}

في استحالة إنتاج نظام صهيوني ديمقراطي: فلسطينيو الداخل أنموذجًا

عزيز تبسي 29 يناير 2024

قراءة في كتاب "إسرائيل: الملاحقة الأمنية كأداة سياسية"(*)

لعلّ أول ما يتبادر إلى الأذهان، لدى استعادة قراءة كتاب "إسرائيل: الملاحقة الأمنية كأداة سياسية"، بالتزامن مع الحرب التدميرية التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة هذه الأيام، وتقوم خلالها بقمع أصوات وحراك الفلسطينيين في الداخل في أراضي 1948، أن المقاربة الأمنية هيمنت ولا تزال تهيمن على تعامل إسرائيل مع أبناء الشعب الفلسطيني في الداخل، وأوكلت متابعتها إلى جهاز الأمن الإسرائيلي العام (الشاباك)، ما يؤكد عجزها عن إنتاج مقاربات أخرى، غير إملاء المصالح الإسرائيلية على التنظيمات والتجمعات الشعبية الفلسطينية، لحصارها وتحطيم مشروعها الوطني، بتجاهل أو تبرير الممارسات اليومية التي تتضمن مصادرة الأراضي وفرض الحصار والتجميع السكاني، والتضييق على الأنشطة الاقتصادية، بالتوازي مع محاولات إعادة صياغة هويتهم الوطنية والثقافية، بالسعي لتفكيكها إلى وحدات صغيرة ومتناهية في الصغر، ابتداء من التقسيم الديني والجهوي، وصولًا إلى العشيرة والعائلة الممتدة (الحمولة)، وتحويل مجتمعهم إلى شظايا متنافرة، مسلمين ـ مسيحيين ـ دروز ـ بدو، سكان قرى، سكان بلدات، في سياق استراتيجية تأسست على التمييز العنصري، عبرت عنه أيديولوجيا استعمارية ـ استيطانية ونهج عدواني ـ إقصائي.
ووفقًا للكتاب، تعود هذه المقاربة إلى السنوات الأولى لإقامة الكيان في عام 1948، والدور الحاسم لواحد من أبرز مؤسسيه، ديفيد بن غوريون، الذي رسخ فرضياته الأساسية، التي لا تزال إلى اليوم في صلب السياسات الإسرائيلية المعتمدة تجاه الشعب الفلسطيني، وأبرزها أن الفلسطينيين في الداخل خطر أمني، وطابور خامس، وما يمثلهما من توصيفات اتهامية مقدمة لإحالة قضيتهم إلى مشكلات إسرائيل الأمنية. و"من الواضح أن وضع السكان العرب في خانة التهديد الأمني، أو الخطر الأمني في الأدبيات الإسرائيلية، يأتي بهدف شرعنة التعامل الأمني معهم وتبريره".
وبن غوريون ذاته هو من حسم النقاشات بين السياسيين الإسرائيليين، وأمر بتسليم الجيش الإسرائيلي وسلطة الحكم العسكري إدارة شؤون الفلسطينيين في الداخل، واللذين حكما بموجب قوانين الدفاع، وهما مخولان بإعلان حالة الطوارئ.
بهذه المقدمات، استخدمت إسرائيل، ولا تزال، الأدوات الأمنية لتحقيق أهدافها السياسية، أو مطاردة أمنية، بهدف كبح تنامي الوعي القومي والكفاح الوطني الفلسطيني، وإعاقة استباقية لإنتاج أي تنظيم سياسي، يهدف لتحقيق تطلعات فلسطينية بأفق قومي. وشكل الحكم العسكري في العقدين الأول والثاني من إقامة دولة إسرائيل، الإطار العام للتعامل الأمني وللسيطرة والتحكم بالفلسطينيين في الداخل، بإخضاع كل من تبقى للرقابة الأمنية، بالإضافة للملاحقات الأمنية ـ السياسية للتنظيمات الفاعلة، كالحزب الشيوعي الإسرائيلي وحركة الأرض، وهذه الأخيرة كانت أول محاولة فلسطينية في الداخل لتأسيس حزب قومي عربي فلسطيني مستقل، ورفضت بوضوح الطابع الصهيوني لدولة إسرائيل، وطرحت برنامجًا سياسيًا لتجاوز آثار النكبة وحل القضية الفلسطينية، وقد استمر نشاطها لست سنوات، امتدت من تأسيسها عام 1959 حتى حظرها قانونيًا (1964 ـ 1965).
وقد اعترف الرئيس الأشهر لجهاز الموساد الإسرائيلي، إيسار هرئيل، بأن أحد أهم أسباب عدم إلغاء الحكم العسكري على الفلسطينيين في إسرائيل، والذي ظل مفروضًا حتى عام 1966، على الرغم من أن المؤسسة الأمنية أوصت أكثر من مرة بإلغائه، وشددت على عدم جدواه من الناحية الأمنية "يعود إلى رغبة المؤسسة السياسية في إسرائيل في استغلاله لغاية الملاحقة السياسية".




