}

كونراد لورنتس: الإنسان متفوّق عنفًا وعدوانيّة

جورج كعدي جورج كعدي 17 فبراير 2024
استعادات كونراد لورنتس: الإنسان متفوّق عنفًا وعدوانيّة
لدراسات لورنتس المتعلقة بالسلوك الحيوانيّ أثرٌ في علم النفس(Getty)
العالم النمساويّ كونراد لورنتس/ Konrad Lorenz هو أحد مؤسّسي "الإيثولوجيا الحديثة" (modern ethology)، أو علم السلوك الحيواني الحديث، نال عام 1973 نوبل علم وظائف أعضاء الإنسان (الفيزيولوجيا) والطب مع زميليه، الهولندي نيكولاس تينبرغن، والنمساوي كارل فون فريش، وحمل دكتوراة في الطب، وأخرى في الفلسفة، فضلًا عن عضويته في الجمعية الملكية النمساوية، والأكاديمية الألمانية للعلوم (ليوبولدينا)، والأكاديمية النمساوية للعلوم، والأكاديمية الملكية السويدية للعلوم، والأكاديمية الأميركية للفنون والعلوم. حاضَرَ في جامعة فيينا، وجامعة لودفيغ ماكسيميليان في ميونيخ.
كان لدراسات كونراد لورنتس (1903- 1989) المتعلقة بالسلوك الحيوانيّ أثرٌ كبيرٌ في علم النفس، إذ كشف أنّ للغريزة دورًا شديد الأهمية لدى سائر الكائنات، بما في ذلك الكائن البشريّ، مناقضًا بعض الأطروحات السلوكية التي تفترض أن جميع السلوكيات البشرية مكتسبة بالطريقة عينها، فقد سمح مفهوم "البصمة" بتبيان وجهات نظر جديدة في ما يتصل بتأثير الظروف في السلوك. فالغريزة قادرة على توجيهنا عبر مسارات غير متوقّعة. وقدّمت أبحاث لورنتس عناصر قيّمة لفهم قوانين التكيّف والبقاء في مملكة الحيوان، التي يمكن إسقاطها على البشر. ومن أبرز تلك العناصر عنصر "البصمة" التي تعدّ علامة ثابتة لدى بعض الحيوانات منذ لحظة ولادتها، واكتشف لورنتس ذلك من خلال مراقبة طيور الإوزّ والبطّ التي شُغف بها وأمضى أوقاتًا طويلة برفقتها مراقبًا.
السؤال الأول الذي يسعى "الإيثولوجيون" إلى الإجابة عنه هو: لِمَ لدى الإنسان نزوع فريد إلى العدوان "ضمن جنسه"، أي العدوان الموجّه نحو أشباهه من البشر؟ علمًا بأنّ هذه "الفرادة" البشرية تغدو موضع شك عند النظر إلى وحشية بعض الأسماك الاستوائية.
يرى لورنتس أنّها مفارقة مثيرة للاستغراب أن تكون مواهب الإنسان العظمى، أي قدراته الفريدة تفكيرًا ونطقًا التي جعلته في المستوى الأرفع بين الكائنات ومنحته السيطرة والسيادة على الأرض، ليست بركاتٍ ونعمًا في أتمّ المعاني، أو هي على الأقلّ بركات ونِعَم يتعيّن دفع ثمن باهظ لها في الحقيقة. فجميع الأخطار الكبرى التي تهدّد البشرية بالفناء إنّما هي نتائج مباشرة لقدرة الإنسان على التفكير والنطق. أحدث التفكير المفاهيميّ، مع النطق، تغييرات في تطوّر الإنسان بسبب وراثته خصائص مكتسبة، وكان لفعل "يرث" مضمون قانونيّ قبل زمن طويل من اكتسابه المضمون البيولوجيّ. حين يخترع الإنسان شيئًا كالقوس والنشّاب، مثلًا، فإن ذريّته لن ترث وحدها، بل يرث المجتمع كلّه معرفة هذه الأدوات وطريقة استخدامها، كوراثة الإنسان الأعضاء التي تنمو في الجسم، كما أنّ خسارتها هي بمثابة خسارة عضو مهمّ لبقاء الإنسان. وثمة أدلة على أنّ المخترعين الأوائل لأدوات الصيد البدائية لم يستخدموا سلاحهم الجديد لقتل الطرائد فحسب، بل لقتل أبناء جنسهم أيضًا. كما أنّ إنسان بكين، ذاك البروميثيوس الذي تعلّم كيف يحتفظ بالنار، استخدم النار لشيّ أقرانه!
ثمّة كوابح تلجم العدوان لدى مختلف الأجناس في المجتمع الحيوانيّ وتمنعها من إيذاء حيوان من الجنس نفسه، أو قتله. والكوابح هذه هي الأشدّ تميّزًا لدى الحيوانات القادرة على قتل كائنات حية من حجمها تقريبًا، فالغراب يستطيع أن يفقأ عين غراب بنقرة من منقاره، ويستطيع الذئب تمزيق وريد ذئب آخر بعضّة واحدة. ولكن ما كانت لتبقى ذئاب على وجه الأرض، أو غربان، لو لم تتكوّن لديها كوابح تحول دون انقراضها.




