}

سؤال الهوية: هل وقعتْ الرواية في التباسٍ ما؟

فدوى العبود فدوى العبود 11 يوليه 2024

ما إن انتشرت الميديا كعالم فوق واقعيّ، وانزلقت في تياراتها المدوّخة النخب والعامة؛ حتى راحت دوّامات من التسميات تظهر من كل اتجاه؛ وكما في حفل للألعاب النارية صارت تتوالد من بعضها وضدّ بعضها (النسوية، بما ينضوي تحتها من تفرعات، الرجل الأبيض، الأسود، مناهضة الأنثوية، حركات الآباء، العابرون، الحركات مثلية الجنس، حركات المعاقين والحركات الإثنية، حركات ما بعد الاستعمار، وأخيرًا المانوسفير Manosphere)... هذه وغيرها حتى لحظة كتابة هذا المقال، الذي لا نضمن ولا نعرف ما يأتي أثناء أو بعد كتابته من اتجاهات يسارية أو يمينّية، نسوية أو ذكورية.

ويشعر قارئ "الهويات القاتلة" للروائي أمين معلوف بالأسى وهو ينهي كتابه بأمنية "أن يكتشف حفيده عندما يصبح رجلًا كتابه، فيقلّبه ويتصفّحه قليلًا، ثم يعيده إلى المكان المغبّر ويهزّ أكتافه مستغربًا أنه في زمن جدّه كانت هناك حاجة لقولِ مثل هذه الأشياء". 

ويمكننا تخيّل العجز الذي سيختبره جيل الأحفاد، أمام عبارات من قبيل انتماءات عالميّة، وإنسانية؛ بل ستبدو هذه المناشدة التي تطلب إلينا "ألا نحتجز الآخرين في انتماءاتهم الضيقة" وكأنها لغة من كوكب آخر؛ فما دامت الهوية مفهومًا ثقافيًا؛ فأي فهمٍ يـُرتجى لعالمٍ يستيقظ كل يوم على تمزقات جديدة، ويمكننا التنبؤ بالتيارات التي ستتولّد عنها في اليوم التالي.

وفي كل حال، جعلت الرواية العربية من هذا السؤال مركز خطابها، والمثال الأقرب الذي يجسّده بطل رواية "عصفور من الشرق" (1938) لتوفيق الحكيم هو سؤال الذات أو "النحن والذي انبثق نتيجة الاحتكاك المباشر أو غير المباشر بالثقافة الغربية" بل ثمة من رأى أن خطاب الرواية العربية آنذاك قد عانى من "الاستلاب الجمالي للرواية الغربية، على اعتبار أن مفاهيم كثيرة ومنها الاغتراب تم ترحيلها للرواية العربية" وهذا السؤال الذي ينم عن قلق حضاري برأي البعض، فيه الكثير من الحرية والإيجابية، فالذات تتعرف إلى قيمها ومنجزها وقصورها من خلال الآخر.

فيما بعد، ستسهم نكسة حزيران/ يونيو 1967 في ارتداد السهم إلى مصدره. فنعثر على أعمال منها "المهزومون" (1960) للروائي هاني الراهب، "الأشجار واغتيال مرزوق" (1973) للكاتب السعودي عبد الرحمن منيف، "كانت السماء زرقاء" (1970) للكاتب الكويتي اسماعيل فهد إسماعيل؛ يتمثل فيها هذا الفراغ الداخلي، الذي دفع الشخصيات لأشكال من الانتماءات الزائفة كالتيارات الصوفية والدينية أو الحزبية.

وبما أنه لا يمكن فصل الرواية عن واقعها، فإن الاغتراب أمام الآخر وعزلة المثقف عن الواقع الثقافي والاجتماعي تحولا إلى تقديم ذوات ممحوّة، وفي "نجمة أغسطس" (1974) و"اللجنة" (1979) لصنع الله إبراهيم، ورواية "الهؤلاء" (1973) لمجيد طوبيا، ورواية "ثرثرة فوق النيل" (1966) لنجيب محفوظ، يدور نقاش مهم، حول الذات التي تقطعت السبل بينها وبين تاريخها وحاضرها؛ إنها شخصيات مسطّحة، لا نعرف شيئًا عن تاريخ ميلادها أو وضعها الاجتماعي أو الطبقي وماضيها الأسري. فبطل اللّجنة دون اسم، ويبدو أنه ليس معنيًّا بإشراكنا معه في أي معلومات و"الاغتراب هنا لا يتمظهر في طريقة واحدة، بل في طرق متعددة، أحدها انقسام الذات على ذاتها وتحولها مما ينبغي أن يكون إلى ما هو كائن، من الحرية للخضوع".

لكن التوغل أكثر في منعطفات الرواية العربية، يثير الكثير من الأسئلة حول سؤال الرواية ذاته. ويمكن لرواية "موسم الهجرة إلى الشمال" (1966) للطيب صالح أن تفيدنا في هذا الخصوص. فبطلها مصطفى سعيد المثقف الذي ذهب للدراسة في أوروبا، يستدرج النساء إلى غرفته التي تفوح برائحة البخور؛ إنه مثال عن العنف الكامن في اللقاء الهوياتيّ بين الذات والآخر، وإيذانًا بفشل اللقاء غير المتكافئ. وهو يمثل الفصل قبل الأخير في هذه الرحلة التراجيديّة لسؤال الهوية.

بعد نصف قرن سيحوم شبحه في رواية "الرجل الخراب" (2015) للروائي عبد العزيز بركة ساكن، وبينما كان بطل الطيب صالح مثقفًا يقرأ الشعر ويفهم في الدين والفلسفة؛ فإن بطل الرجل الخراب شخصية ضحلة، ويكشف تاريخه وانتماؤه السريع لجماعة متطرفة ثم مغادرتها عن هشاشته. وبينما كان بطل الطيب صالح يفتن النساء الغربيات/ الآخر بثقافته فدرويش الذي يحمل شهادة في الصيدلة ويعمل مخريـًّا للكلاب؛ عاجز وضعيف ومتهم أمام زوجته نورا شولز التي تمثل قيم الحضارة الغربية.

