}

عاشَتْ العربية في غرْبتها (17)

دلال البزري دلال البزري 7 يناير 2024
استعادات عاشَتْ العربية في غرْبتها (17)
بيروت 1996: في معرض الرسوم التشكيلية لصالح شهداء قانا
تعريف:
عنوان هذا الكتاب، الذي ننشره على حلقات أسبوعية كل يوم أحد، تفصّله ثلاثة خيوط مختلفة:
ــ في الخيط الأول، يتكلم بصيغة الغائب المفرد. أي أنني أصف فيه محطات من حياة شخص، هو أنا: في إبحاري بالعربية، عبر أحداث سياسية ـ ثقافية.
ــ الخيط الثاني: أن العربية الراهنة ما زالت عائشة. ما زالت تقاوم من أجل البقاء، رغم تعثر أبنائها وإهمالهم لها. ويدعي هذا الكتاب بأنه ذرَّة في رمال إرادتها بالحياة.
ــ الخيط الأخير حماسي، يشبه صرخات التمنّي بالبقاء، مثل "يحيا الملك!" أو "يعيش الزعيم"! أقول "عاشت العربية!"، بمعنى أنني أتمنى لها البقاء، وتجاوز وحْشتها.

الوقائع المروية في هذا الكتاب كلها حقيقية، غير متخيّلة. وهي ناقصة بالتعريف. وأنا مسؤولة فقط عن صدقها.


القاهرة (1999 ـ 2009)
أنتقل، إذًا، إلى القاهرة، بعد زواجي الثاني من مواطن مصري. فأبتعد عن التدريس الجامعي، وكأنني أدير ظهري له، بعد كل هذه السنوات الفارغة.
أستاذة النقد الأدبي في الجامعة الأميركية في القاهرة، فريال غزول، تعرض عليّ التدريس فيها. أرفض تلقائيًا العرض، وأتذرع بإذعان هذه الجامعة للإسلاميين الذين شنوا حملة عنيفة عليها هدفها إلغاء كتاب الفرنسي مكسيم رودنسون عن رسول الإسلام، عنوانه "محمد".
أريد الآن أن أحقق ما كنتُ أرغب به: أن أكسب معيشتي عبر القيام بما أحبه. وفي صحيفة يومية، الوحيدة الموفّرة وقتها مدخولًا ثابتًا، وإن كان ضئيلًا. وعشية مغادرتي لبيروت، أتفق مع جوزيف سماحة على كتابة مقال واحد في صحيفة "الحياة" اللندنية، وهو مدير تحرير فيها، وصاحبها الأمير السعودي خالد بن سلطان.
ــ سأرسل لك جواب الإدارة بعد كم يوم.
فأسافر إلى القاهرة. وبعد "الكمْ يوم" هذا، يتصل بي جوزيف، ويعتذر بأنه لم يفعل شيئًا. وبأنه في المقابل يأخذني حازم صاغية على مسؤوليته، بأن يخصص لي مكانًا في ملحق "تيارات" الذي يترأس تحريره، في صحيفة "الحياة" نفسها. عكس ما يتوقع، أفرح، وأدخل بسرعة في مزاج هذا الشغل.
وأشرع في كتابة المقال الأول. يوم، يومين، ثلاثة أربعة... وأنا أكتب "نقاط" تلو الأخرى، أمزّق الورقة تلو الأخرى. بياضها وحده يثير فزعي من فشل الفكرة كلها. أخمّن بأن العطب ربما يكمن في ازدواجيتي: من أنني أفكر بالفرنسية، أضع "النقاط" بالفرنسية، وبعد ذلك أطلب من نفسي الكتابة العربية. لا يدوم التخمين طويلًا "هذه ليست المرة الأولى...". ولكن، إنها المرة الأولى التي سيكون المقال منتظمًا، كل أسبوع. وهذا وحده ربما يشلّني. وأنا الآن في مواجهة مباشرة مع رغبتي بترك الجامعة والعيش من الكتابة. ألمس خطورة ما أقدمت عليه، وأتذكر كلمات سمعتها من زملاء وأصدقاء أساتذة في الجامعة.