في المقابل، تُظهر دراسة سلوك الإنسان الأسترالي البدائيّ أنّ أدوات الصيد التي استخدمها إنّما تركت إرثًا خطيرًا اصطلح على تسميته بـ"عقلية آكلي اللحوم"، وتشمل هذه التسمية أكل اللحوم الحيوانية والبشريّة معًا، فالإنسان لم ينمِّ فقط أكل اللحوم الحيوانية بصورة محدّدة. مشكلته كلّها ناجمة عن كونه في الأصل مخلوقًا "قارتًا"، أي يأكل المواد الحيوانية والنباتية، وأنّه بالتالي غير مؤذٍ، أو هكذا يفترض. بيد أنّه خلال التطور البشريّ، لم تكن آليات الكبح التي تحول دون إقدام الإنسان على قتل أخيه الإنسان ضروريةً، إذ كان القتل السريع مستحيلًا في أي حال، فالضحية المحتملة كانت تملك فرصة استثارة شفقة المعتدي بالحركات التي تدلّ على الخضوع وتهدئة روع المعتدي. ولهذا السبب لم ينشأ ضغط مركّز لدى الإنسان في زمن ما قبل التاريخ لتنمية آليات كبح تمنع قتل أبناء جنسه، إلى أن قَلَبَ اختراع الأسلحة الاصطناعية على حين غرة ذاك التوازن الذي كان قائمًا بين إمكان القتل والكوابح الاجتماعية. إنّما لا يعني ذلك أن أسلافنا منذ ما قبل نشوء الجنس البشري كانوا، حتى في تلك المرحلة الخالية من أيّ مسؤولية إخلاقية، تجسيدًا للأبالسة، إذ ما كانوا أفقر في غرائزهم الاجتماعية وكوابحهم من الشامبنزي الذي هو، رغم سرعة غضبه، كائن اجتماعيّ ودود، وأيًّا تكن قواعد سلوكه الاجتماعيّ الفطرية، فإنّ اختراع الأسلحة قَلَبَ تلك القواعد رأسًا على عقب.

لورانس في مكتبه وهو يصمم شبكة السكك الحديدية (Getty)

إذا كانت البشرية قد صارعت البقاء، إلّا أنّها لم تحقّق يومًا الأمن الذي ينجّيها من خطر التدمير الذاتيّ. ولئن كانت المسؤولية الأخلاقيّة وعدم الرغبة في القتل قد ازدادا بلا ريب، فإنّ سهولة القتل وتجرّده من العاطفة قد ازدادا أيضًا وبالنسبة عينها. إنّ الطبقات العاطفية العميقة في الذات البشرية لا تسجل حقيقة جوهرية، وهي أنّ تحريك إصبعنا لإطلاق طلقة سيمزّق أحشاء إنسان آخر. وما من إنسان عاقل يذهب حتى إلى صيد أرنب من أجل المتعة فقط لو حمل قتله لفريسته بأسلحته الطبيعية الإدراك العاطفي الكامل لما يقوم به فعلًا. والمبدأ نفسه ينطبق، وإلى درجة أرفع أيضًا، على استخدام الأسلحة الحديثة ذات التحكّم عن بُعد. فالذي يضغط على زرّ الإطلاق يكون محجوبًا تمامًا عن معاينة أو سماع أو إدراك عواقب عمله إدراكًا شعوريًا، أي أنّه يستطيع أن يرتكب الفعل وهو متمتّع بحصانة تامّة. لهذا السبب يمكن القول إنّ الناس المفطورين على الطيبة تمامًا والذين لا يستطيعون حتى معاقبة طفل شرير، أثبتوا أنهم قادرون تمامًا على إطلاق الصواريخ أو إلقاء القنابل الحارقة على المدن وبالتالي قتل آلاف الأطفال. إذْ يستطيع العاديون الطيّبون أن يفعلوا ذلك فإنّ في الأمر غرابةً وفظاعةً شيطانيّة من فظاعات الحرب.
حين سيطر الإنسان، بفضل أسلحته وأدواته الأخرى، سيطرة كاملة تقريبًا على القوى الضارّة ببيئة جنسه الخارجية، أضحت العدوانية متحكمة في مراحل التطور البشري، ما أدّى إلى حدوث إفراط خطير في ما يعرف بـ"الفضائل الحربيّة" للإنسان! وما برح الاصطفاء ضمن النوع البشري يعمل حتى اليوم في اتجاه غير مرغوب فيه، من توكيد للذات وتكديس للثروات وتنافس تجاريّ يتضخم على نحو مرعب.
من أعمق أفكار لورنتس لدى مقارنته السلوك الحيواني بالسلوك البشريّ أنّ سلاح الحيوان هو جزء من تكوينه البيولوجيّ، وكلّ تركيبة في جسم الحيوان إنّما يراد بها حفظ النوع وتنتهي مهمتها حين يفرغ الحيوان من الدفاع عن نفسه. بينما مصيبة الإنسان أنّ سلاحه ليس جزءًا من بنيته، بل يصنعه بيديه ليقتل به عدوّه، فلا يكتفي بالدفاع عن نفسه، ولا يمنعه مانع من أن يشتطّ غاية الشطط في استخدام هذا السلاح.




