}

أسواقٌ كانت كالأحلام في سورية

باسم سليمان 6 يونيو 2024
استعادات أسواقٌ كانت كالأحلام في سورية
(عن صفحة فيسبوك سوق الحميدية Souq AL-Hamidia)


لقد فتكت الحرب بالمدن السورية، فقتلت البشر ودمّرت الحجر، ونزعت عن جيد تلك المدن أسواقًا كانت كالحلي، وخاصة حلب ودمشق، بحيث لم يبق من بعض هذه الأسواق إلّا الذكريات وبعض الأسطر في الكتب، والصور التي تعبق بأشواقٍ إلى تاريخ مجيد اندثر بين ليلة وضحاها. لذلك كانت هذه البانوراما عن هذه الأسواق في هذا المقال، لربما يجد فيها السوري المقيم والمهجّر بعض السلع التي كان ينوي شراءها، أو يشيد أحد التجار دكانه في الخيال، فيجلس على بابه منذ الصباح الباكر منتظرًا موزّع الأرزاق الذي ينثر كرمه على السعاة في مناكب الدنيا.

اشتهرت بلاد الشّام وخاصة سورية، بأنّها قلب الطرق التجارية بين الغرب والشرق في التاريخ القديم، فمنها يتفرّع طريق الحرير إلى أوروبا وأفريقيا بعد أن يكون قد امتد على طول قارة آسيا من الشرق الأقصى إلى شرق المتوسّط. وتنتهي إليها من الجنوب رحلة الصيف من شبه الجزيرة العربية واليمن، وتبدأ منها بالمقابل رحلة الشتاء باتجاه الجنوب. وعندما دخلت بلاد الشام في الفتح الإسلامي، أقرّ المسلمون الأعراف التجارية التي اعتادوها في الحجاز، فالخليفة عمر بن الخطاب أوضح التصوّر الإسلامي عن الأسواق بالقول: "الأسواق على سنّة المساجد، من سبق إلى مقعده، فهو له حتّى يقوم منه إلى بيته، ويفرغ من بيعه". ولربما تكون هذه القاعدة في الأسواق المؤقّتة، كسوق الجمعة الذي يقام عادة في المدن الكبيرة والذي ذكر أمثاله في المدن السورية قتيبة الشهابي في كتابه (أسواق دمشق القديمة). كان هذا السوق يقام في صبيحة يوم الجمعة حتّى منتصف النهار يباع فيه كلّ شيء، أمّا مكانه فعلى امتداد جادة المدارس في حيّ الصالحية، ولقد ذكره أحمد العلاف في كتابه (أسواق دمشق في مطلع القرن). لقد كانت القاعدة التي أقرّها الخليفة عمر معمولًا بها حتى بدأ المسلمون يتشرّبون عادات البلدان التي دخلوها، فقد بنى الخليفة معاوية أول دارين للتجارة في المدينة المنورة، هما: دار القطران ودار النقصان، حيث بدأ التجّار يختصّون بأماكن معينة، كما ذكر السمهودي في كتابه (وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى). لقد اندثرت أسواق الجمعة، إبّان الحرب السورية، ولكنّها بدأت بالعودة على استحياء، غير أنها لا تقارن أبدًا بما سبق.

وقبل ذلك بكثير كانت تدمر رائدة في الأعمال التجارية، ففي ساحة الأغورا، التي تقع بين السورين التراثيين؛ الدفاعي والجمركي، كانت تُجبى الضرائب. وقد وجد هناك نقش لكل أنواع الضرائب التي فرضت على السلع التي تدخل المدينة. ومن الأقوال المأثورة التي سجلّها التاريخ عن تجار تدمر: "إذا أردت أن تصل تجارتك بأمان لأي مكان، فأودعها لدى التجّار التدمريين".

