}

الكلام المباح الذي سكتت عنه شهرزاد: في قدرة المسامحة

باسم سليمان 6 مارس 2024
استعادات الكلام المباح الذي سكتت عنه شهرزاد: في قدرة المسامحة
نقش شهرزاد في الليالي العربية 1892 (Getty)


يرى والتر ج. أونج في كتابه (الشفاهية والكتابية) بأنّ الحكّاء الشعبي ينطلق في حكايته من قلب الحدث القصصي، ومن ثمّ ينسج حكايته على مهل، وذلك كي يزجّ بالمستمع في قلب الحكاية، فلا يستطيع فكاكًا، وهذا ما فعله هوميروس في الإلياذة. وعلى نفس المنوال اشتغل الحكّاء في قصص ألف ليلة وليلة، فالقصة الافتتاحية تُدخلنا مباشرة في السبب الذي حوّل الملك شهريار إلى قاتل متسلسل يفتضّ كلّ ليلة عذراء ومن ثم يقتلها.

تضعنا ألف ليلة وليلة مباشرة في حكاية خيانة زوجة الملك شهريار مع عبدٍ له. يقتل الملك زوجته ويقرّر أن ينتقم من جنس النساء، وعندما يصل الدور إلى بنت وزيره، تدخل شهرزاد القصة، وتطلب من والدها أن يجهّزها، ويبعث بها إلى الملك، فيتردّد الوزير، ويقصّ لها قصة: الحمار والثور مع صاحب المزرعة؛ كي يحذّرها من مغبّة فعلها، لكنّ شهرزاد تصرّ على ذلك!

لا ريب أنّنا استهجنا تصرف الوزير الذي توقّع أن يصل الدور إلى ابنته شهرزاد كعروس للملك، فيتسلّمها في صباح عرسها جثة هامدة، وكان الأحرى به أن يهرب من مملكة هذا الملك المتجبّر الظالم، إلّا أنّه لم يفعل، كذلك لنا أن نستغرب من إقدام شهرزاد على هذه التضحية كي تنقذ بنات جنسها.

هناك حدثان خارقان للطبيعة البشرية في ألف ليلة وليلة، لا يوضعان في خانة واحدة مع المردة وبساط الريح والحوت الذي تنمو على ظهره جزيرة. الأول: هو الملك الذي جنّ بعد خيانة زوجته وغدا قاتلًا متسلسلًا. والثاني يظهر في تهوّر شهرزاد بأن ترمي نفسها في حضن الموت. قدّمت لنا ألف ليلة وليلة السبب الذي حدا بالملك شهريار إلى سلوك مسلك غير إنساني، لكنّها لم تُفصح عن تهوّر شهرزاد التي خرجت عن الحدّ الأوسط للفضيلة إلى التفريط في حياتها، أمّا بقيّة الأفعال الخارقة للطبيعة، فالخيال كافٍ كسبب لوجودها.

ولكن قبل أن نفكّ أختام الصمت، ونجري الكلام على اللسان، في المسكوت عنه في قصص ألف ليلة وليلة، وما الذي أغفله الحكّاء باستعجاله الدخول في قلب القصة، لا بدّ من أن نسأل، ما الذي كانت تسكت عنه شهرزاد ما إن يدركها الصباح؟ إنّ الجواب من السهولة بمكان، فقد كانت تحبس لسانها عن إكمال القصة حتى الليلة الثانية، فتؤجّل موتها. وبهذا تقتدي بالحكّاء الشعبي الذي يضع المستمع في ذروة الأحداث، فيأخذ بأسماعه، ولا يفكّه من قيد قصة، حتى يكبّله بأخرى، فهل هذا هو السبب أم في الأمر (إنّ)؟

وأدرك شهرزاد الصباح!