مراقبًا السمك في أكواريوم، اكتشف لورنتس أنّ كل سمكة تتخذ لنفسها مكانًا، ولا تسمح لأيّ سمكة أخرى بالاقتراب منه. لمنطقة كل سمكة حدود غير مرئية، وإذا اقتربت إحدى السمكات من حدود منطقة السمكة المعنيّة فإنّها تطاردها فورًا بعنف وترغمها على الفرار، وفي الوقت نفسه "تفهم" السمكة الغريبة أنّها حدود ومنطقة لا يحق لها اقتحامها، لذا تسارع إلى الفرار طوعًا. ونرى السلوك ذاته لدى الكلاب، فالكلب يدافع عن حدود المكان الذي يعيش فيه، و"المحرّم" على الكلاب الأخرى التي يطاردها ويعوي عليها كي يرغمها على الهرب. والكلب "الدخيل" يدرك أيضًا أنّه لا يحق له البقاء في المكان فيعود إلى منطقة حمايته. وأسفرت معاينات لورنتس عن أنّ الحيوانات المتصارعة من جنس واحد لا تستمرّ في الصراع حتى يقتل القويّ منها الضعيف، بل من طبيعة الحيوان أن ينسحب الضعيف من الصراع حين يشعر بأنّ الآخر أقوى منه... الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يُجهز على عدوّه خلال الصراع، على الرغم من "استسلام" هذا العدوّ الأضعف!
مع لورنتس، يمكن أن نخلص إلى أنّ الأبحاث الإيثولوجية والأنثروبولوجية قد أثبتت بما لا يدع مجالًا للشك أن أسلافنا الذين يعودون إلى عشرات ألوف السنين، قبل الحضارة بزمن بعيد، شاركوا في حرب دموية ووحشية. و"تتطوّر" البشرية اليوم إلى ما هو أبعد من ذلك، فعلامات العدوان هي نفسها، ودورات الحرب بلا نهاية، ومثلها الإبادات الجماعية (نعيش واحدة من الأفظع في غزة اليوم)، فضلًا عن العداء المتفاقم بين الدول والأعراق. وقد عزّزت التكنولوجيا المدمّرة القوة حين يتعلق الأمر بالحرب! ونلحظ بيسر ازدياد انعدام المساواة في السلطة والثروة حول العالم. التفاوتات التي سادت في القرون الماضية تعيد إنتاج نفسها، ولا مفر من وجود أفراد أكثر عدوانية حين يتعلق الأمر بمراكمة السلطة والثروة. لا قواعد ولا قوانين توقف ذلك. الأقوياء يضعون القواعد. النزعات الاحتكارية التي تفشّت في القرن التاسع عشر تعاود تشكيل نفسها لتلائم أحدث الصناعات. كان الناس ماضيًا يحضرون عمليات الإعدام كشكل من أشكال الترفيه، ويستمتعون اليوم أكثر من أي وقت مضى بمشاهدة الآخرين يتعرّضون للإذلال في برامج الواقع، أو في الأخبار، وينغمسون في الألعاب والأفلام التي تستمتع بالقتل وإراقة الدماء. بات أسهل مع التكنولوجيا التعبير عن الرغبات العدوانية وإشباعها. وخلقت شبكة الإنترنت سلاحًا جديدًا وقويًا يدعى الحرب الإلكترونية. تتكيّف العدوانية البشرية مع أحدث الوسائل والإبتكارات التكنولوجية. والحروب صارت أقذر. ومع تفاقم حالة اللا أمان سيكون هنالك مزيد من المواجهات، وستكون هنالك طرائق أكثر تعقيدًا للبشر كي يبرّروا عدوانيتهم أمام أنفسهم وأمام العالم.

٭ناقد وأستاذ جامعي من لبنان.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.