}

والت ويتمان في عزلته الأخيرة

حسونة المصباحي 11 مايو 2024
استعادات والت ويتمان في عزلته الأخيرة
والت ويتمان (Getty)

في السنوات الأخيرة من حياتهم، يُفضّل كتّاب وشعراء ترك العواصم والمدن الكبيرة التي أمضوا فيها الشطر الأكبر من حياتهم، ومن مسيرتهم الإبداعية، والعودة إلى القرى والمدن الصغيرة التي فيها ولدوا، أو هم يختارون العزلة في الأرياف ليمضوا ما تبقّى لهم من العمر بين أحضان الطبيعة بعيدًا عن كلّ ما يُعكّر صفوهم ومزاجهم، ويُفسد راحتهم السابقة للراحة الأبدية. وهذا ما فعله الشاعر الأميركي والت ويتمان (1819 ــ 1892)، الذي غادر نيويورك حين أدركته الشيخوخة، ليعيش مُتوحّدًا بنفسه في ريف منطقة "إنكلترا الجديدة"، وذلك بين عامي 1876 و1877. وفي اليوميّات التي دوّنها خلال تلك الفترة، والتي سمّاها "أيام مُتميّزة" يتحدث عن لحظات الدهشة والذهول أمام عجائب الطبيعة التي تعكس خلجات نفسه، والأفكار التي تولّدها تأمّلاته وهو يتجّول في الغابات في مختلف أوقات النهار. وكل ذلك كان يُشعره أنه يولد من جديد مُتخليًا عن عادات "سيئة" تعلق بها في فترة عيشه، في ازدحام وصخب المدن الكبيرة.
في فاتح شهر سبتمبر/ أيلول 1876، نجده يقف مفتونًا أمام شجرة حَوْر ضخمة، "قويّة، ومُفْعَمَة بالحياة"، ومنها تنبثقُ "بلاغة صمّاء". وجمال هذه الشجرة لا يتجلّى للناظر إلاّ بعد أن يتمعّن فيها طويلًا، لأنها تختلف عن أولئك البشر الذين يتسابقون لإبراز محاسنهم، وفضائلهم التي غالبًا ما تكون خادعة وكاذبة ومّزيّفة. وشيئًا فشيئًا، يزداد والت ويتمان غوْصًا في عالم شجرة الحوْر، ليكتشف "فنًّا ملموسًا، وبطوليًّا". ورغم أنه "متوحّش وبدائي"، فإن هذا الفن يتميّز بـ"براءة" لا يمكن أن تكون مُضرّة مطلقًا. وما تتميز به هذه الشجرة أيضًا هو أنها قادرة على تحدّي كل تغيّرات الطقس بما في ذلك العواصف الهوجاء. بها يحتمي المتجوّل من مطر، أو من ثلج. وصحيح أن الأشجار لا توحي أبدًا بأنها تتكلم، لكن صمتها يبدو بالنسبة لوالت ويتمان أكثر تعبيرًا وبلاغة وعمقًا من كثير من الخطب، والكتابات، والقصائد، والمواعظ. والدّرسُ الذي يمكن استخلاصه من لحظة التأمل في شجرة ما لا يمكن أن يكون ــ بحسب ويتمان ــ إلاّ أخلاقيًّا، ومن درجة عالية للغاية. ولا يُستخلص هذا الدّرسُ من الشجرة وحدها، وإنما أيضًا من الأرض، ومن الصخور، ومن الحيوانات، وهو يعني أن يكون الإنسان ذاته فقط، من دون أن يُعير اهتمامًا لآراء الآخرين، سلبية كانت أو إيجابية. يكفيه أن يقف أمام الآخرين ويقول "ها أنا ذا"... ثم يمضي في حال سبيله... ويشيرُ والت ويتمان إلى أن أخطر الأمراض هو ذاك الذي انتشر في الأدب، وفي المدارس والجامعات، وفي المنابر السياسية، وغيرها، والذي يمكن تسميته بـ"حبّ الظهور"، والرغبة الدائمة في الحضور، حتى ولو كان هذا الحضور من دون نفع ولا فائدة، بل قد يكون مُضحكًا ومثيرًا للسخرية والشفقة.




