}

فريسة وصياد وجريمة ملتبسة وأغاني أم كلثوم...

دلال البزري دلال البزري 1 فبراير 2024
استعادات فريسة وصياد وجريمة ملتبسة وأغاني أم كلثوم...
يشاي سريد

 

هو محام ابن محام. يحاول النجاح بمفرده، من دون المكتب المهم الذي توظَّف فيه وقت تخرجه، ولكنه حتى اللحظة لم ينجح سوى بموكّل غارق في قضية إرث عائلي، بينه وبين أخته. والقضية معقّدة، من النوع الذي يمكن أن يدوم سنوات. في هذه الأثناء، تستدعيه أُلفا، مديرة الشرطة العسكرية، "رأس حربة" الجيش الإسرائيلي. تريد منه التحقيق في قضية مثيرة: مجنّدة شابة في الجيش الإسرائيلي تقول إنها تعرّضت لجريمة اغتصاب ارتكبها نقيب في الجيش. المحامي يهتم بالقضية. يضع جانبًا موكّله الوحيد، ويغوص فيها.

الشابة أولًا، واسمها ألموك، مضطربة، من عائلة "ريفية متدينة"، بعيدة عن تل أبيب. حاولت الانتحار بعد الحادثة، وهي الآن لا تستطيع أن تروي ما حصل معها. تبكي كل يوم، وتردِّد أنها لا تريد أن تعيش. لا تخرج من البيت، لا تقوم بأي عمل، تغلق على نفسها في غرفتها، كأن حياتها انتهت.

المحامي يزورها ويتكلم مع أهلها المفجوعين. والدها خصوصًا، غاضب جدًا. منذ البداية حذرها من الانخراط في الجيش، لأنه بنظره مكان تُستباح فيه البنات. ولكنه أعطاها موافقته بعدما أصرت بالبكاء والصراخ... والأدهى بالنسبة له هو العار: فالجميع الآن حوله باتَ يعلم أنها اغتُصبت. ولا يستطيع الخروج إلى الشارع من دون أن يسمع النميمة خلف ظهره، ويتحسّر على حظها الذي بات معدومًا بإيجاد عريس.

أما النقيب، فقصة أخرى، رجل من بيئة أخرى، في أوائل عشريناته، وسيم، اسمه إيرز، ومن عائلة متمكّنة. وهو مرابط في الحدود الشمالية مع لبنان حيث ما زالت إسرائيل تحتل جنوبه (فتفهم أن زمن القصة هو قبيل الألفية الثانية، وانسحاب إسرائيل من لبنان). وإيرز معتدّ بنفسه، لا يقبل ترك الجبهة من أجل تحقيق يراه تافهًا وعبثيًا. يقول له على الهاتف بنبرة استعلاء إنه ليس هو الذي يرغَم على الإبتعاد عن الجبهة، ويجَرْ إلى هكذا قضية خسيسة... فيقوم محامينا برحلة شاقة إلى الجبهة الشمالية لاستجوابه، حيث يستقبله إيرز بكل الأبهة العسكرية التي يتمتع بها والكثير من اللطف واللباقة.

وبين إيرز وألموك، بين استجواب الأول الذي يتكرّر بعيدًا عن الجبهة، والبحث عن الثانية الهاربة من الأسئلة، من أهلها، ومن نفسها... يبرز "عنصر" في التحقيق ليؤيد جريمة الاغتصاب، ثم يضعف أمام قرائن جديدة نقيضة، ويعود "عنصر" آخر، ليدحضه مرة أخرى... وهكذا، حتى نبلغ ذروة ما، عندما يبدي الضابط الرفيع استعداده للزواج من الفتاة، وفرحته بها. ولا تفهم تمامًا سبب هذا الإنقلاب في الحبْكة. هل هذا الإستعداد هو اعتراف بالجريمة ورغبة بالتغطية التقليدية عليها؟ أم أن الفتاة كانت تتلاعب بالمشاعر وبالشرطة العسكرية، لأن الموضوع، أي الاغتصاب، لم يتم إنما الصبية تعاني من خلل نفسي وإضطراب لأنها تعرضت وهي صغيرة لتحرشات من خالها، تمت لفْلفتها ضمن العائلة وفرض الصمت التام عنها...؟ نحن لن نعرف شيئًا من كل هذا لأن النقيب إيرز يُقتل على الجبهة، وتنتهي القصة. بما يشبه نهايات الأفلام العربية القديمة، عندما كان المخرج يعاقِب المتهم بقتله، قبل أن يحاكمه المجتمع أو الله.

