، والتوقف عندها.
ــ ما الذي يكفي سيدتي؟
ــ أن تكون هناك دراسات عن أعمالي الأدبية، عن رواياتي... نقدًا أو إعجابًا... المهم أن تصدر دراسات وكتب عنها... من أجل رفعة مصر.
في نهاية 1981، وبأمر من الرئيس أنور السادات، أدخلت السعداوي السجن لمدة ثلاثة أشهر. ومعها ما يزيد على ألف وخمسمئة شخصية دينية، حزبية وثقافية. وكانت التهمة الموجهة لهم جميعًا "إحداث فتنة". من بين السجناء أسماء يألفها الوسط، محمد حسنين هيكل، حسن حنفي، حمدين صباحي، صافيناز كاظم، فريدة النقاش، لطيفة الزيات... وبعد اغتيال السادات، خرج الجميع من السجن، واستلم نائبه محمد حسني مبارك الحكم، واعدًا بالديمقراطية، وبإجراء الانتخابات البرلمانية في أسرع وقت (1983). فعاد كل إلى مجريات أفكاره ونشاطه وكتاباته. وتحولت الأشهر الثلاثة التي قضاها هؤلاء المعارضون في السجن إلى وسام على صدر كل واحد منهم، والكتّاب من بينهم هم الأشهر، ربما لأنهم واظبوا على الكتابة عن تلك الأشهر الثلاثة، يستذكرونها في الأوقات العصيبة، وما أرحبها... ونوال السعدواي ساهمت في العملية، بأن أصدرت كتابها "مذكراتي في سجن النساء"، تتكلم فيه عن ظروف السجناء على أصنافهم، عن حكم السادات البغيض، وتحلم بالثورة. ما معنى ذلك؟
المصريون عرفوا السجن على يد دولتهم، وخرجوا منه هانئين إلى بيوتهم. وبعضهم، كما حصل مع الشيوعيين، عادوا إلى كنف الدولة، كما في أيام عبد الناصر، أو بعد مقتل السادات، ولعبوا دور "المعارضة الشرعية". فيما اللبنانيون رفعوا السلاح ضد دولتهم، فعرفوا الاختطاف والاختفاء. السلاح هو زينتهم، يختصر الوقت، يحسم بالقتل، أو التهديد به. يجوز أن تُطعن به الهوية اللبنانية، الخفيفة بثقلها، والثقيلة بخفتها، هويةٌ إما هي ما فوق الوطنية، عروبية إسلامية مشرقية، وإما أنها من دونها، طائفية مذهبية مناطقية. زمنهم سريع، لاهث، مسروق. يختلفون على تاريخهم المعاصر، وعلى أصولهم التاريخية، ولا يطمئنون إلى المستقل. يخسرون سنوات من عمرهم في الحرب، فيحاولون أن يعوضوا عنها بالإسراع في "تحقيق الذات". فيتوزعون بين هارب من الحرب، أو غاطس في ذكرى أنيابها، بين المهاجر البعيدة والقريبة، بين اللغات المعتمدة، بين مصادر الرزق الخارجية...
لذلك ترى الفعل الثقافي اللبناني متقلب، لا تقاليد له، يحفر أحيانًا في الصخر بأيديه، نقزان، متوجس، مضطرب متقلب. لا تعيش مشاريعه أكثر من سنة أو اثنتين، إلا إذا استلمها "قائد فكري" ما، أو رئيس تحرير مموَّل، أو منظمة سياسية ذات سطوة... ولا يوحِّدهم سوى تلك النغمة: "لي لبناني ولكم لبنانكم".
عام 2003، اختفى رضا هلال، وهو صحافي معروف في "الأهرام"، وصاحب زاوية أسبوعية في صفحة الرأي. كنت ألتقيه في مقهى "النادي اليوناني"، ودعوته مرات عدة للعشاء في داري. كان صحافيًا نبيهًا، مطلعًا وساخرًا. بعد أيام على هذا الاختفاء، يتصل بي ضابط شرطة في غاية التهذيب، ويطلب مني موعدًا، يريد أن يطرح عليّ بعض الأسئلة عن رضا هلال. أرحب به في منزلي، وبحضور زوجي. كانت جلسة تحقيق، فيها سؤال وجواب. في وسطها، أشعر بأن أسئلته تضمر تصورًا معينًا عني... فأستفسر منه: ما الذي دفعه إلى التحقيق معي، أنا لست زميلته في العمل، ولا قريبته، ومعرفتي به سطحية. ويجيب، بكل خفَر:
ــ من بعد إذنك، يعني... أنت دعيتِ رضا هلال إلى منزلك مرات عدة. وبما أنك لبنانية، فلا بد أن تكوني دعوتِ أيضًا صبايا لبنانيات للفرفشة...
ــ ...؟
ــ تعلمين ماذا أقصد... بنات للتسلية والخروج...
ــ آه فهمت... فهمت... وما علاقة الساهرات برضا هلال؟
أبتلع ريقي. أريد أن استوضح عبارتَي "تسلية وخروج". لكنني أمتنع وأتراجع. أعلم أن زوجي لا يستحسن مجادلة رجال الشرطة. فأصمت عندما يجيبني:
ــ قد تكون واحدة من أولئك الفتيات الجميلات قد جذبته إلى كمين واختفى... من بعد إذنك يعني، نريد لائحة بأسمائهن...
(يتبع...)