لا يمكن تشبيه أسواق سورية التراثية إلّا بلعبة الماتريوشكا الروسية، فما إن ترفع عنها لحظة الحاضر حتّى تتكشف لك حقب تاريخية عديدة عاشتها تلك الأسواق. فإذا وجّهنا نظرنا نحو أسواق دمشق ومنها سوق مدحت باشا، الذي يعتبر جزءًا من الشارع المستقيم الذي بناه الرومان في دمشق، يطالعنا ابن جبير بالخبر التالي: "ولها سوق، يعرف بالسوق الكبير، يتّصل من باب الجابية إلى باب شرقي. وفيه بيت صغير جدًا، قد اتخذ مصلى، وفي قبلته حجر، يقال: إنّ النبي إبراهيم، كان يكسر عليه الأصنام التي كان يعدّها أبوه للبيع".

وإذا أردنا أن نجلو تاريخه أكثر، نجد أن شهرته تأصّلت زمن المماليك، فقد سُقف بالخشب، ومن ثمّ بالحديد التوتياء في زمن الوالي العثماني حسين ناظم باشا بعدما أتى عليه حريق هائل، نتيجة الأعمال التوسعية، التي قام بها الوالي مدحت باشا.

حاليًّا ينقسم السوق إلى قسمين: المسقوف وتباع فيه الأقمشة الحريرية، كالصّايات والعباءات والكوفيات. وغير المسقوف وتصنع وتعرض فيه الأواني النحاسية، التي تُحلّى بالذهب والفضة بالإضافة إلى التحف والموزاييك. ومن هذا السوق تتفرّع أسواق جانبية: سوق الحرير، الخياطين، البزورية، الصوف.

سوق الحميدية 

يعتبر من أهم أسواق دمشق التراثية، ويذكر قتيبة الشهابي أنّه قد بُني في عام 1780 واستكمل عام 1884، فأصبح يمتدّ من باب النصر إلى باب البريد بمحاذاة سور قلعة دمشق الجنوبي. وهو مسقوف بالحديد والتوتياء وقد أعيد تجديده في عام 1920 بعد حريق كبير، وتتخلّل سقفه فتحات يتسرّب منها ضوء الشمس، وقد نتج بعضها نتيجة قصف قوات الاحتلال الفرنسي لدمشق. ولقد ذكره الحلّاق البديري باسم سوق الأروام نسبة لليونانيين الذين سكنوا دمشق. في حاضرنا، أصبح سوق الأروام جزءًا صغيرًا من سوق الحميدية تباع فيه المفروشات التراثية والسجاد القديم. وقد قال نعمان القساطلي عن سوق الأروام، في كتابه (الروضة الغناء في دمشق الفيحاء) بأنّه سوق للدلالين والنساء.

تتشعّب وتتفرع عدّة أسواق عن سوق الحميدية، الشريان الرئيس لأسواق دمشق التراثية، كسوق الحرير الذي يُسمى من قبل تجاره سوق: "تفضلي يا ست"، كناية عن إلحاح التجار في دعوة كلّ زبونة للدخول ومشاهدة الأقمشة والملبوسات. ويتقاطع مع سوق الحرير سوق الجرابات الذي تُباع فيه الحقائب الجلدية. وبالنسبة للتسمية لم ير الشهابي أثرًا للجرابات التي أخذ السوق اسمه منها. وهناك سوق البزورية/ الحبوب وغيرها الكثير الذي يتفرع عن سوق الحميدية. يحتوي السوق على الأقمشة الحريرية والأجواخ والمطرزات وأدوات الزينة والملبوسات النسائية وتنتشر فيه محال بيع المصنوعات النحاسية التراثية. ويمتد عن سوق الحميدية سوق نصري حيث تباع فيه (بوابير الكاز). هكذا نستطيع أن نشبّه سوق الحميدية بقلب دمشق التجاري.

ويذكر الشهابي بأنّه ما زال هناك حانوت يبيع حلوى تراثية، تسمى (بنْدِيرة) في سوق جادة بَحرة الدّفاقة. هذه السكاكر إن عرّضتها للضوء، تظهر كتابات في داخلها كـــ : الله – دمشق – الدفاقة. وقد قال صاحب الحانوت: إنّه قد استوحى ألوانها من الزجاج المعشّق للمسجد الأموي.

