}

المرأة بالسيَر الشعبية: فارسة وحكيمة لا يُشق لها غبار

باسم سليمان 29 مايو 2024
استعادات المرأة بالسيَر الشعبية: فارسة وحكيمة لا يُشق لها غبار
عمل للرسام رودولف إرنست (1854-1932)
يحتوي التراث العربي على مدونة سردية كبيرة تُسمى السّيَر الشعبية، نذكر منها (عنترة – ذات الهمّة – الهلالية) على سبيل المثال. وتمتاز هذه السّيَر بأنّها قدّمت مخيالًا شعبيًا مختلفًا للتاريخ، عمّا عهدناه في الثقافة الرسمية للتراث العربي. فهي لم تسلك طريق الرواية المعتمدة للتاريخ، فقد كانت تخالفه في كثير من الأحيان، على الرغم من استنادها عليه. ففي السيرة الشعبية لحمزة البهلوان، يحلم كسرى أنو شروان صاحب التاج والإيوان في بلاد فارس حلمًا يقضّ مضجعه، فيفسّره له وزيره بُزرجمهر، بأن مُلكه سيذهب، وسيعيده إليه فارس عربي يظهر في بلاد الحجاز. هذه المخالفة للتاريخ الحقيقي لا يُقصد منها تزوير التاريخ، بل تحقيق مطالب نفسية اجتماعية للشعوب العربية الإسلامية التي فتحت بلاد فارس في مواجهة الحضارة الفارسية التي كانت تفوق العرب بالكثير. لقد كان التنافس بين العرب والفرس المهزومين إبّان الحركات الشعوبية، التي بدأت تظهر في العصر العباسي، يأخذ منحى تنافسيًا، ومن أجل ذلك تأتي سيرة حمزة البهلوان لتخلق فضلًا للعرب يسبق ظهور الإسلام، الذي سادوا به على بقية الشعوب ومنهم الفرس. يذكر الجاحظ في (التاج في أخلاق الملوك) بأنّ العرب أخذوا الآداب السلطانية عن الفرس من مُلك ومملكة وترتيب الخاصة والعامة وسياسة الرعية وإلزام كل طبقة حظّها في السلّم الاجتماعي. تشير مقولة الجاحظ إلى هذا التنافس المضمر بين الشعوب التي دخلت الإسلام، مع أنّه قد وحّد بين أتباعه.

هذه المنافسة كان يجب أن تظهر وخاصة أنّ الإسلام جعل التفاضل بين الشعوب والأفراد والأمم بالتقوى، وأسقط من يدهم أسباب التفوّق السابقة: "لا فضلَ لِعربِيٍّ على عجَمِيٍّ ولا لِعجَمِيٍّ على عربيٍّ ولا لأحمرَ على أسْودَ ولا لأسودَ على أحمرَ إلَّا بالتَّقوَى". لكن الأمر الديني هو رؤية مثالية لم يكن من السهولة تطبيقها في الواقع، فظلّت المنافسة قائمة، بهذا التفسير نفهم لماذا أعدّ الفردوسي للسلطان محمود الغزنوي الذي يعود بنسبه من جهة الأم إلى الفرس؛ كتاب (الشهنامة) الذي يحتوي سيرة الفرس من الأزمنة الأسطورية إلى الفتح الإسلامي، وكأنّه يقول له، لقد جمعت المجد من أطرافه؛ أصالة المحتد والتاريخ والإيمان بالإسلام، وبذلك خطب ودّه.