إنه كتاب آخر للروائي الإسرائيلي يشاي سريد، "فريسة سهلة جدًا"، والاغتصاب فيه هو العنوان، ويفترض أنه الحبْكة الرئيسية. ولكنه لا يبدو كذلك. صحيح أن الراوي يأخذنا بعيدًا في التحقيق، لكن التفاصيل التي ينضح بها الكتاب منكبّة على المجتمع الإسرائيلي نفسه، على اضطراب الشخصيات والتباساتها وتأرجحها، حتى شخصية الراوي كما سنرى.

فهذه الرواية تشبه صور الأشعة عن المجتمع الإسرائيلي وأفراده، وحادثة الاغتصاب ليست مهمة بحدّ ذاتها، إنما بانوراما الشخصيات: لا أحد مستقر نفسيًا في هذه الرواية، لا أحد يقوى على الاطمئنان، بدءًا بالراوي الذي لا ينفك يعيد النظر بنفسه ومهنته، أو تلك المرأة، العشيقة السابقة، الساكنة عنده بالقوة، كأنها مدمنة مخدرات لكثرة ضياعها عن نفسها، أو موكّله الأول، الذي يُصاب بحالة نفسية لشدة تأثره بفوز أخته بكامل الميراث، ويدخل بسببها إلى مستشفى الأمراض العقلية. ألموك، البطلة، ما زالت على حافة الانتحار، ولا تعرف ماذا تفعل بحياتها. إيرز، البطل الذي يحمي شعبه، والذي لا تهزه إلا شعرة السمعة. والأب الذي يريد أن يرحل من إسرائيل لأنه منزعج منها، والمعالج النفسي القادم لتوه من الأرجنتين. والروسي الذي قدِم منذ يومين ويريد أن يلقي "دروسا صهيونية" على الراوي، وهذا الأخير الذي يرد له استفزازه: "هل تعرف منذ متى تعيش عائلتي في إسرائيل؟ ثمانين سنة! هل سمعت؟ ثمانين سنة!".

بقية الصورة الإشعاعية: رأينا كيف يتعاطى الأب مع اغتصاب ابنته. لم يهزه تحرش شقيق زوجته بابنته، بل ساهم باللفلفة، فالمهم هو العريس، والتمسك برأي ذاك الحاخام المتواجد على الشاشة دائمًا، والقائل بمنع الفتيات من القيام بالخدمة العسكرية. ثمة عوالم مختلفة وأحيانًا متناقضة في هذا المجتمع. سكان المدن المتأثرين بالغرب، "الكوزموبوليتيين"، والمستوطنات ومن بعدهما الصحراء. وأحياء بأسرها لا تجد فيها يهوديًا واحدًا يذهب إلى الكنيس أو يحترم السبت... وأحياء لا تجد واحدًا من الفلاشا (يهود أثيوبيين)، وكذا وكيت من الأحياء...

تعليقات متفرقة من هنا وهناك حول الجيش، كون المتهم أحد الواعدين بقيادته في المستقبل. في شكواه على بطء التحقيق يقول والد ألموك: "لو كانت الضحية ابنة جنرال، لكانت القضية عولجت بطريقة مختلفة تمامًا!". فيما يحدّث أحد رفاق الراوي سنواته في الخدمة العسكرية: "أنا الذي عشت التجربة، أعلم كيف تعامل البنات هناك، هن مجرد لحم صالح للإستهلاك". وبين ضغوط أهل المتهم وكبار المحامين والهالة التي يُحاط بها الجيش، من أن أفراده يموتون من أجل الوطن، فوق المنع الصريح بتناوله علنًا... واضح أنه، أي الجيش، هو عماد الوطنية الإسرائيلية، وأفراده وقادته "يخوضون حربًا شرسة كل يوم على الحدود مع لبنان". وهي وطنية، الأرجح أنها ساهمت بإنهاء الرواية من دون الكشف عن "الحقيقة" التي كان يبحث عنها الراوي.

