}

الخيال أم الواقع: أيُّهما قادر على إبهارنا

فدوى العبود فدوى العبود 10 يونيو 2024
استعادات الخيال أم الواقع: أيُّهما قادر على إبهارنا
(فاتح المدرس)

في "شاعرية أحلام اليقظة"(*)، نقرأ العبارة التالية: "يحاول التخيّل فبركةَ مستقبلٍ له، وهو يبعدنا عن الدوامات الثقيلة للواقع". يمكن تأويل العبارة على وجوه عدة، أحدها الفرار من ثقلِ الحاضر نحو مستقبل مُختلق ومخترق بهذا الفزع من واقع غير مرغوب. وفي كل الأحوال، يفرد مؤلف "التحليل النفسي للنار" للخيال مساحةً كبيرة تبدأ بالصورة الشعريّة، ولا تتوقف عند علم التأملات الشاردة؛ إلى أن يجعل للعناصر خيالًا، وللكون علم نفس، حدَّ أنه يجعل الحبّ "لحظة التقاء مخيِّلتين".



والسؤال هنا، لا يتعلق بالفجوة بين الواقع والخيال، حيث ينحو الأخير لـ"تبديل حدث بآخر"؛ بل لأن مراقبة الواقع تعطي انطباعًا بأن الفجوة غير موجودة، وأن العلاقة بينهما لا تختزل في هذه التبادليّة.
في طفولتي، وبين العاشرة والثانية عشرة، كان لدى جيراننا ولدان في مثل سني، وكنا نطلق عليهما التوأمين بسبب ملامحهما المتقاربة، وكذباتهما التي لا تعرف حدًّا تقف عنده. ورغم أن قصصهما تثير استفزاز الجميع إلاّ أنها كانت تجذبنا بشكل غير مفهوم، فلم يستطع أحد أن يجاريهما في الحكايات العجيبة التي يؤلِّفانها.
كانا يرويان بهدوء وبطء متعمّد، فيتبعان أساليب التقديم والتأخير، ثم وكأنهما ينهلان من منبع واحد؛ يتابع أحدهما من حيث توقف الآخر.
أخبرانا مرّةً حكاية لقلق أصابه والدهما ببارودته، بدا عليهما الحماس وهما يرويان بكل حواسهما وقد توردت وجنتاهما وتقطعت أنفاسهما المبهورة، وهما يشرحان حال اللقلق المسكين الذي راح يئنُّ إثر سقوطه؛ بينما أخذ السرب في الأعلى يدور في دوّاماتٍ هلِعة ويصدر أصواتًا مرِّوعة.
كان ذلك الجزء من الحكاية مفهومًا، لكن غير المألوف بدأ لحظة تكلم اللّقلق مع الأب، الذي راح يعالج الجناح النازف معتذرًا من الطائر الذي لحق بسربه، وطبعًا سيعثر الأب، وفي موعد مرور ذلك السرب، في الوقت ذاته من كل عام، على هدية قرب نافذته.
لم يصبح الواقع الذي كانا يقومان بمحوه، ثم يعيدان تَظهيرَه، أكثر احتمالًا. بل تنبّهت مرةً أن وتيرة قصصهما العجائبية تتزامن مع الأحداث الأكثر مأساويّة في حياتنا؛ وصدفَ أنّه وفي الوقت الذي ألّفا فيه حكاية اللقلق وراحا يذيعانها أن رجلًا في حيّنا فقد عقله حال رؤيته حصان ابنه الوحيد ــ الذي غادر تلك الليلة لإيصال بضاعته للطرف الآخر من الحدود ــ واقفًا في الباب، وهو يقطر دمًا، واظب الأب بعد ذلك على نبش القبر إلى أن مرّ ذات يوم وهو يحمل ما بدا باروكة شعر، وقيل إنها ما تبقى في القبر!
هذا، وغيره، جعلنا نتعلق بكذباتهما، بل صرنا نطالبهما بمزيد، بالطبع يوجد بعض الواقعيين بيننا، وهؤلاء الشكاكين كانوا دومًا على أُهبة الاستعداد بأسئلتهم من قبيل:
"ولكن كيف عرف الطير بيتكم؟".
"وهل يمكننا رؤية بعض الهدايا التي أحضرها؟".
وإلى ما هناك من هذه الأسئلة، التي كانا يعثران على حلول وإجابات لها تزيد في تشّوشنا. فقد برعا في تشتيت انتباهنا عن الواقع، وعن إثبات ما يختلقانه. وبينما يتحدث الكبار عن الموت والدماء والسياسة والحدود، كنّا منشغلين بحكاياتهما، وكي يعطياها مصداقية يعِدان الحاضرين بأن يحضرا غدًا ومعهما برهان على صدقهما. وبالطبع كانا يظهران مع حكاية جديدة.
مرة، تجاوزا الحد الذي يسمح به المعقول. ولا أتذكر بالضبط ما الذي بدر مني، لكني أذكر أن أحدهما انفعل قائلًا: أنت أيضا تؤلفين الكذبات.