ما نريد قوله من هذه المقدّمة أنّ السّيَر الشعبية لم تكن مجرد تخيل مجاني يهدف إلى المتعة والتسلية فقط، فسيرة (علي الزيبق) تُظهر طبقة العوام وفضلها من شطّار وزعّار وعيّار – صفات ذم كان قد أطلقها مؤرخو السلطة على العوام – والذين كان لهم دور في الانتفاضات الشعبية التي هدّدت السلطات في بغداد والشام ومصر، حيث ذكرهم مؤرخو السلطات بالكثير من التشفّي والحقد، فجاء ردّ هذه الطبقة الشعبية العامية بإيجاد أبطال شعبيين متخيّلين، وإن كان لبعضهم أثر واقعي كعلي الزيبق، إلّا أنّه أصبح في السيرة بطلًا شعبيًا يقف في وجه مظالم مقدّم الشرطة في مصر صلاح الدين الكلبي، حتى نال منه، وأستطاع أن يكون مقدمًا على مصر، بل إنّ هارون الرشيد أعطاه مقدمية بغداد. ونضيف إلى ذلك بأنّ هؤلاء الشطّار والعيّار استطاعوا تحقيق الأمن والعدالة من شرق الدولة الإسلامية إلى غربها، حتى أنّهم أنجزوا وحدة لم تعرفها في تاريخها.

لقد كانت هذه السّيَر حاجة داخلية لطبقة العوام، لتكون على ساحة التاريخ، وإن كان بالخيال. ولو قدّر لغوستاف لوبون أن يلحظها لاعتبر السّيَر الشعبية العربية أول حركة تاريخية للجمهور غيّرت الواقع، لكن على صعيد الخيال، قبل أن تغيّره الجماهير فعلًا في أوروبا. وهو يخالف المفكّر (سيجهيل/ Sighele) الذي كان يعتبر الجماهير مجرمة بطبيعتها. ولا يختلف قول سيجهيل عن رأي الثقافة العربية التراثية بالعامة، فقد كانت تصف العامة بأنّهم دهماء وحتى بقر. يقول لوبون في كتابه (سيكولوجيا الجماهير): "إنّ الميزة الأساسية للجمهور هي انصهار أفراده في روح عاطفية مشتركة تقضي على الفروق الشخصية". وبعد أن انتهى من تحديدها، شرع في شرح كيفية قيادتها عن طريق التحريض، والدعاية، والقائد الملهم. ومن ثمّ أنّ الجماهير، هي من تستخدم المجاز والصور الموحية، لذلك يخطئ القائد السياسي عندما يخاطبها بالحقائق العقلية، بل عليه أن يوجّه خطابه إلى أحاسيسها ومشاعرها بالمقولات الحماسية غير العقلانية؛ وهذا ما كانت تفعله السّيَر.

بمكان ما نلحظ كيف استطاع عنترة أن يقود قبيلته لمجدها، وحمزة البهلوان كذلك، وأبو زيد الهلالي وعلى الزيبق، فهم بالنسبة لهؤلاء الجموع أبطال يسوقهم القدر إلى مجدهم.

بعد هذا التقديم المطوّل سنتطرق إلى دور المرأة في تلك السّيَر، وخاصة أنّها منحتها بطولة سيرة كاملة هي (ذات الهمّة) التي فتحت القسطنطينية على زمنها وبقيادتها.

لقد غيّبت المرأة في التراث العربي، وهي إن ذكرت، فيأتي ذكرها من وراء حجاب الأعراف والتقاليد. وإن كان لبعض النساء ذكر، فقد كان ممنوحًا لها تبعًا لزوجها أو أخيها أو ابنها، لكن مجرد شذرات، فلا تقوم لوحدها. وخاصة أنّ النص الديني، كما فسّرته الثقافة الذكورية، استخدم لقمع المرأة وجعلها بمثابة العورة التي يجب سترها. فلا الشعراء الذين تغزّلوا فيها منحوها جانب المبادرة، فقد ظلّت المعشوقة لا العاشقة، حتى أنّ كلمة العشق كانت مستهجنة في التراث العربي لأنّها تخصّ الأنثى، وكما تقول رجاء بن سلامة في كتابها (العشق والكتابة) فإنّ كلمة العشق تعود إلى الناقة التي تحنّ إلى فحلها وتظهر هذا التوق بجلاء؛ وهذا كان مستهجنًا من قبل الثقافة الذكورية، إذا أقدمت عليه الأنثى. وعلى الصعيد السياسي تظل مقولة: "لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة" التي قيلت عندما سُمع بأنّ الفرس ولوا أمرهم لابنة كسرى. لقد كانت هذه المقولة مدار تفسيرات كثيرة، لكنّها كانت فاعلة في تنميط المرأة في التراث العربي.