مع أن مقطعًا بأكمله من الرواية يلوِّن الفكرة: سائق الشاحنة الذي يوصل الراوي إلى الحدود اللبنانية يفهم بأنه ليس عسكريًا، فيكلمه بنوع من الصراحة: "زوجتي لا تعلم أين أعمل. لا أريد أن أحطّم أعصابها. كلما شاهدنا القتلى على التلفزيون، تشكر الله بأنهم لم يرسلوني إلى لبنان. وهي تخطط لإرسال ابننا إلى أميركا قبل أن يبلغ عمر التجنيد، مع أنه ما زال في التاسعة من عمره. أنا أقول لها بأن خطتها لا تنفع. فنحن لم نهاجر إلى إسرائيل كي نرى ابننا مهاجرًا إلى أميركا. وهي تدعي بأن هذا ما يفعله القدماء (المهاجرون)، وبأنه لم يَعُد سوى المغاربة والروس الذي يقبلون بالخدمة في لبنان".

وبين الحرب في الشمال والأحياء والعقليات المتباعدة والجيش المتمتّع بحصانة عالية (لا صوت يعلو...)، وشخصيات عطوب بملامح قوية- ضعيفة.... وفي حين لا تجد "عربيًا" واحدًا إلا عاملًا في مطعم يتناول فيه غداءه، يذكره الراوي بعبارة "... وعربي يعمل في المطعم"... فإن رحلة الرواية هذه، من أولها إلى آخرها، لا تغيب عنها الأغنية والموسيقى العربيتَين. في الشارع على الأثير، والحياة جارية طبيعية، يستمتع الراوي بـ"غنج أولئك المغنيات العربيات وسحرهن"، يهديه صديقه أسطوانة أم كلثوم "أمل حياتي"، لا يشتهي في نهاية نهاره غير طعام هذه المنطقة وألحانها، الفولكلور العربي، التركي، اليوناني الغجري...  يستمع إلى أوركسترا مصرية، "ليلة استثنائية... لكثرة ما سعدتُ بالموسيقى قبّلتُ يدي زوجتي...! من حيث الموسيقى، علينا أن نتعلم الكثير من العرب. لعنة الله عليهم! وعلى هذا الأداء الرائع!".

ويكرّر تعلقه بأم كلثوم، ويروي استمتاعه بـ "أوركسترا عبد الوهاب التي ترجّ الدنيا بها"، وتصدح من بعده أم كلثوم بـ"أمل حياتي": "أنا أيضا كنتُ حفظُت هذه الأغنية غيبًا، كنت أصيح معها "خلينا نعيش!"، وأنا أضحك أضحك. ويومها قررتُ بأن هذه الأغنية ستكون نشيدنا. وبعدما ذلك، رفعتُ صوت الراديو...".

وبما أن لا الراوي، ولا الروائي ينسب نفسه إلى أصول ما "شرقية" أو عربية، فيمكننا الافتراض أن ذيوع الموسيقى والأغاني العربية هو أمر مشترك بين المارة على الرصيف أو المرتادين محلات الطعام السريع في المدن، أو على الأقل في العاصمة، فوق حب الراوي لها وحفظه بعض مقاطعها وتخصيص وقته لحضور حفلاتها.

ملاحظة أخيرة: الرواية صدرت قبل خروج تيار الـ "ميتو"، القادم من أميركا عام 2017، والذي أغرق يومياتنا بتحقيقات ومحاكمات لرجال، غالبيتهم من النجوم و"الكبار"، تحرشوا واغتصبوا وارتكبوا جرائم جنسية. تيار جارف، لو كُتِبت رواية الإغتصاب من بعده لكانت الحبْكة ربما أشدّ تركيزًا عليها، مع ميل أصبح مسهّلًا للإنحياز لصالح رافعة الشكوى.

"فريسة سهلة جدًا" هي الأولى ليشاي سريد. الثانية هي "شاعر من غزة"، التي كتبتُ عنها سابقًا. ولكنها تُرجمت عام 2015، أي بعد هذه الأخيرة.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.