}

عاشَتْ العربية في غرْبتها (24)

دلال البزري دلال البزري 25 فبراير 2024
استعادات عاشَتْ العربية في غرْبتها (24)
الكاتبة خلال إحدى فعاليات انتفاضة تشرين اللبنانية عام 2019
تعريف:

عنوان هذا الكتاب، الذي ننشره على حلقات أسبوعية كل يوم أحد، تفصّله ثلاثة خيوط مختلفة:
- في الخيط الأول، يتكلم بصيغة الغائب المفرد. أي أنني أصف فيه محطات من حياة شخص، هو أنا: في إبحاري بالعربية، عبر أحداث سياسية- ثقافية.
- الخيط الثاني: أن العربية الراهنة ما زالت عائشة. ما زالت تقاوم من أجل البقاء، رغم تعثر أبنائها وإهمالهم لها. ويدعي هذا الكتاب بأنه ذرَّة في رمال إرادتها بالحياة.  
- الخيط الأخير حماسي، يشبه صرخات التمنّي بالبقاء، مثل "يحيا الملك!" أو "يعيش الزعيم"! أقول "عاشت العربية!"، بمعنى أنني أتمنى لها البقاء، وتجاوز وحْشتها.  

الوقائع المروية في هذا الكتاب كلها حقيقية، غير متخيّلة. وهي ناقصة بالتعريف. وأنا مسؤولة فقط عن صدقها.

العودة إلى بيروت 2009-2020
أعود إلى بيروت بعد عشر سنوات غياب. أمامي مرحلة إعادة تأسيس جديدة. ومحيطي القديم ليس رحيبا ولا فسيحًا. ما الذي حصل؟
عودة قليلة إلى الوراء. وأنا مقيمة في القاهرة، كتبتُ في صحيفة "الحياة" مقالات تنتقد "حزب الله". وتكثفت هذه المقالات بعد اغتيال رفيق الحريري وموجة الاغتيالات اللاحقة عليه. وفي حرب تموز/ يوليو 2006، عبّرت عن شكوكي بأهداف هذه الحرب، وبعد ذلك لم أتوقف تقريبا عن تناول "حزب الله". في مصر نفسها، أثناء هذه الحرب الأخيرة، كانت النقاشات تدور بيني وبين أصدقائي المصريين، اليساريين بغالبيتهم، حول "ضعف وطنيتي": كيف لا أقف ضد الصهاينة مع أبناء بلدي!؟ هل أصبحت "تطبيعية" مثل علي سالم؟ صاحب كتاب "رحلة إلى إسرائيل"...؟ والمشجع على السلام مع إسرائيل، بعد توقيع اتفاقية أوسلو للسلام عام 1993؟
في هذا الكتاب الأخير، يروي علي سالم بلغة طريفة، كيف ارتجل هذه الرحلة، وركب سيارته القديمة. ويعدد فيه حيثيات مصرية صرفة، وأخرى مثالية مليئة بالأوهام "السلامية" مع إسرائيل. وظهر ضعف رهانه بعد أشهر على تلك الرحلة، باغتيال إسحق رابين، رئيس الوزراء الإسرائيلي الذي وقع اتفاقية السلام مع ياسر عرفات. وما لفت نظري وقتها أن اتحاد الكتاب المصريين قرر فصل علي سالم من عضويته، بعد سنوات على صدور الكتاب، ومشاركته "جماعة كوبنهاغن" المؤيدة للسلام مع إسرائيل. لكن القضاء المصري عطل هذا القرار.
وفي معرض دفاعي عن "وطنيتي"، وعن حرية علي سالم باتخاذ الموقف الذي يراه صحيحا، طالما أنه لا يحمل المسدس الذي يدافع عنه به... كنت أردّ على أصدقائي اليساريين، بالمقارنة بين موقف علي سالم هذا وتعاطف غالبيتهم مع عملية بن لادن الإرهابية، من دون أن يجرؤ أحد منهم على كتابة هذا التعاطف.  
ولكن ردة الفعل المصرية هذه يمكن وصفها بـ"الرقيقة" إذا ما قورنت بتلك التي صدرت عن لسان أصدقائي اللبنانيين المؤيدين لـ"حزب الله".
وصديقتي الأعزّ، ضحى شمس. كنت ما زلتُ في القاهرة، أثناء حرب تموز 2006، وقد كتبتُ ضد "حزب الله". على الإيميل كانت رسالة منها، تعاتبني بشدة على موقفي. تقول "إنهم" باتوا ينعتونني بـ"العميلة" و"الخائنة" و"الصهيونية". لا أسألها من هم "هؤلاء". فالواضح من لهجتها أنها تتبنى إنطباق هذه التهم عليّ. فأجيبها بخفر شديد، أن خلافنا لا يلغي صداقتنا وجلسات الحكي بيننا. وأتابع بأن المواقف والآراء، سياسية كانت أو غيرها، لا تبقى على حالها، ليست ثابتة. خذيني مثلا، أكتب لها: شخصيا كنتُ مع "حزب الله" عندما كانت إسرائيل تحتل الجنوب. والآن صرت ضده. وقد أعود. الآراء تتغير... أليس كذلك...؟ أنا لست قائدة سياسية، إنما صاحبة رأي. والرأي عندنا، مهما كان سديدًا، لا يقدم ولا يؤخر في العملية بأسرها. لي كامل الحرية برأيي على ما أظن... كل هذا لا يجب أن يلمس ذرة من ذرات صداقتنا. وأستحضر أصدقاءنا الرجال: أنظري إلى حازم صاغية وجوزيف سماحة. وهما منقسمان حول سلاح "حزب لله". وكل واحد يكتب عن المعسكر المضاد بأكثر العبارات قساوة. يقرءان مقالات بعضهما، يختلفان، يتساجلان حول هذه المسألة المصيرية، ومع ذلك يبقي الود بينهما، ولا ينساقان إلى تهم "العمالة" أو "البغاء". بماذا يتفوّقان علينا؟ بالوعي؟ بعمق الصداقة؟ بالأخلاق؟ بالرجولة؟