لقد قسمت النساء إلى حرّات وجوارٍ، فأكثر ما ذكره التراث عن المرأة كان يخصّ الجواري؛ سواء في الشعر والقصص والأخبار وغير ذلك. أمّا المرأة الحرّة، فبالكاد تذكر. وهنا هل نفهم بأنّ (ألف ليلة وليلة) جاءت لتردّ الحيف التاريخي عن الجارية، فأكثر القصّ في الليالي يسرد حيوات الجواري اللاتي استطعن بذكائهن ومكرهن وكيدهن أن يتفوّقن على الرجال. وإن كان من مثال لا يُرد، فقصة الجارية (تودّد) التي بزّت العلماء والفقهاء ورجال الأدب في حضرة هارون الرشيد حتى أذلتهم وأظهرت جهلهم. والأهم من ذلك، بأنّ ألف ليلة وليلة أوجدت قاعدة جمالية، بأنّ الحكاية تنجي من الموت! فالحق في إبداء الرأي، سواء بذكر قصة أو سيرة أو حكمة يقتنص منها المحكوم بالموت إعجاب السلطان، ستمنحه الحياة. هكذا استطاعت شهرزاد أن تنصف الجارية في المجتمع العربي قديمًا. ولربما لم تكن تهتم السلطات الذكورية العربية بهذا النصر الذي قدمته شهرزاد للجارية، فهي تظل مملوكة ولا تقارن بالمرأة الحرّة. وهنا تأتي السّيَر لتقف مع المرأة الحرّة من الجور الذكوري.

