}

يشعياهو ليبوڨيتش: مرحلة وحشيّة تليها نهاية الصهيونية

جورج كعدي جورج كعدي 27 فبراير 2024
استعادات يشعياهو ليبوڨيتش: مرحلة وحشيّة تليها نهاية الصهيونية
يشعياهو ليبوڨيتش


"إنّ النشوة القوميّة المتباهية بعد انتصار حرب الأيام الستة ستتحوّل إلى قومية دينية متطرفة تليها مرحلة البهيميّة المتوحّشة ومن بعدها ستكون مرحلة نهاية الصهيونية".

"إنّ الشبّان مستنكفي الضمير، الرافضين الخدمة العسكرية، هم أبطال إسرائيل الحقيقيون (...) إنّ القادة المدنيين والعسكريين يريدون تحويل دولة إسرائيل من مؤسسة سياسية للاستقلال الوطني للشعب اليهودي إلى جهاز قمعيّ في يد نظام يهودي يمارس العنف ضدّ شعب آخر من أجل فَرْضِ حفنة يهود مدجّجين بالحديد الأميركيّ على كل الأراضي الواقعة خلف الخط الأخضر".

"إنّ التعذيب الذي مُنع قانونيًّا في العديد من الدول الأوروبيّة، حتى قبل الثورة الفرنسية، مسموح به قانونيًّا في إسرائيل التي تعدّ اليوم من البلدان الأكثر وحشيّة في العالم. التعذيب ممارسة وحشيّة بدائيّة. كلّ ذلك يتمّ تحت غطاء المصلحة الوطنية! إنّ دولة تشرّع التعذيب أقول بلا حرج إنّها يهوديّة نازيّة".

"هنالك فعلًا خطر حرب مفتوحة مع العرب. وهنالك من جهة ثانية خطر أن تصبح دولة إسرائيل فاشيّة. لقد أصبح العنف جوهر دولة إسرائيل".

"إنّ اجتياح لبنان (عام 82) كان جنونًا إجراميًا. بقي أن نعرف ما الذي كان طاغيًا الجنون أم الإجرام. أرادت المؤسّسة (إستبلشمنت) الإسرائيلية تركيز نظام حماية كذاك الذي أرساه هتلر في النرويج، ولكنّ اجتياح لبنان فشل ولا تزال إسرائيل تحتلّ جزءًا من الأراضي اللبنانية (...)".

هذا الكلام، وسواه ممّا سيلي، ليس لزعيم أو قائد فلسطينيّ، وليس لمناضل أمميّ أو لمفكّر عربيّ مناهض لإسرائيل وللصهيونيّة، بل هو لأحد أسياد الفكر اليهوديّ في "إسرائيل"، البروفيسور يشعياهو ليبوڨيتش Leibowitz (1903 - 1994) المفكر والطبيب والعالم والمرجع في الديانة اليهودية، الذي تسلّح بإيمان يهوديّ عميق ومسالم وواجه من داخل "إسرائيل" كلّ الزعامات الصهيونيّة من بن غوريون الذي لم يأنف من مجادلته في مسألتي الدين والدولة، حتى رابين الذي لم يكن يستمرئ آراء هذا المفكر والعالم المقدّر في الأوساط اليهودية ومضى إلى حدّ الإيعاز بحجب "جائزة دولة إسرائيل الكبرى" عنه بسبب تصريحاته اللاذعة ضد الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة وضدّ توجهات الدولة الإسرائيلية كقوة احتلال تقمع الشعب الفلسطيني وتقتله وتأسره وتُخضعه للتعذيب. ففي مناسبات وندوات عديدة أطنب ليبوڨيتش في انتقاداته مشددًا على أن "إسرائيل" دولة لا يمكن أن تبقى على الخريطة الديموغرافية "إلّا إذا قبلت بمجالها الذي حدّده لها قرار التقسيم عام  1947" ، ولطالما استخدم تعبير "إنكم يهود نازيون"، معتبرًا أن ما يعتبرونه "إرهابًا فلسطينيًّا" هو نتيجة لسياسة الدولة اليهودية في الأراضي الفلسطينية، مقترحًا باستمرار "رفض الشبّان المجندين العمل على الأراضي المحتلة" والمقصود أراضي ما قبل 67، إذ لم يكن في الواقع ضدّ دولة خاصة باليهود، بل مع دولتين واحدة لهم وثانية للفلسطينيين، تتعايشان في سلام جنبًا إلى جنب، أي ما عاد إلى الواجهة اليوم من كلام (عبثيّ غربيًّا وإسرائيليًّا) عن "حلّ الدولتين".