في الرابع من شهر أغسطس/ آب من السنة المذكورة، على الساعة السادسة مساء، مُتجولًا كعادته، يقف والت ويتمان مُتأمّلًا الأضواء والظلال، وتفاعلاتها النادرة على أوراق الأشجار وعلى العشب. وهنالك ألوان خضراء شفّافَة، وألوان رمادية في أبّهَة الغروب ولمعانه. والأشعّة البراقة مَقْذُوفَة الآن على عدد من الأماكن الجديدة، أسفل جذوع الأشجار. وهي تُغرقُ في ضوئها القوي، الخُشُونةَ الجديدة والقديمة للبراميل، مانحة لأحاسيس الشاعر ومشاعره "تعابير مُدهشة من السحر الصامت والمُكثّف". ومفتونًا بكل هذه الألوان، وبكل هذه الأضواء، وبكل هذه الظلال التي تتجلّى عند غروب الشمس، يتذكر والت ويتمان أساطير تقول بأن هنالك من وقعوا في حبّ شجرة، وأنهم بلغوا ذروة الانتشاء أمام جمال طبيعيّ قد يكون الجمال الأرقى والأسمى، أي الجمال الرباني.
ثم يترك صاحب "أوراق العشب" الأشجار ومفاتن الغروب ليتحدث عن الأرض، الأرض التي تكون بنّية اللون في الفترة الفاصلة بين الشتاء والربيع. في الليل تهطل أمطار غزيرة ليطلع النهار مُعطّرًا بروائح التراب المبلل. عندئذ يخرج من أعماق الأرض دود أحمر، وتزداد الأوراق الميّتة سوادًا، وتظهر بعض نُتف العشب، وتنتصب الأشجار بقامات عارية، وبمظاهر مختلفة تمامًا عن مظهرها في الصيف، أو في الربيع. وهنالك فتى قويّ البُنيَة يُصفّرُ مُشجّعًا الجياد أثناء الحرث.
في الخامس من شهر أيلول/ سبتمبر1877، على الساعة الحادية عشرة صباحًا، يلجأ والت ويتمان إلى شجرة بلّوط، ليحتمي بها من مطر فاجأه أثناء التجوال.  وكعادته، هو خرج في ذلك الصباح ليقوم بتمارينه الرياضية بهدف تقويه عضلاته آملًا أن تمدّه الأشجار بشيء من نَسغها ليستعيد حيويته ونشاطه. وهو يكون سعيدًا عندما يستنشق هواء نقيًّا على ضفاف جدول. وفي أماكن أخرى هو يلتحم بأغصان الأشجار، وبالنباتات، ليشعر أنه أصبح منها وإليها، فلا فرق بينه وبينها. إلاّ أن المطر منعه من القيام بتمارينه الرياضية، فظلّ منتصبًا تحت شجرة البلوط يُراقب السماء المُلبّدَة بالغيوم، ومُستنقعًا، ومساحة من العشب مُبقّعَة بازهرار حليبيّ للجزر الوحشي. وبعيدًا صوت فأس. غير أن والت ويتمان كان يشعر بالسعادة في قلب هذا المشهد الرتيب. كما أنه كان يشعر بالسعادة لأنه وحيد، بحيث لا يرغب في قدوم أيّ أحد، حتى ولو كان أعزّ صديق، ليفسد عليه سعادته هذه. ولعل ذلك يعود إلى أنه يشعر في كل يوم بأن التحامه بالطبيعة يزداد عمقًا ومتانة، وأنه لم يعدْ إنسانًا يفكر ويتكلم، بل غصن شجرة، أو جذعها، أو جدولًا ينساب هادئًا وسط حقل، أو عشبة، أو زهرة برية. وهو لا يحتاج إلى العلوم لفهم مثل هذه المشاعر. يكفيه ما قاله الفيلسوفان الألمانيان شيلينغ، وفيخته، بشأن التناغم بين الذات والطبيعة الموضوعية، لكي يستغني عن كل التفاسير الأخرى: "على مدى فصلي الصيف الماضيين، غذّت الطبيعة الموضوعية جسدي المريض وقوّته. كما غذّت روحي المريضة وقوّتها، كما لم يحدث قبل ذلك أبدًا. شكرًا أيها الطبيب اللامرئي لمعالجتك لي بالصمت وبالمباهج. نهارك وليلك، مياهك وهواؤك، ضفافك، وهذا العشب، وهذه الأشجار، وأيضًا هذا النّجيل".
في فقرة أخرى من اليوميات، بتاريخ الخامس والعشرين من شهر حزيران/ يونيو1877، يتحدث والت ويتمان عن طائر غريب بحجم مقْطُوشة. وهو يعتقد أنه صقْر أبيض بجناحين أسودين. وله صوت قوي وموسيقيّ يكاد يكون شبيهًا برنين النواقيس. وهو يطلقه بين وقت وآخر من فوق قمة شجرة تتمدّدُ أغصانها فوق الماء. ظل والت ويتمان واقفًا يُراقبه، ثم انطلق ذلك الطائر الغريب ليحطّ بالقرب من الجدول. لكنه سرعان ما طار من جديد مُفْردًا جناحيه من دون أن يقوم بأيّ حركة في الفضاء. بعدها راح يقوم بدورات كما لو أنه يرغب في إسعاد الشاعر بذلك. وفي لحظة ما، اقترب منه، فرأى والت ويتمان منقاره المعقوف، وعينيه القاسيتين اللتين لا تتعبان ولا تملان...

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.