ذات الهمّة

إنّها ذات الهمّة، صاحبة السيرة التي تتجاوز الستة آلاف ورقة، فاتحة القسطنطينية على زمن الخليفة المعتصم، فمن هي؟
إنّها فاطمة بنت مظلوم بن الصحصاح بن جُندبة بن الحارث الكلابي. كان الحارث الكلابي زعيم قبيلة بني كلاب، وهو زعيم كبير تدين له القبائل في الجزيرة العربية. من هذا المنطلق تبدأ السيرة بالتأسيس لولادة البطلة عبر سلسلة من الحوادث الصعبة والنساء القويات اللاتي يرفضن الضيم، فجدتها (الرباب) تهرب إثر موت زوجها كي لا تسترق أو تقتل، حيث نهضت القبائل التي غزاها الحارث تطلب الثأر من قبيلة بني كلاب بعد موت الحارث. وأمام هذا الواقع الجهنمي تشدّ الرباب رحالها نحو ديرة أهلها مع عبدها، الذي يطمع فيها ويحاول اغتصابها، فتقاومه بشدّة، حتى يفاجئها المخاض، وتلد ابنها في تلك اللحظات العصيبة. وإثر ذلك يقتلها عبدها ويهرب، وقبل أن تموت تعلّق تميمة على عنق ابنها ليعرف من هو عندما يشبّ. وتدور الدوائر ويترعرع ابنها (جندبة) في قبيلة أخرى، وعندما يعرف نسبه يعود إلى قبيلة بني كلاب ويعجب بأنثى تسمى (قتّالة الشجعان) فهي فارسة في الميدان ولا ترضى زوجًا لها إلّا من يستطيع أن يهزمها في الضِراب والطعان. ومن ثم ينتصر عليها جندبة ويتزوجان ويسودان القبيلة. ويحدث أن ينقذ جندبة وزوجته أميرة أموية من هجوم قطّاع الطرق، ويغفرانها حتى تصل إلى دار أبيها، الخليفة عبد الملك بن مروان، فيطمع ابن الخليفة بقتّالة الشجعان، ويدبر مقتل الأمير جندبة ويحاول بشتى الوسائل أن يصل إلى زوجته. وأمام رفضها له وتعييره بأخلاقه السيئة يقتلها. وقد كان ولد لجندبة طفل يسمى ا(لصحصاح) يصبح فيما بعد قائدًا كبيرًا يشارك في الدفاع عن الثغور الإسلامية ضد الدولة البيزنطية، ويتزوج الصحصاح ابنة عمّه بعد مغامرات وصعاب كثيرة، فتنجب له ولدين (ظالمًا ومظلومًا)، يتقاسمان سلطة القبيلة. ولكي لا يحدث خلاف بين الأخوين أقرّت القبيلة أن تكون السلطة مقسّمة بينهما إن كان أول أطفالهما ذكرًا. وحدث أن أنجب ظالم ذكرًا اسماه (الحارث). وأنجبت امرأة مظلوم فتاة سميت (فاطمة). وأمام هذا الواقع كسرت شوكة مظلوم، وتمنّى لو أنّ فاطمة تموت، لذلك عهد بها إلى مربية وأخفى مولدها عن الناس. وحدث أن هاجمت قبيلة بني طيء قبيلة بني كلاب وسُبيت فاطمة وخادمتها. استرد بنو كلاب الغنائم من قبيلة بني طيء بهجوم مضاد، وعندما لم يجد مظلوم ابنته ومربيتها دخل السرور قلبه وانشرح صدره. تنشأ فاطمة في قبيلة بني طيء وتصبح راعية أغنام عند أحد سادات بني طيء، وعندما تكبر وتظهر ملامح الجمال عليها، يحاول أحد كبار بني طيء أن يغتصبها، فهي مجرد عبدة، ولا أحد يكترث لأمرها، لكن فاطمة كانت روحها وثّابة، فقد تعلّمت بنفسها الفروسية وضرب السيف والطعان بالرماح. وفي الوقت نفسه كانت عابدة مخلصة لله تقوم الليل والنهار. قتلت فاطمة المعتدي عليها وذهبت حججها بالدفاع عن نفسها أدراج الرياح. فتكلّف سيدها دفع ديّة كبيرة لأهل القتيل، وهمّ أن يقتلها. وهنا قالت له، أعطني سلاحًا وفرسًا وسأغنيك لولد ولدك. وطفقت فاطمة تغزو القبائل من حولها وتجلب الغنائم والأسلاب إلى سيدها حتى ذاع صيتها وسميت (داهية بني طيء). ويحدث أن تغير فاطمة على قبيلة أبيها وتأسره، وهنا يفرح الطائيون كثيرًا، ويتجهزون لقتل سيد بني الحارث. وأمام ذلك تخبرها مربيتها بأنّ مظلومًا هو والدها، فتنقذه وتعود به إلى قبيلتها وتترأس غزواتها حتى يصبح أبوها غنيًا جدًا.

أكثر القصّ في الليالي يسرد حيوات الجواري اللاتي استطعن بذكائهن ومكرهن وكيدهن أن يتفوّقن على الرجال


هذا الواقع الجديد الذي استجدّ على ظالم دفعه للتفكير بتزويج ابنه الحارث من فاطمة وذلك لأسباب معينة، كما جاء ذكرها على لسان ظالم: "وقد عزمت أن أزوّجه بها لوجهين: الأول لجمالها، والثاني إنّها إذا صارت له، انكسرت حرمتها، وقلّ نشاطها وذهبت قوتها، وبانكسارها نبلغ من أبيها سائر الأغراض". ترفض فاطمة ابن عمّها الحارث، ومن ثم تشترط أمام الضغط أن يهزمها في الميدان، فتهزمه شرّ هزيمة، لكنّ تحرّك البيزنطيين على الحدود الشمالية يستدعي أن تحضر ذات الهمّة لدى الخليفة العباسي في بغداد ومعها أسياد بني كلاب، وهناك بضغط من الخليفة توافق ذات الهمّة على الزواج من ابن عمّها مع أنّها أخبرت الخليفة بأنّها: "ما خُلقتُ إلّا للنّزال، لا للفراش ولا للزواج، ولا يضاجعني سوى سيفي وعُدّة حربي، وكُحل غبار النّجع مُرادي". ترفض ذات الهمّة أن تضطجع في فراش الزوجية، لكن الحارث يدبر مكرًا يجعلها تحمل منه. وبعد أن تمرّ شهور الحمل تنجب بطل السيرة الثاني (عبد الوهاب) الذي كان أسود البشرة مع أنّ والديه أبيضان. يرفض الحارث أبوّة عبد الوهاب ويتهم ذات الهمة بأنّها اضطجعت مع عبدها. كان بإمكان فاطمة أن تقتل ابنها لكي تتخلّص من هذه التهمة، إلّا أنّها تحتضن عبد الوهاب وتربيه بأخلاق الفرسان وتشدّ الرحال لتخوض غمار الحرب ضد البيزنطيين، حيث ترتب الأقدار أن تكون أول معركة ينتصر فيها العرب على البيزنطيين في موقعة ملطية، حيث كانت قائدة جيش الأروام تُدعى (ملطية) والتي سميّت القلعة باسمها. وكانت بقوة ذات الهمّة، إلّا أنّ الجانب الروحي الكبير عند ذات الهمّة يحسم المعركة لصالحها.