وعندما عدت إلى لبنان، بقي الجفاء على حاله بيني وبين ضحى. خصوصا أنها تعمل في "الأخبار"، المؤيدة لـ"حزب الله". وأنا في مجلة "نوافذ" الصادرة عن جريدة "المستقبل"، أي الناطقة باسم سعد الحريري، خصم "حزب الله". لكن مع مرور الوقت، يعود الودّ بيننا، مع احترام "بروتوكول" غير مكتوب، بأن نصمت تمامًا حول الموضوع السياسي.
فكانت الأحاديث بيننا... أشعر كل مرة وكأن جلساتنا مبتورة. نصل إلى الموضوع السياسي، ويجب أن نكون منْتبهات إلى عدم الاقتراب منه، ولو تلميحا. فينقطع الحديث، تفاديا للخلاف. فتطنّ أذني بقولها لي بأنها لا تريد أن تقرأ ما أكتب، "حفاظا على صداقتنا". تذهلني صراحتها، وتريحيني. أعرف حدودي... فأنتبه إليها حفاظا على هذه الصداقة. ونعود لإلتقاط أطراف من الحديث، المكررة أحيانا. عبثا نفعل. السياسة خرقت جدارنا. ولا نعود إلى ما كنا عليه قبل هذا الخلاف. حيث لم يكن للحرية سقف. كنا ننطلق مثل الطيور فوق حالنا، وقلبنا يغمره الفرح على أننا نعطي أسماء لأشياء تحوم حولنا، محرومة من الكلمة، بديهية، أو مبهمة، أو مخيفة. كانت جلسات من كيمياء خيالية... نضع الحلوى أمامنا، ونأخذ بالتدخين والكلام المسافر في فضاء لا ينتهي.
ما الفرق بين هذه الحالة وبين تلك التي وصلت إليه جلساتنا اليوم، ضحى وأنا؟ رغم المودّة الباقية؟ أو بالأحرى: عند حديث الصديقات الصدوقات، ما الفرق بين أن يجري ضمن حدود مرسومة، سياسية، مثل أسلاك شائكة تردّك إلى الوراء كلما تقدمت بالفكرة، أو ابتعدت بها، أو نوّعتها؟ وبين أن يجري لقاؤنا من دون هذه الأسلاك، بأجنحة حرة، بتلك الحرية التي لا تعود تحتاج اليها أصلا، وأنت على هذا الارتفاع؟ إنه فرق نوعي.  فالسياسة في بلادنا، ربما أكثر من أي بلد آخر، تدخل مباشرة في كل شيء، لدى الجماعات  والأفراد، وهي تقرر مصائرنا، وشكلنا وذوقنا وهندامنا وأكلنا وشربنا واللمْبة التي تنير غرفتنا... وجيوبنا. و"الرقابة" عليها، حظرها من الحديث حفاظا على الصداقة، هو إغفال لتلك الخيوط الدقيقة التي نُسجت بها خيالات صداقة مجنَّحة. وعندما يتحول التواطؤ على السكوت إلى قانون، تتكسَّر تلك الأجنحة.
وحده جوزيف سماحة من بين هؤلاء الأصدقاء كان رحيمًا. خلال زياراتي إلى لبنان، وأنا مقيمة في القاهرة، كنا نلتقي، ونتشاجر على الموضوع نفسه: سلاح "حزب الله". وفي آخر زيارة لي، بعيد اغتيال الحريري عام 2005، كنت حائرة بموقفه، الذي عبّر عنه في صحيفة "السفير". فسألته:
- هل تصدق فعلا أن إسرائيل اغتالت رفيق الحريري؟ وأن لا بشار ولا "حزب الله" لهما يد بذلك؟
- لا... لا... لا أصدق. ولكن عليّ أن أقول العكس، حفاظا على النظام السوري والمقاومة وعلى "حزب الله"، لأنهما الطليعة في مواجهة الإمبريالية والصهيونية.
