}

هاينر مولّلر وجراح التاريخ الألماني

حسونة المصباحي 27 مايو 2024
استعادات هاينر مولّلر وجراح التاريخ الألماني
هاينر موللر (1929 ــ 1995)

عقب مرور 6 أعوام على انهيار جدار برلين عام 1989، وتحديدًا في الثلاثين من شهر كانون الأول/ ديسمبر 1995، فقدت ألمانيا هاينر مولّلر، الذي يعده رجال المسرح، ونقّاده، خليفة بريشت، وأحد أكبر كتّاب الفنّ الرّابع في النّصف الثاني من القرن العشرين. فقد أعاد هذا الكاتب العاشق للسيجار الكوبي كتابة الأساطير القديمة لتكون متطابقة مع قضايا العصر الحديث.
وُلد هاينر مولّلر في منطقة "السّاكس" عام 1929، في العام "الأسود" نفسه الذي اكتسح أوروبا، وساعد النّازييّن على التّغلغل في أوساط العاطلين، والمفلسين، وضحايا الأزمة الاقتصاديّة العالميّة. كانت والدته تعمل في معمل لصناعة النسيج. أمّا والده فكان اشتراكيّا. لذا تمّ اعتقاله من قبل الميليشيّات النّازيّة حالما استلم أدولف هتلر كرسيّ الحكم عام 1933. ظلّ مشهد اعتقال الأب حاضرًا في ذاكرة الطّفل، وحين كبر راح يصفه، ويرويه من خلال أصوات مرعبة تشقّ اللّيل، وصوت أبيه الذي كان يناديه يائسًا، ومفجوعًا. أمّا الطفل فيتصنّع النوم، ولا يجيب. لذا ظلّ الإحساس بارتكاب جريمة الخيانة مبكّرًا يعذّبه، ويؤرّقه حتى النهاية: "31 كانون الثاني/ يناير، 1933. الرابعة صباحًا. والدي الذي كان عضوًا دائمًا في الحزب الاشتراكي ــ الديمقراطي الألماني تمّ اعتقاله وهو في فراشه. استيقظت. السماء خلف النافذة سوداء. وقْع خطوات. في ناحية مّا، كتب تُلقى على الأرض. سمعت صوت والدي وكان أكثر صفاء من أصوات الغرباء. تركت الفراش، وتوجّهت إلى الباب. من خلال الفتحة، رأيت رجلًا يصفع والدي. مرتجفًا والغطاء يلفّ جسدي حتى الذّقن، كنت في الفراش عندما فتح باب غرفتي. كان والدي خلف الرجال الغرباء ذوي القامات الفارعة، والذين كانوا يرتدون أزياء رماديّة. كانوا ثلاثة. أحدهم كان يشدّ على الباب بيده. سمعته ينطق باسمي بهدوء. لم أجب وظللت هامدًا. ثم قال والدي: "إنه نائم!". سمعتهم يأخذونه، ثم سمعت وقع خطوات والدتي وهي تعود وحيدة". بعد أشهر، أطلق سراح الأب، فانتقل مع أسرته الصّغيرة إلى "فارن" في "ماكدوبورغ". وهناك أمضى سنوات البطالة تاركًا ابنه يلتحق بـ"الشبيبة الهتلريّة" لكي يرتكب "خيانة ثانية". كما ساعده على كتابة موضوع إنشائيّ فيه يمجّد "الأوتوسترادات" التي كان يبنيها النّازيّون من أجل مجد الرّايخ الثالث. مع ذلك، ظلّ الوالد محافظًا على قناعاته الاشتراكيّة".




وفي عام 1941، تمّ إيقاف والد مولّلر من جديد ليرسل إلى فرنسا ضمن كتيبة عسكريّة تأديبيّة. وفي ما بعد، سيكتب مولّلر: "الأب الذي مات كان يمكن أن يكون أبًا جيّدًا. الأفضل. الأب ولد ميّتًا. دائمًا ينبت عشب على الحدود. العشب لا بدّ أن يجتثّ من جديد... العشب الذي ينبت على الحدود". وفي قصيدة أخرى سيكتب: "كم كنت أرغب في أن يكون والدي قرشًا. ويكون قد مزّق أربعة صيّادي حيتان. وفي دمهم كنت أحبّ أن أتعلم السباحة. والدتي كانت حوتًا أزرق. اسمي لوتريامون. متّ في باريس عام 1871 مجهولًا".