قلنا بداية إنّ السّيَر الشعبية أنصفت المرأة الحرّة في مواجهة القمع الذكوري. وإذا أردنا تحليل المختصر الذي ذكرناه عن سيرة ذات الهمّة نقف عند مجموعة من النقاط: الأولى، موضوعة وأد البنات التي تمت بشكل آخر في السيرة عبر إخفاء مولد فاطمة وسعادة أبيها بسبيها من قبل قبيلة بني طيء. ويترتب على وأد الأنثى معنويًا عدم مساواتها مع الذكر، فلقد خسر مظلوم سيادة القبيلة ليسودها أخوه ظالم وأولاده من بعده، فقط لأنّه أنجب أنثى. الثانية، كانت عن الزواج، فقد رأينا قتّالة الشجعان ترفض أن تتزوج إلّا من كفءٍ لها أو أكثر؛ لذلك كانت ترفض من تهزمهم في الميدان حتى جاء الأمير جندبة. وهذا ما فعلته فاطمة فقد هزمت ابن عمّها الحارث ولم تتزوجه إلّا بضغط من الخليفة ومشورة من الفقيه عقبة السلمي الذي كان دومًا خنجرًا مسمومًا في خاصرة المسلمين وقبيلة بني كلاب، لكنّه ينتهي مصلوبًا على باب القسطنطينية بعدما فتحت بقيادة ذات الهمّة. 

إنّ المضمر في هذه النقاط يكمن في أنّ عدم قيام المرأة بتفعيل طاقاتها وقدراتها، لا يعود إلى طبيعتها الجسدية والعقلية، بل لأنّ المجتمع الذكوري قد حرمها القدرة على ذلك، فقد كان يئدها في الجاهلية، ويخفيها خلف أبواب البيوت وشبابيكها فيما بعد. ومن ثم سحب منها حقّها الطبيعي في أن تكون صنوًا للذكر. لقد أثبتت السيرة على أنّ المرأة قادرة أن تكون ما تريد؛ ولأجل ذلك ندّدت السيرة بالسلطة السياسية والدينية، فلقد ازدرت الخلفاء العباسيين ولم تكرّم إلّا المعتصم بالله، ذلك الخليفة الذي استجاب لصرخة امرأة سباها البيزنطيون، فقالت: "وامعتصماه"؛ هذا من جانب السلطة السياسية. أمّا الدينية، فقد صوّرت السيرة رجل الدين فاسدًا على عكس المبادئ التي يقوم عليها الدين، فلقد فصلت السيرة بين الدين ورجاله. وأخيرًا تثبت السيرة فضل ذات الهمّة، والأحرى المرأة، بالقول بأنّ البيزنطيين كانوا يعتبرون ذات الهمّة نصف المسلمين وإذا اجتمعت مع ابنها عبد الوهاب والبطّال- أحد أبطال السيرة الكبار- أصبحوا كلّ المسلمين.