بدأت بعد ذلك أنتبه إلى نفسي متلبسة في فعل الكذب، والذي يمكن دهنه على طريقة جدتي: باللون الأبيض، حيث تتلاشى الحدود بين الحقيقي والمتخيّل، كطريقة لفهم الغموض الذي يتسبب به عالم الكبار، وأسلوبًا أعثر فيه على لقًى عاطفية تعذّر الحصول عليها في الواقع.
في حالتي، بدا الأمر إحلالًا باهتًا، وفي حالتهما بدا خرقًا شجاعًا للمعقول، لذلك رحت لاحقًا أبحث في الواقع عما يتماهى مع الخيال، وصار الأخير مؤشّرًا لاختبار جودة الواقع، مدركةً أن كل عملية تخييل هي للوعي بالواقع لا الهرب منه، كان ذلك أشبه بمزارع يسقي أرضه بحيث يدير الماء من قناة ضيقة إلى أخرى أكثر اتّساعًا ورحابةً. كنت أشعر بالغيظ منهما، ليس لأنهما يكذبان، فقد اكتشفت: أنني أختلق أيضًا. لكن وبينما أقوم بذلك كما يفعل من يحفُّ المعدن، حيث لا يبقى من الواقع سوى شبحه، فقد كانا يخترقان نقاط قوته، ويحطمان قانونّيته.
وبهذا، فإن كذباتي كانت تثير الشكّ حولي من قبيل: لقد عرفنا أن خالك ميكانيكي بثياب قذرة، وليس طبيبًا كما تدّعين، وكانت الشخصيّة المتخيّلة التي أختلقها سرعان ما تتهاوى إن ظهر بنسخته الحقيقية، كما فعل خالي حين وقف يومًا أمام الباب بثيابه المتسخة بالشحم والزيت، حيث أخذ التوأمان ينظران نحوي بشماتة.
في ظهيرة باردة سألتهما ــ متعمّدة إحراجهما ــ عن مكان الهدايا التي يحضرها اللقلق، فوعداني باصطحابي إلى حيث يخفيها والدهما، وأن ذلك متعذر نهارًا، لكونه يراقب المكان. وما لبثا أن اخترعا حكاية جديدة، فنسيت الوعد. وكنت أدرك، بحدس طفوليّ، أنهما لو تراجعا لمرة واحدة عن المواقع التي شيّداها فإن عالم حكاياتهما كله سينهار، وربما يجرف معه واقع طفولتنا القاسي، حيث في الأخير كان كل شيء ممكن الحدوث، من نبش قبر، إلى قتل غامض، إلى فراق غير مفهوم.
وإذا كان اللقلق يتكلم، فإن ذلك يجعل تلك الحوادث الغامضة مفهومةً لنا. وهذا ما جعلنا أنا وهما نحتمل كذبات بعضنا المتتالية، "كذبة مقابل كذبة"، وما كانت قصصهما أعمق وأشد تأثيرًا على الآخرين إلاّ لأنهما كانا يؤمنان بما يخلقانه.
في حالتي، بدا ذلك ضروريًا للإمساك بالواقع، وفي حالتهما تجاوزه.
بعد سنوات، وحين قرأت باشلار، تحررت من فكرة الخزي التي تسبب بها الواقع لي كأضرار جانبية، مدركة أن هذه العلاقة مع العالم ــ الكذبات التي نؤلفها ــ هي الجزء الأكثر فاعليّة، لأن "أحدنا حين يحلم بالعالم، فإن هذا العالم موجود كما يحلم به"، وحين أحاول التذكر الآن أشعر أن كل شيء مغطى بطبقة كالضباب، برك الطين، الخراف الجائعة التي تثغو، الموت المجاني، عائلات تعيش كما (آكلو البطاطا في لوحة فان غوخ).
وكان الخيال أشبه بتلك الطبقة من الكريما التي تغطي قالب الحلوى، ورغم هشاشتها فهي أطيب جزء فيه، ووفقًا لذلك فهمت عبارة شيلي مرةً "المخيلة تجعلنا قادرين على أن نخلق ما نرى"؛ حيث الخيال يتولى معالجة هذا الجناح المكسور للواقع، ليس ضروريًا أن يردّ الواقع الجميل بمثله، بل ربما يَعِدُنا بأن نلمس الهدية التي ننساها مع كل حكاية جديدة. وإذا كانت الذاكرة بحسب كثيرين "من صنع الآخرين"؛ فالخيال هو ابتكار الواقع ذاته، وهو ليس أكثر من الواقع، لكنه ليس أقل.
مات خالي الميكانيكي، لكن بقي خالي الطبيب الجميل، وماتت جدتي القاسية، لكن جدتي المتخيلة التي تجلسني على ركبتيها لتسقيني شراب الورد بقيت معي، وقد سمعت أن أحد التوأمين فقد في الحرب، فتوقف الآخر عن تأليف الحكايات.
لا شك في أننا إذا حاولنا قياس المسافة بين الواقع والخيال لن نعثر على جواب؛ بل ربّما بهذا تصبح الحقيقة في خبر كان.
أحيانًا كثيرة تُقلَب الحدود بين الضفتين، ليس لهدم أحدهما، بل للكشف عن جوهره. فكلاهما لديه لقالقَ تتكلم، وتنزف من رؤوسها الدماء، وتحمل هدايا لنا، لكن ليس لديهما الأب الذي يعالج النزيف، ورغم أنهما يطرحان الأسئلة ذاتها، لكن كلًا منهما يجيب عليها بطريقته.

إحالات:
(*) غاستون، باشلار، شاعرية أحلام اليقظة، ترجمة، جورج سعد.

*كاتبة سورية.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.