وبما أن أفضل من يطرح الأسئلة هو الحرب، فقد تابعت الرواية السؤال عن الانتماء والوطن والدين واللغة والذاكرة، واستعرضت محنة الإنسان الذي وجد نفسه في موقع –البين بين- بين نار المتقاتلين وعنفهم، منها "شريد المنازل" (2010) لجبور الدويهي، و"حارس الموتى" (2015) لجورج يرق، وغيرهما من الأعمال الروائية بحيث تابع سؤال الهوية الطفو مدفوعًا بقوة ذاتية لفهم الإنسان والعالم الذي يوجد فيه.

إلى أن أتى الفصل الأخير في هذه المسرحية وكأنه "المستقبل المتوقع لمثل هذا الماضي"، وكحلقة تضيق أكثر فأكثر، غرق هذا السؤال بعالم غريب عليه، وانحرف إلى الكوارث التي انبثقت من هذه الشقوق. فتحول من سؤال الكل إلى الجزء بحيث يدفع الأخير الكل وينحيّه.

فالشخصيات في "بحثًا عن كرة الصوف" (2022) لروزا ياسين حسن، و"رجل من ساتان" (2019) لصهيب أيوب، "ماذا عن السيدة راحيل" (2019) لسليم بركات، و"لم يصلّ عليهم أحد" (2019) لخالد خليفة، و"عشبة ضارة في الفردوس" (2017) لهيثم حسين، مثلًا، تعيش صراع هويات ولّده عليها عنف المكان الذي هربت منه، أو المكان الذي لجأت إليه؛ وأصبح السؤال حول تأثيثات الهوية كاللباس والمظهر الجسدي وهويات مابعد الحداثة سؤالًا بديلًا.

وبما أن الهوية نتاج ثقافي، فثمة رأي يعتقد أن السؤال حولها ليس موثوقًا، وأن تمثُّل الرواية العربية له لا يمنحه مشروعية واقعية، فأسئلتها ناجمة - باعتقاد هذا التيار- عن تأثرها بالخطاب الغربي؛ الذي وكلما تلعثم في النطق أو تعثر صفّقنا له وحاكيناه.

وكما انجذبت- برأيهم- سابقًا لمفاهيم كالاغتراب والوجودية والسريالية والهوية البينيّة، فإنها مفتونة الآن بموضة هذا السؤال.

وثمة رأي أكثر حدّة يرى أن هذه الأسئلة مزيّفة ومفتعلة ولا تعبّر عن الواقع، وهي إن وجدت واقعيًا فلا مسوغ لتعويمها وجعلها تطفو على حساب مسائل أكثر أهمية. والأهم أنه لا يمكن الجزم إذا كانت الرواية العربية انساقت إلى سؤال الهويات مدفوعة بتأثير من سياسات الهوية التي لا تخفى على أحد، أو أن هذا السؤال فرضته شروط ثقافية وعنف المتقاتلين.

أسئلة كثيرة يطرحها الزمن الذي يضيق أكثر فأكثر على زائريه، وأسئلة أكثر طرحت في جلسة حوار مع أصدقاء سألني أحدهم عما إذا كان سؤال الهوية يعبّر عن الواقع الفعلي أم أنه أزمات المؤلف؟ قاطعه صديق أغراه حشري في الزاوية: هل تغازل الرواية العربية أحدهم!

لا يستطيع من يتحدث عن الهوية، أن ينجو من فخ الهوية ذاته، فالأمر هنا لا يشتبك مع السياسة والتاريخ والفلسفة فحسب؛ بل يوقعنا في مأزق مضاعف: لأنه يتعلق بالإنسان وحياته الداخلية العميقة بكل تعقيد مكوناتها النفسية والمكانية والذهنية واللغوية. وثانيًا باعتبار أنها صيرورة فلا تنمو إلا في علاقتنا بالآخر وبالمكان. فالمكان العنيف يسهم إلى حدٍّ كبير في تصدعاتها لأنه قوة ضغط في صياغتها.

ماذا عن الذات العالمية الكانطية، وهل العقل أعدل الأشياء قسمة بين الناس، وكيف نداوي جراح الهوية بالمعنى الذي تحدث عنه أمين معلوف الذي رأى أنها "يجب ألا تعالج بالاضطهاد والتواطؤ، بل عبر تفحصها ودراستها بهدوء، وفهمها ثم السيطرة عليها وترويضها"، إلى هنا ينتهي نص معلوف الذي يبدو أن رسالته حول هوية عالمية فُهمت بالمقلوب، حيث يتراجع سؤال الحرية والاختيار إلى سؤال البيولوجيا والاضطرار؟ يتحول فيه الإنسان جزءًا من جزء... والجزء جزء من جزء أضيق منه.

*كاتبة سورية.

إحالات:

- المانوسفير: مجموعة غير منظمة من الائتلافات الكارهة للنساء وغالبا تكون ذات صلة باليمين البديل. وهي تتضمن ائتلافات اضيق فأضيق: مناهضة الأنثوية- حركات الآباء وغيرهما.

- معلوف، أمين. الهويات القاتلة. الطبعة الأولى. سورية: دار ورد، 1999. 143 صفحة.

- مباركي، هاجر. سعيدي، محمد. إشكالية الهوية في الرواية العربية: معالم اغتراب أم بوادر استلاب. جامعة عبد الحميد بن باديس، جوان، 2018، العدد السادس.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.