ــ هل تعتقدين بأن الكتابة المنتظمة في الصحافة أمر هيّن؟
ــ خذي على الأقل إجازة من دون راتب، أو استيداع...
ــ الجامعة مريحة، الكتابة متعبة، وغير مربحة...
وأنا اردّ عليهم، لا...! الجامعة لا!
الآن، فكرة تأخذني وفكرة تعيدني، وفوضى من النقاط والأفكار والوقائع والمعطيات، والورقة البيضاء أمامي، لم أكتب عليها سوى الخرابيش والرسمات والخطوط المتداخلة...
وبعد جلوسي مطولًا، هكذا، أمام تلك الورقة، أقول بأنه ربما علي المشي على الكورنيش، أمام النيل. لعل الهواء الجديد، أو أي شيء آخر من خارج البيت... يأخذ بيدي، فأبدأ في الكتابة.
ولكن عبثًا. أمضي أسبوعًا على هذه الحال. وأسلم بفكرة طلب المساعدة. ويكون صديقي رسام الكاريكاتور بهجت عثمان:
ــ بهجت، بهجيجو... النجدة...!
ــ ماذا يجري؟ ما بك؟ هل أنت بخير؟
ــ أيوه أيوه بخير... ولكن عندي مشكلة. أخبرتك عن شغل "الحياة". هذا أول مقال أكتبه لهم. وحتى الآن... ورقة بيضاء... الخرْبشات... لم أكتب حرفًا واحدًا... كيفما أدور يطلع بوجهي حائط أبيض بلون الورقة التي أمامي...
ــ ... اهدئي.... اهدئي... خذي نَفَسًا عميقًا... وقولي لي... بماذا تفكرين الآن؟ ماذا يجول في عقلك في هذه اللحظة؟
ــ بماذا أفكِر؟ أفكر... بماذا؟ بأنني أنتقل من مهنة إلى أخرى مختلفة. لا كما كنت أظن، بأنني أنتقل إلى فرع من مهنة واحدة. خطوة صعبة... وبأنني لست متمكنة من لغتي تمامًا. أفكر، لماذا قررت هذا الانتقال؟ لماذا تركت التعليم؟ ما الذي جذبني إلى الكتابة هذه بالذات...؟ ما الفرق بينها وبين الكتابة البحثية؟ أنت تعرف الباقي، أفكار "انتقالية"...
ــ حسنًا... حسنًا... اكتبي إذًا هذا الذي تفكرين به...
شكرًا بهجت... ألف شكر... ويكون أول مقال أرسله إلى ملحق "تيارات"، أكتب فيه ما قلته لبهجت. وأدخل في "روتين" المقال الأسبوعي، لمدة عشر سنوات، هي التي قضتيها في القاهرة. و"الروتين" هنا لا يعني الجلوس أمام اللابتوب والشروع في الكتابة. إنما مطاردة يومية لفكرة عن مقال. وبمجرد التقاطها، الفكرة، تتحرك الماكينة. مثل التحقّق من المعطيات، والسؤال عن تفاصيل فاتتْني، شفهية خصوصًا. وسؤالي إلى نفسي ما هي النقطة التي تشغلني في هذا الموضوع؟ أما الممنوعات في الكتابة، في الدين أو الملك، فلا تزعجني. خصوصًا أن بند "الدين" لا يشتمل على الحركات الدينية السلفية والإخوانية، ولا على مظاهر التديّن الجديد... وهي في صميم اهتماماتي.  أما الملك، فبعيد...
وحازم صاغية يرسل لي الإشارات المشجعة، ويضع مقالي في زاوية محددة من الملحق، اسمها عمود، ثابتة وبارزة، لها رسْمة تشبه شعلة تبدو وكأنها منطلقة عاليًا. ولها اسم أيضًا: "تأمل حرّ".