ليبوڨيتش المتعدّد كان عالمًا في الكيمياء الحيوية وطبيبًا وفيلسوفًا وكاتبًا وأستاذًا في الجامعة العبرية في القدس، ولد في ريغا، عاصمة لاتفيا، لعائلة ميسورة ودينيّة. نال دكتوراه في الفلسفة من جامعة برلين عام 1924 ثم دكتوراه في الكيمياء الحيوية والطب من جامعة بازل السويسرية. هاجر إلى فلسطين عام 1935، أي قبل نشوء "دولة إسرائيل"، حيث انضمّ إلى الجامعة العبرية في القدس وحاز فيها لقب بروفيسور.

في حوار طويل أجراه معه يوسف الغازي ونشر في كتاب أصدرته "لوموند" الفرنسية عام 1994 وترجم إلى العربية في تونس عام 2002 (النسخة الإلكترونية لا تذكر دار النشر) أفصح ليبوڨيتش عن آراء مثيرة جدًا، صادمة غالبًا، في قضايا الصهيونية والاحتلال وفاشية الحكام الإسرائيليين بل نازيتهم، بلوغًا إلى آرائه في الدين اليهودي والمغالطات السائدة بشأنه وسوء التفسير للتوراة والمعتقد بأكمله، فضلًا عن توقعاته المذهلة إذ تنبّأ قبل سنتين بمقتل رابين على يد صهيوني متطرّف، مثلما توقّع مرحلة حكم أقصى اليمين المتطرّف والمتوحّش الذي نشهده اليوم، وهي المرحلة ما قبل النهائية في توقعاته التي ستشهد زوال الصهيونية، وبالتالي كيانها المجرم المحتلّ.

"لقد حوّلوا حائط المبكى إلى مرقص دينيّ قوميّ"


إذ يطرح عليه محاوره سؤالًا حول الكلمة التي ألقاها رابين في واشنطن يوم توقيع الاتفاق المبدئي والاعتراف المتبادل بين "دولة إسرئيل" ومنظمة التحرير الفلسطينية في سبتمبر̸ أيلول 1993 في حديقة البيت الأبيض التي شهدت المصافحة التاريخية بين إسحق رابين والزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، يجيب ليبوڨيتش قائلًا: "ما دام رابين قد أثار لدى النساء الإسرائيليات ذكرى أبنائهن الذين سقطوا في الحروب، كان عليه أن يذكر أيضًا النساء الفلسطينيات اللاتي فقدن هنّ أيضًا أبناءهنّ. لا ننسى أننا قتلنا خلال الانتفاضة 230 طفلًا عربيًا فلسطينيًا. ليس هنالك شك في أنّ الانتفاضة ستدخل التاريخ وستسجّل الكفاح البطوليّ للفلسطينيين والإدانة الكبرى للشعب اليهودي في الوقت نفسه. لقد خاض الشعب الفلسطينيّ من دون جيش أو حكومة كفاحًا بطوليًّا من أجل حريته دفع ثمنه تضحيات جسام. في حين أنّ الشعب اليهودي استعمل الدولة والحكومة والجيش الذي يملكه". نُدهش لمفردات هذا الخطاب الذي لا نصدّق أنّه يخرج من فم مفكر وعالم يهوديّ بلغ التسعين من العمر وعاش على أرض فلسطين المحتلة طوال ستين عامًا ولم يكن ضدّ وجود "دولة إسرائيل" ولكن مقابل نشوء دولة فلسطينية! أي أنّه لا يتنكر ليهوديته ولا لحقّ دينيّ مزعوم في أرض فلسطين التاريخية، إلّا أنه يحتفظ في الوقت نفسه بإنسانيّته وبرفضه الاحتلال والوحشية الممارسين على الشعب الفلسطيني، محيّيًا كفاح هذا الشعب ونضاله. وحين يذكر عدد الأطفال الشهداء على أيدي القوات الإسرائيلية الوحشية يقفز إلى ذهننا سؤال بديهيّ: ما كان عساه ليقول لو بقي حيًّا وشهد حرب غزة الإبادية وعشرات ألوف الشهداء من أطفال ونساء ومرضى ومسنين؟!