"وراء كل رجل عظيم امرأة"

قبل أن ينطق الإمبراطور الفرنسي بهذه العبارة، فقد تحقّقت فعلًا لا لفظًا في سيرة عنترة من خلال عبلة! تعتبر سيرة عنترة العبسي رمزًا لتحرير الذات من ذل العبودية. لم يكن عنترة ليدرك أنّ إقصاءه من المجتمع القبلي نهائيًا، يعود لمجرد أنّ أباه لم يعترف بنسبه لأنّه ابن جاريته السوداء؛ لو لم يقع في حب ابنة عمّه عبلة ومبادلتها إياه هذا الحب. وأمام هذا الحب كان على عنترة أن يصبح حرًا بإثبات فروسيته وذوده عن القبيلة وتم له ذلك. لقد كانت عبلة وسيلته للانضمام لمجتمع قبيلة عبس، ومن خلالها للعرب أجمعين ليصبح بطلهم المطلق وهو الأسود العبد. وحتى يتحقّق حلمه بالزواج من عبلة كان عليه أن يؤمّن مهرها المقدّر بألف من النوق العصافيري التي يملكها النعمان عامل كسرى على بلاد العرب. إنّ تأمين المهر سيقود عنترة إلى هزيمة النعمان، وكسر شوكة كسرى تباعًا، وتحريره العرب من السيطرة الفارسية. لقد أكدت سيرة عنترة بأنّ تحرّر الفرد سيقود إلى تحرّر المجتمع. وأمام هذه الصعاب التي خاضها عنترة كان يحتاج إلى دافع لا يلين، ليس من داخله فقط، بل من خارجه عبر عبلة التي رفضت كل الذين تقدموا لخطبتها، دافعة عنترة إلى أن يحقّق حريته ومتطلبات مهرها، بل لم تكتف بذلك، بل حثته ليصبح من شعراء المعلقات، وهذا أمر عظيم! ولن تقبل العرب أن يكون عبدًا زنجيًا من شعرائها وفصحائها الكبار، حتى أنّ عنترة استشار عبد المطلب ونصحه بعدم الإقدام على هذه الخطوة لأنّها ستسبّب بلبلة عظيمة بين العرب، وهو معلول النسب من جهة أمّه الحبشية. لكن عبلة أصرّت، وطلبت الهجر إن لم يقدم عنترة على ذلك، قائلة له: "ما بالك تطيل فكرك وتتحير في أمرك، أتريد أن ترجع عمّا عزمت عليه، إنّني منذ اليوم عليك حرام، حتى تعلّق قصيدة على البيت الحرام". لقد أصبح عنترة من شعراء المعلّقات وكل ذلك كرمى لعيون عبلة. وقد أبان دور عبلة في حياة عنترة أحد شخصيات السيرة، وهو الربيع بن زياد مفسرًا للملك النعمان شخصية عنترة ودور عبلة في صناعتها: "اعلم أيّها الملك، أنّه ما جسر هذا العبد على ركوب الأهوال إلّا لعشقه لعبلة بنت مالك، فهي التي ترميه بالأمور الشداد". وكانت عبلة تصحبه بعد الزواج في معاركه ضد النعمان والفرس مشجعة إياه: "لا شلّت يداك، ولا كان من يشناك، يا فارس الزمان، وقاهر الشجعان، وقاتل كل عدو لئيم". وما إن يسمع عنترة صيحتها حتى ينتفض كالأسد، فيصف الراوي عنترة بعد صيحة عبلة: "وهذا عنترة لما سمع كلام عبلة زال التعب عنه والعناء، حتى كأنّه ما قاسى حربًا ولا قتالًا، ولا طعانًا، وقد تيقن أنّه ملاق وحده كل عساكر العجم غير هياب أو متخاذل".