يُحكى أنّه منذ سبع عشرة سنة، أيّها القارئ السعيد، حدث أنّ ابنة طبيب قصر الملك الذي أنقذ شهريار من اختلاط البلغم بالسوداء في جسده، قد عشقت أحد الجنود الشجعان في جيش الملك شهريار. وأن شجاعة هذا الجندي قد أهّلته لأن يصبح قائد الميمنة في جيش الملك. ولقد أخبرتهما العرّافات بأنّ الأقدار كتبت لهما أيامًا سعيدة وأيامًا حزينة، وأن ابنتهما ستصبح ملكة على هذه المملكة. في ذلك الزمن الجميل ضحكت بنت الحكيم والجندي الشجاع من نبوءة العرافات، فقد كان همّهما أن يجمعهما عشّ الزوجية ليذوق عسيلتها وتذوق عسيلته، ولتأتي الأيام بما تشاء، فلا مهرب من قضاء الله إلّا إلى قضاء الله.

كان موعد العرس قد حُدّد بعد شهر من واقعة الخيانة التي هزّت عرش المملكة. وبدأت الفتيات العذراوات يتساقطن صريعات في سرير الملك، ولم يلبث أن أتى دور بنت الطبيب لتكون زوجة شهريار. استمع الطبيب صابرًا إلى قرار شهريار، بأنّه سيتزوج ابنته، فخضع خضوع الخروف إلى الراعي. ولكن ما إن وصل إلى بيته حتى دبّر أمر هروب ابنته مع الجندي الشجاع إلى مكان مجهول، بعد أن زوّجهما. وعندما علِم الملك بذلك قتله وأرسل جنده تجوس البلاد بحثًا عن ابنة الطبيب والجندي الخائن، لكن لم يوفّق عسسه بمعرفة مكانهما. وكرّت الأيام كحبات السبحة والفتيات يتساقطن كورق الخريف في العاصفة، لا شهريار شُفي من جنونه من هول المجزرة التي ارتكبها، ولا العسس توقّفوا عن البحث عن ابنة الطبيب.

وفي مكان قصيّ من المملكة على ضفة نهر كان هناك كوخ مهجور، سكنه لاجئان من بطش الملك، قد رزقهما الله بعد تسعة أشهر بطفلة، كأنّها النرجس بجمالها. ولأنّ القصص كالنار لا تحيا إلّا بأكل ذاتها، ولأنّ العسس آذان الملك في كل زمان ومكان، قد علموا مكانهما، فوصفوا للملك حال تلك العائلة الصغيرة في ذلك الكوخ البعيد. أخيرًا تنفس شهريار الصعداء، فقد أوغرت صدره بنت الطبيب وجنديه الخائن أكثر من زوجته الخائنة، وقال لوزيره: اذهب على رأس الجنود وآتني برأسيهما.


أغلقت الحدود وبدأ جنود الملك يضيّقون أنشوطة المشنقة على بنت الطبيب والجندي الشجاع حيث كانا غافلين عمّ يحدث، لكن المعروف يرد بالمعروف، وواهب الحياة يجزى بالحياة. انفرد أحد الحرس عن حياكة الأنشوطة وأسرى في الليل البهيم حتى وصل متقطّع الأنفاس إلى الكوخ، وقال كلمة واحدة: اهربا؟ وعاد من حيث جاء. كان هذا الحرس مدينًا للجندي الشجاع بحياته، فقد أنقذه من الموت في إحدى المعارك، فقامر بحياته لربما ينجو الجندي الشجاع من قضاء الملك. لم يكن من وقت وليس من سبيل، فالجندي الشجاع أعلم بأنّ أنشوطة المشنقة لا ينجو منها أحد، فقد كان مبتدعها، فهي أشبه بدائرة من الجنود تضيق رويدًا رويدًا نحو مركزها. ظلّ رابط الجأش وخمّن أنّ الوقت المتبقي لهما، نهار وليلة، فأحضر سلّة وطلاها بالقار، وأحكم إغلاق ثقوبها، وجهّزت زوجته في الوقت نفسه مهدًا للطفلة في السلّة. كانت الخطة أن يضعا السلّة وفي قلبها الطفلة في مجرى النهر، وينتظران قدرهما بشجاعة العشاق، وبذلك يؤمّنان لابنتهما فرصة للنجاة كما يسّر الله للنبي موسى النجاة بعد أن ألقته أمّه في اليم. لم تكن حسابات الجندي الشجاع صحيحة، فقد وصل، قبل الأوان المفترض، إلى سمعهما قرقعة أسلحة الجنود من كلّ حدب وصوب، فقال لزوجته: أرضعي نور العين حتى تنام، وضعيها في السلّة في مجرى النهر.