حول مقولة "الشعب المختار" يقول ليبوڨيتش من موقع المتبحّر في العقيدة اليهودية: "إنّ الشعب اليهوديّ هو ᾿الشعب المختار ̔ لأنّ الإله منحه التوراة، لا أكثر ولا أقلّ. الذين يترجمون ᾿شعب الله المختار̔ بـ᾿العرق اليهوديّ̔ المتميّز أو الخاص إنّما يردّدون تصوّرًا هتلريًا. إنّ منح الله التوراة لشعب إسرائيل يعني أنّه أوجب على اليهود أمورًا لم يوجبها على سواهم. ليس على غير اليهودي واجب خدمة الإله والقيام بتعاليمه (الميتسڨو). هذا الواجب يعود إلى اليهود وحدهم. التوراة لا تعطي بل تطالب". ويعرّف اليهوديّ العلمانيّ بأنّه "لا يلتزم بتطبيق التوراة ولا يؤدي وصاياه". وعن تعريفه للأمة اليهودية يقول: "منذ القرن التاسع عشر يمرّ الشعب اليهودي، كذلك اليهودية، بأزمة هوية. إنّ مفهوم ᾿يهودي̔ ليس في الأصل عرقيًّا أو قوميًّا بل هو دينيّ. لا يوجد اليوم مفهوم واحد لليهودية. كان هذا المفهوم موجودًا قبل ثلاثة آلاف سنة وكان ذا مدلول واضح لا لبس فيه. إني لا أرى بوضوح مستقبل الشعب اليهودي. وأضيف: لستُ متأكدًا من مستقبل إسرائيل. إذا لم تُقِمْ إسرائيل السلام مع جيرانها العرب فإنّها لن تتمكن من البقاء موجودة على مرّ السنين. قد تعيش لسنوات إضافية بيد أنّها في حاجة إلى السلام مع العرب كي تدوم".

فائق الصراحة والدلالة ما يقوله ليبوڨيتش عن وجود "إسرائيل": "إنّ قيام دولة إسرائيل لم يحلّ مشكلة الشعب اليهوديّ ولا أزمة الهوية التي يعاني منها. لم ينعم الشعب اليهودي في تاريخه بما ينعم به في كل مكان في العالم من أمن وأمان. البلد الوحيد في العالم الذي يوجد فيه اليهود في خطر هو دولة إسرائيل. في الحقيقة، لم تشكل الصهيونية أبدًا حركة إنقاذ لليهود". وينزع ليبوڨيتش بوضوح تام صفة "القداسة" عن "أرض إسرائيل" قائلًا: "إنّ أرض إسرائيل ليست مقدسة، وإسرائيل ليست دولة الشعب اليهودي بل جهاز سلطة يمارس العنف ضدّ شعب آخر. والقدس أيضًا ليست مدينة مقدسة إلّا من منظور العبادة الإلهية المرتبطة بها. خدمة الإله هي الشيء المقدس الوحيد. أي تقديس آخر هو من قبيل الوثنية الصرفة التي تشكل بديلًا لعبادة الله. لقد حوّلوا حائط المبكى إلى مرقص دينيّ قوميّ".

أمّا مشروع "إسرائيل الكبرى" فيرى أنّه "ليس سوى غول يجرّ إلى الكارثة كلّ الأشكال الأخرى: الضمّ، الحماية، أو الفدرالية التي لن تكون سوى خزعبلات استعمارية قذرة. في ᾿إسرائيل الكبرى̔ هذه لن يوجد لا عامل يهوديّ ولا فلاح يهوديّ، بل سيشكل العرب شعب العمال وسيصبح الشعب اليهوديّ شعب المدراء المناظرين والموظفين والشرطة والشين بيت (جهاز الاستخبارات الإسرائيلي) الذي سيؤثر حتمًا على الجو الفكري للدولة والمجتمع وسيسمّم التربية ويؤذي حرية الفكر والانتقاد لدى السكان اليهود، أمّا العرب فستقام لهم معتقلات وتنصب المشانق. دولة كهذه لا تستحق الوجود ومن الأفضل ألّا تُمنح فرصة الولادة. النقطة المحورية هي الفصل التام بين هذه الدولة الوحش والشعب اليهودي. سوف تفقد الدولة وعي أنّها دولة يهودية. لن يبدي يهود الشتات أي اهتمام بهذه الدولة ولن تكون هناك أي فرصة لهجرة واسعة نحو إسرائيل".