تتفرّع أسواق أخرى من سوق الحميدية وهي أقرب للأزقة نذكر منها سوق البورص الذي يجاور سوق العصرونية وسوق مردم بك. وكان مكانًا لدكاكين الصيرفة وبيع العملات، أمّا الآن، فتباع في حوانيته، الملبوسات النسائية وخاصة الجلابيات.

سوق باب البريد 

يعود إلى العصر المملوكي، فقد ذكره ابن طولون، كذلك فعل القساطلي، إذ اعتبره أحسن أسواق مدينة دمشق في وقتها، حيث كانت تباع فيه المنسوجات العربية والأجنبية. ولقد انكمش هذا السوق في زمننا الحالي بعدما استوعبه سوق الحميدية وأصبح عبارة عن سوق ضيق تباع فيه الكتب والقرطاسية.

ساحة سوق الخيل

كان يقع قديمًا شرق ساحة المرجة. ووجد له ذكر في العصر المملوكي، كذلك في العهد العثماني وأشار إليه كارل ولتسينجر في كتابه (الآثار الإسلامية في دمشق) بأنّه سوق للخيل والحمير والجمال، أمّا حاليًّا، فهو سوق لبيع الخضروات والفواكه، ويسميه الباعة بسوق علي باشا.

سوق النحّاسين

يتألّف هذا السوق من سوقين ضيقين مسقوفين بالحديد والتوتياء وله ذكر في العصر المملوكي والعثماني وما زال قائمًا إلى الآن. وتصنع به أدوات المطبخ النحاسية كالأطباق والمعاجن والحلل الكبيرة وقازانات الحمام. وانتشرت فيه حاليًّا النحاسيات التزيينية ومصبات القهوة ومناقل الفحم.

وهناك سوق المناخلية حيث تصنع المناخل. وجاء ذكره في العصر المملوكي والعثماني وحاليًّا تخلّى عن اختصاصه، فأصبحت تباع فيه لوازم الخشب والحدّادين والأنابيب وغير ذلك.

ونستطيع أن نستنتج أنّ أسواق دمشق المذكورة آنفًا وغيرها الكثير في دمشق كــ: سوق القباقبية – السلاح – النحاتين....، تخلّت عن تخصصاتها السابقة بشكل أو آخر وإنْ لم يزل بعضها يكافح كي تبقى الصناعات التراثية على قيد الحياة.

من أسواق حلب (Wikimedia Commons)


أسواق حلب القديمة، استنادًا لكتاب خير الدين الأسدي (أحياء حلب وأسواقها)

أخذت أسواق حلب تموضعها الحالي مطلع العصر العثماني. وقد كانت تجارة حلب القديمة متمركزة في الأسواق والخانات. وتعتبر أسواق حلب من أجمل أسواق مدن الشرق العربي والإسلامي لِمَا تمتاز به من طابع عمراني جميل إذ تتوفر نوافذ النور والهواء.

سوق الزرب

تعود تسميته إلى تحريف في اللغة نتج عن استعمال العثمانيين حرف الظاء بدلًا من الضاد العربية، فاسم السوق الأصلي: هو سوق الضرب، حيث كانت تضرب فيه العملة المعدنية في العهد المملوكي، ثمّ تطوّر تعبير سوق (الظرب) التركي ليصبح سوق الزرب. وحاليًّا تباع فيه المنسوجات وحاجات البدو.                         

سوق العطّارين

هو سوق الأبّارين تاريخيًّا، فقد كان سوقًا للعطارين، حيث تباع التوابل ومشتقاتها. حاليًّا تبدّلت مهنة العطارة لصالح تجارة الأقمشة، إلّا أنّ السوق بقي محافظًا على العطارة، فرائحة الفلفل والقرفة والبهار والزعتر الحلبي والبابونج تملأ الهواء.