كانت حجة لا تليق بالمقام الذي وضعته فيه منذ معرفتي به. هو الذي يردّد دائما صفة "النبيل" لوصف مواقف رجل أو مجموعة تعجبه، أو تنال تأييده.
- يعني ترى بأن الذين تبعد عنهم التهمة يقومون بعمل سياسي "نبيل"؟
يصمت لحظة، ويجيب بابتسامته الماكرة البريئة: - لا تستطيعين أن تفهمي... لأنك ساذجة...
وبعد تردد، وبصوت خفيض، يضيف: - غريب... مع أنك ذكية.
لم أكن في وارد هذا الردّ الأقل براءة من إبتسامته. فأخرج من مكتبه وأنا غاضبة، غير فاهمة وأفكر بأن الكلام لم ينته بيننا بخصوص تلك الاغتيالات المتتالية لرموز مناهضين للسياسة السورية في لبنان. وأعود إلى القاهرة.
فكانت الفرصة عام 2006، بعد موجة الاغتيالات، وعشية حرب تموز. جوزيف يزور القاهرة في هذه السنة للاتصال بصحافيين مصريين يكتبون في صحيفة "الأخبار" التي أسسها، بعدما ترك صحيفة "السفير"، وسيترأس تحريرها. عندما وصل إلى القاهرة، قام بزيارتي في منزلي مع صديقتنا المشتركة منى غندور. وبدل أن أكون أنا التي استفسر عن "تطورات" موقفه، وموقعه على رأس صحيفة يموّلها "حزب الله"، يحصل العكس؛ يحضر جوزيف وغرضه الصريح هو الحصول على جواب لسؤال بقي يردده طوال مدة الزيارة، وكانت طويلة، إلى ما بعد منتصف الليل:
- كيف غيرتِ رأيك بالمقاومة؟ كيف غيرتِ رأيك بـ"حزب الله"؟
أجيبه بحجة، فيرد عليّ بأخرى، بليغة، لامعة، أو رزينة. فأغوص أنا في كل واحدة منها، أحاول تفنيدها، بإجابات أستقيها من تجاربي، من احتكاكي بمجتمع آخر، قراءات أخرى... والجلسة كلها بدت لي بعد حين كأنها تمرين على التفكير.
حاولت منى أثناء الزيارة ترطيب الأجواء، الخروج من هذا "الموضوع". لكن جوزيف كان مصرا، يريد جوابًا. كان عليّ أن أسأله عن سرّ إصراره هذا، ولم أفعل. ربما لأنني نسيته في خضمّ "المعركة"، نسيت أصلًا أسئلتي له. فبقي "الموضوع" معلقا بيننا.
لكن جوزيف توفى بعد سبعة أشهر على هذه "الواقعة"، قام خلالها بكل ما يترتب على رئيس تحرير صحيفة يومية ناجحة. حضرتُ فورا إلى بيروت للمشاركة في الصلاة عن نفسه، وتشييعه. فكان جمع حاشد حزين، من كافة الألوان والمشارب... نساء ورجال مشوا في جنازته، رفاق قدماء، خصوم جدد، فنانون، صحافيون، روائيون، شعراء. وكان المشوار بين كنيسة الروم الكاثوليك والمقبرة قصيرا. مشينا ونحن نبكي، نشهق بالبكاء مثل الأطفال. عزيزنا، صاحبنا، جامع شملنا، الساخر، الراقص، الشغوف، ملك السهرات، الذي تدمع عينه على أغان منسية... نحمله الآن على أكتافنا غير مصدّقين أننا نرافقه إلى مثواه الأخير. 

(يتبع...)

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.