لقد أبرزت سيرة عنترة تكامل المرأة والرجل في المجتمع، فلا قيام لأحدهما إلّا بقيام الآخر، فلم تكن المرأة في سيرة عنترة مجرد وسيلة للتناسل والمتعة، بل كانت عنصرًا جوهريًا على الصعيد النفسي والمجتمعي، فإذا كان عنترة تمثيًلًا لمطلب الرجال بالحرية والعدالة في مواجهة المستبدين مهما كانت صفتهم، نرى أنّ هذا المطلب لن يتحقّق إلّا مع نساء كعبلة، مهما كانت قوى الرجال. وإذا كان لنا أن نتساءل لِم لم يكن عروة بن الورد الصعلوك العادل والكريم والحقيقي غير المتخيل الذي (قسّم جسمه في جسوم كثيرة) هو بطل سيرة كسيرة عنترة، فالجواب يكمن في أنّ عروة كان ينقصه امرأة كعبلة. ولكي نفهم الفرق بين دافع عنترة المتمثل بعبلة، والدافع غير المتواجد لدى عروة، الذي يقول لزوجته في قصيدته المشهورة: 

أَقِلّي عَلَيَّ اللَومَ يا بِنتَ مُنذِرٍ
وَنامي وَإِن لَم تَشتَهي النَومَ فَاِسهَري.

بينما يقول عنترة:       

ولقد ذكرتك والرماح نواهل   
منّي وبيض الهند تقطر من دمي   
فوددت تقبيل السيوف لأنّها
لمعت كبارق ثغرك المتبسم.


صاحبة ربع المشورة

وأحيانًا أخرى ثلثها، إنّها (الجازية). لقد كانت الجازية زوجة الأمير (شُكر) في السيرة الهلالية. وعندما قرّر بنو هلال الهجرة إلى تونس أدركوا بأنّ تغريبتهم لن يُكتب لها النجاح ما لم تكن الجازية بينهم. ومن أجل ذلك تحايلوا على الأمير شكر أن يبعث معهم الجازية على الرغم من الحب الكبير بينهما والولد الذي كان ثمرة هذا الزواج، إلّا أنّ الجازية تضحي بكل ذلك من أجل قبيلتها، فهي تعلم أنّ سيف أبي زيد الهلالي لن يكون كافيًا. لقد كانت الجازية العامل الحاسم في تغريبة بني هلال، فعندما أرادوا أن يجتازوا نهر النيل منعهم الحاكم (الماضي بن مقرب)، لكنّه فتن بالجازية واشترط أن يتزوّجها. وافقت الجازية وفي ليلة العرس وبينما كان بنو هلال يعبرون، شغلت الجازية الماضي بن مقرب بالقصص والأحاديث حتى الصباح، فنزل إلى ديوان الحكم ولم يضطجع معها. وعندما تأكّدت الجازية من عبور بني هلال هربت والتحقت بهم. ولما فشل السيف في فتح أبواب مدينة تونس تنكّرت الجازية مع مائة من فتيات بني هلال بمظهر بائعات متجولات، وتنكر معهم أبو زيد، ودخلوا المدينة المسوّرة، ومن ثم فتحوا أبوابها. وعندما استأثر دياب بن غانم بالسلطة والغنائم تزعمت الجازية الأيتام من بني هلال الذين شتتهم وقتلهم دياب بن غانم حتى كبروا وقوي عودهم، فقادتهم للدفاع عن حقوقهم متنكّرة بزي فارس حتى ماتت في سبيل الحق والحرية.
قلنا بداية بأنّ للجازية ربع أو ثلث المشورة، لأنّ رأيها عبر السيرة كان هو من يحسم توجّهات القبيلة، فقد كانت بوصلتهم التي لا تخطئ.

*****

لم تكن المرأة العربية في السّيَر الشعبية إلّا حجر العقد في المجتمع، والتي من دونها سينهار القوس الذي يقوم عليه، هكذا نجدها فاعلة بشدّة في سيرة علي الزيبق ممثلة بأمّه، بالإضافة إلى زينب ودليلة المحتالة التي تسنّمت مقدمية بغداد. لقد أبانت السّيَر الشعبية عن جوهرية المرأة في المجتمع العربي على عكس الثقافة الرسمية، أسواء كان الأمر مع شهرزاد التي روّضت الوحش في الذكر، أو مع ذات الهمّة التي عبر شجاعتها وتقواها وإيمانها استطاعت أن تفتح معقل البيزنطيين، أو مع عبلة التي خلقت من عشقها فارس الزمان عنترة، أو مع الجازية التي كانت بيضة المشورة وسداد الرأي.

*كاتب من سورية.


الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.