لكنّ محاور ليبوڨيتش يسأله ما هو الحلّ؟ فيجيبه الرجل المتنوّر والعالم: "الخيار الأوحد أمامنا أن نغادر المناطق ذات الأغلبية العربية، تلك التي لا يمكن تحويلها إلى مناطق يهودية. ما يجب فعله، في غياب فرص سلام في المستقبل القريب، هو أن نقوّي أنفسنا من داخل دولتنا اليهودية وأن نصمد ونواصل العيش في حياة جوهرها إنسانيّ ويهوديّ. أمننا ليس مرهونًا بهذه الحدود أو تلك ولا يعني لي شيئًا أن يرفرف علم إسرائيل على قبر راحاب المومس في أريحا أو على قبر هامور في نابلس"، مؤكدًا: "إنّ دولة إسرائيل لم تعرض السلام أبدًا على الشعب الفلسطينيّ. منذ 1947 اعترفت الأمم بأنّ هناك شعبين يعيشان تحت الحماية البريطانية على أرض فلسطين التي يسمّيها اليهود أرض إسرائيل، وأنّ على هذين الشعبين اقتسام هذه الأرض". لكنّ "إسرائيل" لا تريد اقتسامًا ولا سلامًا بل "تريد أن تسيطر على العرب وعليهم أن ينصاعوا" في تعبير ليبوڨيتش الذي تكشف له نظرته المستقبلية أنّ "ليس هناك في الواقع سوى حلين، الأول حرب ضارية بيننا وبين العالم العربيّ بأكمله تشارك فيها مصر رغم اتفاقية السلام، والثاني اقتسام البلاد بين الشعبين اقتسامًا حقيقيًا، دولة يهودية وإلى جانبها دولة فلسطينية. لا يوجد سوى هذين الحلّين ولا ثالث لهما. الخطأ منّا. نحن مصرّون على السيطرة على الشعب الفلسطيني. المشكل الحقيقي في نظري هو أن إسرائيل لا تبحث عن السلام". والأخطر تأكيد ليبوڨيتش أنّ "إسرائيل هي تقريبًا البلد الوحيد في العالم الذي يهدّد باستعمال القنبلة النووية".

يستحضر ليبوڨيتش في هذا الحوار أيضًا فكرة للروائي النمساويّ فرانتز غريلپاروير الذي حذّر من مساوئ القومية "عندما تتحوّل إلى قيمة في حدّ ذاتها فيتحوّل الإنسان حيوانًا متوحّشًا، فلا يمكن للقومية أن تكون في أيّ حال من الأحوال قيمة"، مردفًا: "إنني يهوديّ ولا يمكن أن أتصوّر نفسيّ إلّا يهوديًّا. إنها قوميتي". ولا يتردّد في القول: "إن البلد الذي يهدّد السلام في المنطقة هو إسرائيل وليس إيران ولا العراق".

سؤالٌ يُطرح إزاء كلام كهذا ليهوديّ ملتزم يعيش بين أقرانه مساجلًا، محاججًا، منتقدًا ومقارعًا بالموقف والفكر والرؤية الجليّة المتنوّرة، وبروح إنسانيّة نادرة، نابذة للعنف، عادلة ومعتدلة قياسًا بالمواقف الصهيونية المتطرّفة بل الفاشية في حالتها الراهنة. صوتٌ من الداخل ينطق بالحقيقة هو أثمن بكثير من أي صوت آخر في جهة مقابلة من الصراع. نحن مجدّدًا أمام شهادة "شاهد من أهله" وهي بألف شهادة.

*ناقد وأستاذ جامعيّ لبنانيّ.    

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.