تزامن التحول في وعي الهوية الفلسطينية مع هزيمة يونيو/ حزيران 1967، التي كان من نتائجها احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة. وعمقت الهزيمة الوعي الشعبي في صفوف الفلسطينيين في الداخل بكونهم جماعة قومية تعيش في دولة إسرائيل، ودفعهم هذا الوعي إلى تبني مطالب لتغيير تعامل الدولة الإسرائيلية معهم، منطلقين بسيرورة كفاحية تراكمية، بلغت أوجها في يوم الأرض 1976.
وتنامى مفهوم الملاحقة الأمنية في ثمانينيات القرن الماضي، كنتيجة أو رد فعل على تصاعد تحدي يهودية الدولة من جانب عدد من القيادات العربية والأكاديميين العرب. ووصل إلى ذروته في هبة أكتوبر/ تشرين الأول 2000، كونها "مفترقًا مهمًا" رأت فيه إسرائيل أن "الهبة امتداد للانتفاضة الفلسطينية الثانية (انتفاضة القدس والأقصى)، ما عزز لدى إسرائيل رؤية الفلسطينيين في إسرائيل كجزء من العدو الفلسطيني".
تعد فترة التسعينيات من القرن الماضي أكثر الفترات هدوءًا في ما يتعلق بعلاقة الفلسطينيين في الداخل مع إسرائيل، وهي فترة حكومة إسحق رابين (1992 ـ 1996)، حيث وقع خلالها اتفاق أوسلو بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية عام 1993، الذي وضع الفلسطينيين في اتجاهين متناقضين، من جهة أولى اعترفت حكومة رابين بشرعية مطلب المساواة المدنية للفلسطينيين، ومن جهة أخرى، فإن اتفاق السلام تجاهل موضوعات وجوانب العدل التاريخي، أو الغبن، الذي لحق بالفلسطينيين في الداخل. ولهذا "أنتجت عملية أوسلو توجهات متناقضة لدى الفلسطينيين في إسرائيل، توجّه الرغبة في الاندماج لدى المعتدلين، وتوجّه الاغتراب لدى الفئات القومية... بكلمات أخرى، أنتجت عملية السلام توجهات تراوحت بين تيار الأسرلة وتيار الفلسطنة، وفي وقت لاحق أدى فشل أوسلو، وعملية السلام برمتها، إلى تعزيز تيار الفلسطنة".
وبرزت في تلك الفترة تنظيمات جديدة كان أبرزها حزب التجمع الوطني الديمقراطي، الذي أسسه المفكر العربي عزمي بشارة، ثم الحركة الإسلامية ـ الجناح الشمالي. وقد غيرت أفكار وبرامج هذين التنظيمين، وبالأساس التجمع الوطني، الخطاب السياسي للمجتمع العربي. وظهر حضور أفكارهما وبرامجهما في هبة أكتوبر وانتفاضة الأقصى عام 2000، وتعززت أثناء وبعد الحرب على لبنان 2006، المعرّفة في الإعلام الصهيوني بأنها حرب لبنان الثانية، والحرب على غزة 2008، المعرّفة وفق الإعلام ذاته بـ"عملية الرصاص المصبوب". أدى ذلك إلى ترصد قياداتهما، وتعقبهما، والتشهير بهما، وتخوينهما، كمقدمة لاعتقال قياداتهما وأنصارهما، والتهديد باغتيالهم؛ ليؤكد "هنالك عقيدة ثابتة لتعامل الدولة مع المواطنين العرب الفلسطينيين، ترتكز على رؤيتهم كعدو وخطر أمني على دولة إسرائيل، بالإضافة إلى تهديدهم الطابع اليهودي للدولة الذي أضيف أخيرًا كأحد بنود الأمن القومي".




عززت النضالات الاحتجاجية على حربي لبنان وغزة الإجماع الإسرائيلي الحكومي والشعبي، الذي وقف في الموقع المعادي لها، وطالب بالتعامل الحاسم معها، بكونها تهدد الطابع اليهودي للدولة، الذي وفق العقيدة الصهيونية هو أحد مرتكزات الأمن القومي. وطالب بقمع الإجماع السياسي الفلسطيني الذي بات يتحدى الإجماع الصهيوني. وحاز على مكانة الموقع الأول في أعمال أجهزة الدولة، في محاولة هدفت الى شرعنة استخدام الأدوات الأمنية لمواجهة تحديات سياسية: "فرض يهودية الدولة بواسطة القانون، ومن جهة أخرى اشتراط المشاركة السياسية والمواطنة بالاعتراف بدولة إسرائيل بوصفها دولة يهودية وديمقراطية، متجاهلًا أن دولة يهودية هي بالضرورة دولة غير ديمقراطية". واندفع هذا التوجه الى أقصاه حين رد رئيس جهاز الأمن الإسرائيلي- الشاباك- يوفال ديسكين على مقال افتتاحي لصحيفة "فصل المقال" العربية الأسبوعية، التي كان يصدرها حزب التجمع الوطني الديمقراطي بقوله: "إن جهاز الشاباك مخوّل بالعمل على صيانة وحماية مبادئ الدولة الأساسية الديمقراطية واليهودية، ومخوّل بالتجسس والتنصت على كل شخص أو مؤسسة مشتبه بهما بالعمل على تغيير طابع الدولة، حتى لو كانت وسائل عملهما ديمقراطية". وستتوسع التهم والملاحقات لتشمل المفكر والسياسي العربي عزمي بشارة، والتي كانت وراء نفيه من فلسطين عام 2007 تحت وابل تهديدات بالاعتقال ودعوات الاغتيال، والمناضل الإسلامي رائد صلاح. وتلت ذلك أيضًا حملة مسعورة ضد ناشطين آخرين، وبذا أثبتت سلطة الاحتلال الصهيوني أنها حسمت خياراتها بين اعتماد تكتيك الإحتواء الذي عملت عليه بعد اتفاقية أوسلو، وبين استراتيجية الترهيب والإقصاء والعداء العلني للشعب الفلسطيني وقياداته الوطنية ومنظماته الشعبية.

هامش:
(*) "إسرائيل: الملاحقة الأمنية كأداة سياسية [فلسطينيو 48 بين فكيّ الملاحقة الأمنية لرموز الوعي القومي وتجريم العمل السياسي]". إمطانس شحادة، وأنطوان شلحت. إصدار التجمع الوطني الديمقراطي ـ دائرة التثقيف المركزية، ربيع 2017.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.