في عام 1944، جنّد مولّلر رغم أنه لم يدرك بعد سنّ البلوغ، والتحق بالجبهة ليعيش تجربة مريرة تحت قصف طائرات الحلفاء في منطقة هامبورغ: "كانت الطائرات تمرّ فوقنا على علوّ خمسة عشر مترًا. وبسبب قصفها الشديد لنا، كان علينا أن نختفي في أيّ حفرة تعترضنا. تلك كانت تجربتي في الحرب. وكان ذلك كافيًا بالنسبة لي". وفي قصيدة له كتب يقول مُستحضرًا المحرقة التي تعرّض لها اليهود:
اليوم أنا منكبّ على إخراج "تريستان"
أسكن شقة عصريّة في مدينة بايرويت
الشقّة نظيفة كما لم أر لها مثيلًا من قبل
كل شيء في مكانه:
السكاكين والملاعق والشّوْكات والصحون والمقلاة والقدور والكؤوس والسرير لشخصين
والدشّ Made in Germany يوقظ الأموات. على الحيطان رسوم زهرية وألبية (نسبة الى جبال الألب ــ المترجم) رديئة.
النظام سائد، حتى الخضرة خلف البيت مرتبة بعناية
الشارع صامت. في الواجهة Hypobank
عندما فتحت النافذة في المرة الأولى: رائحة الصابون
البيت والحديقة ومدينة بايرويت رائحة صابون
أعرف، الآن، قلت أمام الصمت، ما معنى أن نقيم في الجحيم
ومعنى ألاّ تكون ميّتًا أو قاتلًا
هنا ولد "أوشفيتز" من رائحة الصابون.
في عام 1951، غادر والد مولّلر إلى غرب ألمانيا. أمّا هو فقد فضّل البقاء ليعيش في ظلّ النّظام الشيوعي في ما أصبح يسمّى بـ"ألمانيا الشرقيّة". وعندما سئل في ما بعد عن سبب اختياره ذاك، أجاب قائلًا: "الضّرائب في الشرق أقلّ ثقلًا من الضّرائب في الغرب". وبعد صمت قصير، أضاف قائلًا: "هل تطلبون من فرنسيّ مثلًا جوابًا لماذا فضّل البقاء في فرنسا؟". وها هو في برلين الشرقيّة يعمل في الصحف بشكل منتظم، وينضمّ إلى اتحاد الكتّاب هناك، ويحاول أن يكتب. وفي هذه الفترة من حياته، كان يبدي تأثرًا واضحًا ببريشت. وفي قصيدة مهداة إلى هذا الأخير كتب يقول:
حقّا لقد عاش في أزمنة مظلمة
الأزمنة أضيئت
والأزمنة أظلمت
عندما يقول الضوء أنا الظلام فقد نطق بالحقيقة
وعندما يقول الظلام أنا الضوء فهو لم يكذب...
عقب وفاة بريشت عام 1956، نشر مولّلر نصًّا حمل عنوان "الصّليب الحديديّ"، وأصبح أحد أعضاء أسرة تحرير مجلّة "الفنّ الشّابّ". ومع زوجته إنغة كتب مسرحيّة، وحصل على جائزة هاينريش مان. وعندما انقسمت برلين إلى شطرين، منعت مسرحيّته الثانية "المهاجرة" فتمّ طرده من اتحاد الكتّاب، وانتحرت زوجته. غير أن مولّلر لم يصبْ بالقنوط، بل واصل العمل مُستندًا إلى تراث الإغريق في هذه المرّة. وفي مطلع السبعينيات غزت مسرحيّاته مسارح غرب ألمانيا، وعدد من العواصم الأوروبيّة، خصوصًا باريس، وزيوريخ...



وخلال عام 1971، قدّم مولّلر مسرحيّة شكسبير الشهيرة "ماكبث"، غير أن الرقابة الشيوعيّة أصدرت قرارًا بمنعها نظرًا لنزعتها التشاؤميّة، المناقضة لـ"التّفاؤل الاشتراكي". وعندما فرّ الشاعر، والمغنيّ الشعبيّ الشهير، فولف بيرمان، إلى غرب ألمانيا احتجاجًا على سياسة الحزب الشيوعي، سانده مولّلر، غير أنه رفض مغادرة برلين الشرقيّة. ورغم المضايقات الكثيرة التي كان ضحيّتها، ظلّ يتمتّع بهامش من الحرية. وقد سافر إلى أميركا، وفرنسا، وسويسرا، وإلى بلدان أخرى ليحضر عروضًا لمسرحيّاته. وبعد انهيار جدار برلين عام 1989، صرّح مولّلر بأنه لم يكن معاديًا للاشتراكيّة، بل كان "مؤمنًا بها إلى حدّ مّا". بسبب هذا التّصريح، شنّ عليه بعض المثقفين الألمان هجومًا عنيفًا متّهمين إيّاه بـ"العمالة" لجهاز المخابرات الشيوعيّة "ستازي" خلال فترة النظام الشيوعي. إلاّ أن مولّلر لم يتأثّر بالتّهمة، وظلّ يشرب الويسكي، ويدخّن السيجار الكوبي الفاخر غير عابئ بالعاصفة. وعندما ألحّ عليه أصدقاؤه طالبين منه الردّ على التّهم، اكتفى بالقول: "نعم كانت السّلطات الشيوعيّة تطلب منّي من وقت إلى آخر رأيي في هذه القضيّة، أو في تلك... وكنت أجيب على الأسئلة رغم أنني كنت أعلم بأنني لا أتحدّث إلى ملائكة. كما كنت أعلم متى يكون الكذب مجديًا ومفيدًا"... عقب وفاة مولّلر، كتب أوليفييه شميدت يقول: "مولّلر بلا شك كاتب كبير بالمعنى الحقيقي للكلمة. فمن خلال قراءته لقدماء الإغريق، والرومان، وأيضًا من خلال قصائده، ومسرحيّاته، وقصصه القصيرة، نجح في أن يكون خليفة شرعيًّا لكلّ من بريشت، وبيكت، وجينيه، في الوقت نفسه. فلقد ابتدع لغة جديدة استطاع من خلالها أن يرسم صورة للعصر، وأن يكون شاعر الجراح الإنسانيّة في النصف الثاني من القرن العشرين".
وكان مولّلر قد قال ذات يوم: "في ألمانيا كلّ شيء يحدث إمّا قبل الأوان، أو بعد الأوان. وفي هذا المجال، تكفيني قولة ماركس: "الألمان لن يكونوا أحرارًا إلاّ يوم يرمون في القبر"". ولا نعرف إن كان مولّلر مات قبل الأوان، أو بعد الأوان، غير أن المؤكّد أنه عاش حرًّا في حياته رغم العراقيل، وكتب التراجيديا الألمانيّة بطريقة رائعة وفريدة من نوعها.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.