حاولت الزوجة أن تمنع زوجها من أن ينفذ خطّته، لكنّه أقنعها بأنّها الوسيلة الوحيدة للنجاة، فالجنود جنوده، وهو أعلم بشراستهم. كان جنود الملك قد وصلوا سريعًا، فخرج لهما الجندي وقاتل قتال الأبطال، كي يعطي الزوجة وقتًا لتضع ابنتهما في السلّة، إلّا أنّ أحد الجنود اقتحم الكوخ، فعاجلته بنت الطبيب بطعنة نجلاء في صدره، ومع ذلك نال منها بجرح مميت. سقطا كلاهما، هو جثة هامدة، وبنت الطبيب مضرّجة بدمائها. تحاملت بنت طبيب الملك على نفسها وزحفت تحمل ابنتها النائمة بعد أن غفت إثر الرضاعة، فوضعتها في السلّة، ودفعتها في مجرى الماء، ولأنّها متيقنة بأنّ الجنود سيبحثون عن الصغيرة، قرّرت اشعال النار في الكوخ، فيقتنع الجنود بأنّ النار أكلت الطفلة، فلن يتحمّل جسدها الغض اللهيب. كان الجندي الشجاع قد تلقى من السهام في جسده الكثير حتى تكسّرت النصال على النصال كما قال المتنبي، فخرّ صريعًا، وقبل أن يبتلعه الموت رأى النار تشتعل في الكوخ، فهمس: يا نار كوني بردًا وسلامًا. قبل لحظات من اشتعال النار، كان الجنود قد اقتحموا الكوخ، وفي ذات اللحظة كسرت بنت الطبيب السراج، فشبّت النار في الكوخ. تراجع الجنود إلى الوراء، ومن جديد شهد الوزير موتًا جديدًا سبّبه شهريار، لكنّه لم يحرّك ساكنًا.

جزّ الجنود رأس الجندي، وبعد أن تحوّل الكوخ إلى رماد، أخرجوا جثة بنت الطبيب، وقطعوا رأسها المتفحّم، ووضعوا الرأسين في كيس، ومن ثم أمرهم الوزير، بأن يعجّلوا بهما إلى الملك بينما سيلحق بهم.

أدرك الصباح الوزير يحمل الرحمة بين ثناياه مبددًا الظلمة التي شهدت مقتل بنت الطبيب والجندي الشجاع. كان الوزير قد أمضى الليل يحاذي النهر في ممشاه، وقد تقطّعت نياط قلبه من الحزن، وتمنّى لو كان إنسانّا مجهولًا لا يملك إلّا كفاف يومه وأبناء يزدهر بهم بعد مماته. لقد اعطاه الله السلطة والمال وحرمه نعمة الأبناء، ولما أثقلت الهموم كاهله، نزل عن حصانه، وجلس على ضفة النهر يستمع إلى نقيق الضفادع وزقزقة العصافير، فأخذته غفوة إلى أن اِستفاق على صوت بكاء طفل، فتلفّت حوله، كان الصوت يصل مسامعه من الضفة الثانية للنهر، فخاض في الماء حتى وقف على الموضع الذي سمع منه البكاء، فوجد سلّة من القصب مطلّية بالقار، وإذ بطفلة كأنّها البدر في السماء، فقال في نفسه: هي هبة لي من الحنّان المنّان، فقد استمع إلى شكوى قلبي وحزن زوجتي، فأخذ الطفلة التي مدّت يدها الصغيرة إلى لحيته وبدأت تلاعبها.