سوق قره قماش

ينتهي هذا السوق بسوقي الزرب والعباءات، وهو غير مسقوف، فقد روي أنّ ملّاكًا كبيرًا هدمه في الأربعينيات ليبني على جانبيه بيوتًا سكنية فوق الدكاكين، والتي ما زالت ماثلة حتى اليوم. إنّ التجارة الغالبة في السوق هي تجارة الأقمشة. ولربما الاسم التركي (قره قماش)؛ أي القماش الأسود؛ يدلّنا على عدم تبدل وظيفة السوق القديمة حيث كانت تباع فيه الخِمارات والعباءات (الباشاية والملاية).             

سوق الدهشة

ويتفرّع من سوق قره قماش. وتعود تسميته  إلى الدهشة، التي كانت تنتاب الزبون، وهو يعاين جمال وروعة الأقمشة المعروضة والتي كانت تصدّر إلى الشرق والغرب. وما زال السوق أمينًا لتجارة الأقمشة. 

سوق الحِراج

كانت تباع فيه أنواع الفحم والحطب الناتجة عن معاملة الأشجار الحراجية. حاليًّا أغلب تجارته البسط والسجاد.

سوق الطرابيشية

يسمى أيضًا بسوق القاوقجية. ويقع على امتداد سوق الدهشة ومهنته التاريخية صناعة وبيع الطرابيش وقد اندثرت مع زوال عادة لبس الطربوش، وحلّت محلّه تجارة الأقمشة.

سوق الدراع

إنّ المهنة الحالية للسوق بيع وخياطة الأقمشة الرجالية. يتميّز هذا السوق بأسلوب خاص بالإنارة، إذ أنّ الخياطة تحتاج إلى إنارة مريحة للبصر، لذا فإنّ النور الوارد من الفتحات العلوية، كان يتم التحكّم به عن طريق لوحات عاكسة موضوعة تحت الفتحات يمكن تحريكها حيث تعمل على عكس النور الوارد من الأعلى، فتجعله منتشرًا بشكل مناسب، وسُمي السوق بهذا الاسم لأنّ الدراع هو واحدة القياس المحلية (يبلغ الدراع الحلبي 71سم).

سوق الصرماياتية

ويسمى بسوق النعال أو سوق القوافين، وأغلب تجارته ما تزال الأحذية الشعبية وبالأخص الأحذية الحمر، التي تشتهر حلب بصناعتها، ويتّصف هذا السوق بضيقه وصغر دكاكينه.

وهناك أيضًا سوق الحبال: يعرف بتجارة الحبال والخيش. وسوق الفرايين: لبيع الفرو. وثمة الكثير من الأسواق التي تجاور قلعة حلب وفي المدينة القديمة تهدّم أكثرها بسبب الحرب.

تتشابه الأسواق التراثية في سورية، فهي أشبه بالشرايين بين بيوت الحارات، حيث تطلّ عليها الجوامع والقلاع والمدارس التراثية وتتوسّطها الخانات والفنادق، إلّا أنّ الحرب التي دارت رحاها، قد أتت على بعض أسواق دمشق التراثية والكثير من أسواق حلب وغيرها من المدن السورية، فبعض أسواق حلب يرجع أصله إلى 300 ق. م.
تعتبر أسواق سورية التراثية من أطول وأقدم الأسواق المسقوفة في العالم، حيث أدرجتها اليونسكو على قائمة التراث المهدّد بالخطر نتيجة الأضرار الشديدة، التي لحقت بها جرّاء الحرب.

لا يمكن تعويض خسارة تلك الأسواق التراثية العابقة بروح التاريخ وأحلامه إلّا بعودة السلام والأمان والحريّة إلى سورية، كي تصدح أصوات البائعين من جديد، وتمتلئ تلك الأسواق بالأطفال والنساء والرجال، حيث يمتزج الماضي العريق بالحاضر الجريح وبالمستقبل المفعم بالأمل.

*كاتب من سورية.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.