و"نظامي" ثابت، أسبوعي لا يتغير: أكتب المقال على ورقة، أحمله من المعادي حيث أسكن، إلى "الغاردن سيتي"، حيث تقع مكاتب "الحياة". ينتظرني في غرفة "الآ. تي" موظف يطبعه على الكمبيوتر، وأنا إلى جانبه، أوضح له ما لا يستطيع أن يقرأه، بسبب رداءة خطي بالعربي. وبعد ذلك، تدرّبت على الطباعة العربية على اللابتوب، ولكني بقيت أكتب المقال أولًا على ورقة، ثم أعود لأطبعه على اللابتوب.
وبما أنني لا أحب إعادة قراءة ما كتبته وهو منشور، لم أستفد أبدأ من تحرير مقالاتي على يد حازم صاغية. كنت أعرف أنه يصحح أخطاء جاءت فيها، ولكنني لم أمتلك همّة إعادة القراءة هذه. فبقيت على أخطاء من هذا القبيل، حتى انتقالي إلى صحيفة أخرى، لدى عودتي إلى بيروت. ولكن مهلًا...
كان الراتب في "الحياة" متواضعًا، وعلى القطعة. يعني إذا كتبت، نلتُ ما تسميه إدارة الصحيفة "المكافأة". وإذا لم أكتب، غابت هذه عن الشيك، في آخر الشهر. ورغم التواضع، كانت "المكافأة" غير منتظمة. تغيب في أحيان كثيرة.
في البداية، كلما نشرت مقالًا، تصورت أن الدنيا كلها ستقرأه. ويخيب ظني كل مرة. فتواضعت انتظاراتي، وصرت أحب أن أتخيّل أن أفرادًا قلائل يقرؤونه، فيتأثرون به، من دون أن يصلني شيء من هذا التأثر. المثقفون، وهم القراء المحتملون، فضولهم قليل. يتحلقون حول كاتب، أو اثنين، ولا يعودون يقتربون من غيره. أما أن يكون هذا الكاتب، امرأة، عربية غير مصرية، لبنانية بالذات، وفوق ذلك ليست "خبيرة" تلفزيونية، فهذا ما يجعلني كائنًا خفيًا، بلا اسم، حتى في نظر الذين دعوتهم مرات إلى العشاء، أو الرقص في منزلي... وما أكثرهم.
ففي إحدى المرات، كتبتُ مقالًا تهكّميًا عن يساريين اعتنقوا طقوسًا دينية قديمة، يتبعها محبو السيدة زينب: عندما يريدون الاحتجاج على الحكام، يحملون المكانس ويأخذون بتكنيس مدخل المسجد، حيث يُعتقد أن السيدة زينب دُفنت. مقال تهكمي لا غير. علمت لاحقًا بأن مجموعة من أولئك الذين استضفتهم في بيتي كانوا يتعشّون في مقهى "النادي اليوناني"، حين أشار عليهم واحد منهم، يحمل مقالي منشورًا في الحياة، يدعو الآخرين لقراءته من أجل الضحك.
ــ من هي دلال البزري؟
سألوا...
حامل المقال لا يعرف، ولا زملاؤه. إلا واحد منهم، حازم:
ــ الست اللبنانية المتزوجة صاحبنا طارق المرصفي...
ــ آه... بلى... كم كان طعامها شهيًا... كم كان الجو ممتعا...
ــ لبنانية يا أخي... مطبخهم معروف.
استنكاري لهكذا "خفة"، وانعدام الفضول بقراءة ما أكتب، نابع من فكرة موروثة، أحملها عن الكتاب والكتبة. فكرة قديمة، تضجّ بالعواطف والأخيلة. والكاتب فيها محور مجتمع يجلّه، يقرأه، يتفاعل معه، يتوسل منه حكمة، أو صورة، أو أي شيء من إفرازات العقل، أو الخيال، أو العاطفة. فيحتل مرتبة عالية من بين بقية خلق الله. وفي ذهني طبعًا كتاب معروفون، سابقون دائمًا، كانت لكتاباتهم صدى... ولكن كان عليّ أن أنتبه، قبل مصر، وأنا في لبنان، بأن هذه الفكرة الرومانسية غير مطابقة للواقع. أكثر من ذلك: إنها، أي الفكرة، ستتراجع شيئًا فشيئًا، مع صعود المشهد البصري، وستموت من الإهمال واللامبالاة. شعوب عربية بأكملها تتفوق على نفسها، فلا تقرأ، بل تشاهد.
وعندما يحضر حازم صاغية إلى القاهرة، في زيارة قصيرة، أنقّ عليه:
ــ لا مردود مالي، ولا معنوي!
يجيبني بأن لا، المالي يقوم بما يستطيع، أما المعنوي، فلديك قراء...
ــ يعني أن مقالاتي لا بأس بها؟
يشير برأسه:
ــ بعض مقالاتك ممتازة...
ــ صحيح؟؟؟
ثم أخذ وردّ، فاقتراح باختيار "أحلى" هذه المقالات، ونشرها في دار الساقي.
ــ أكتب لك مقدمتها يقول حازم.
هكذا صدرَ "مصر ضد مصر"، في أوائل سنة 2008، عن دار الساقي، ومقدمة كتبها حازم صاغية تمتزج فيها الصراحة الرقيقة بالثناء القاسي. وكانت أول مرة أوقّع كتابًا صدر لي. وفي "حدث" تنظمه دار الساقي في بيروت، بحفل فريد من نوعه. في الطابق الأرضي للعمارة التي تشغلها "الساقي"، متجر لها، يطل على الطريق العام بفسحة. فُتِح المحل على الفسحة، فتوسّع المكان، ونُصبت طاولات مرتفعة وكراس، وشموع على كل طاولة إلى جانبها وردة. وفي الداخل، أي المتجر نفسه، طاولة عريضة، عليها سلال من التمر والمكسرات والفواكه المجففة، وقناني النبيذ، وجمْهرة من الأصدقاء، في أواخر النهار. وأين؟ في ما يُعرف بـ"نزلة السفير"، ذاك الشارع المنحدر، الذي يوصل شارع البريستول بشارع الحمراء. فكان مشهدًا ليليًّا غير مألوف. لو نظرت إليه من بعيد، لاحترتَ في وصفه: أمسية؟ عشاء؟ افتتاح؟ عيد؟
أما في مصر، فلم أجد أي صدى.

(يتبع...)

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.