ما هو الكلام المباح؟

مرّت السنين سريعًا وأصبحت مملكة شهريار مقبرة كبيرة. وفي الوقت نفسه كبرت الصغيرة في حضن الوزير وأسماها شهرزاد، أي بنت البلد. لقد كانت سعادة زوجة الوزير بها كبيرة إلى درجة أن رحمها تفتّح، فأنجبت للوزير ابنة أخرى أسماها دنيازاد. لم يخف الوزير سرّ مولد شهرزاد عنها، ومع ذلك ظلّ السرّ مطويّا، لا يعلمه إلّا الوزير وزوجته ومرضعتها التي ماتت، فدفن السرّ معها، لكن الأيام لا أمان لها، فما إن تصفو حتى تتعكّر، لقد طلب الملك شهريار من الوزير ابنته شهرزاد.                                               

تزيّنت شهرزاد بأجمل الأثواب المنسوجة من خيوط الذهب، فكانت البدر والشمس معًا، حتى أنّ شهريار روّعه جمالها وإقدامها على التلذّذ والفرح بكلّ لحظات العرس الملوكي. لقد بلبلت رباطة جأشه، فلم يعرف أنثى قبلها قد سيقت إلى هذا الامتحان، إلّا كانت مسودّة الوجه، منفطرة القلب، قد بالت في ثياب عرسها من الخوف والرعب. لم يتأمّل شهريار كثيرًا في حال شهرزاد، فالحقد أخذ منه حتى ثواني الحيرة تلك. أرادت شهرزاد أن يكون عرسها رائعًا بكل المقاييس، فأُطلقت الألعاب النارية ووزّعت العطايا والهدايا على الناس كي يذكورها بالخير بعد موتها. انفض الحفل البهيج، وساقها شهريار، الذي يعني اسمه أمير البلاد إلى مخدع الموت، وهناك أسرّت له بطلبها الأخير والدموع تحجب عينيها، فأخبرت الملك عن أختها الصغيرة دنيازاد وأنّها تريد وداعها، فكان لها ما طلبت، فأرسل الملك بطلب أختها، فعانقتها وودّعتها، وغافلت الصغيرة الملك واختبأت تحت سرير الموت. وبعد أن قضى شهريار وطره من شهرزاد، خرجت أختها من تحت السرير، وطلبت من شهرزاد أن تزجي وقتهم بقصّة حتى يحين الصباح ويقطع السياف مسرور رأسها. فاستأذنت الملك بذلك، فأذن لها، وبدأت الليالي.

بعد هذا المنعطف تعود إلى الانتظام قصص ألف ليلة وليلة، كما عهدناها، إلّا أنّ السرّ ظلّ كامنًا في الثيمة الاختتامية لكلّ ليلة، والتي حفظنها عن ظهر قلب: "وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتت عن الكلام المباح".

تعوّدنا أن نحلّل فعل الحكي الشهرزادي كطوق نجاة من الموت على يد شهريار، لكنّنا لم نتنبّه إلى معاني القصة الأولى في الليالي التي تقصّ حكاية الأميرة التي خطفها المارد، وانتقامًا منه أصبحت تخونه مع كلّ عابر تلتقيه. إنّ ما رغبناه في دواخلنا العميقة، هو أن تشهر شهرزاد خنجرًا مسمومًا وتنتقم لأبويها ولكل الفتيات اللاتي قتلن في سرير بروكرست الشهرياري، لكنّها لم تفعل، لقد رفضت أن تصبح قاتلة منتقمة؛ وهذا هو الدور الخفي للقصّ الشهرزادي، بأن تنزع من مستمعيها وقرائها ونفسها أولًا، الرغبة الدفينة بالانتقام، على الرغم من أنّ كلّ الأسباب تدعم شرعيته. فلو قتل شهريار شهرزاد، أو ثأرت شهرزاد من شهريار، لم يكن لليالي من وجود ولنا أن نقيس ذلك على التاريخ البشري الذي لم يكن قابلًا للاستمرار لولا وجود القدرة على الصفح والمسامحة، ليس فقط تجاه الآخر، بل تجاه أنفسنا أولًا وأخيرًا.   
             

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.