}

القصة القصيرة عند عيسى جابلي: "البحثُ عن ميتةٍ مريحة"

فدوى العبود فدوى العبود 21 يوليه 2024
آراء القصة القصيرة عند عيسى جابلي: "البحثُ عن ميتةٍ مريحة"
عيسى جابلي
قرأتُ مرةً قصة للكاتب الأرجنتيني لويس بورخيس. كان يتحدث فيها عن حادثة اصطدام رأسه بالنافذة (كانت ضربة قوية ظنّ بعدها أنه لن يعيش).
حاولت البحث عن القصة، لكن ذاكرتي لم تسعفني. صورته وهو يسير بهدوء على طول سكة القطار حتى لحظة إصابته راحت تلحّ علي في أثناء كتابة هذا المقال. وشعرت أن عجزي عن إيجاد تعريف مناسب لما أنا مقبلة عليه هو السبب؛ وساعدني عنادي الفطري على متابعة التنقيب إلى أن عثرت على حوار أجرته مجلة "باريس ريفيو" في 1966 مع الكاتب الارجنتيني بعنوان: كتبت القصة بسبب ضربة على الرأس.
هذا هو! قلت بسعادة. هذا أنسب تعريف للقصة القصيرة في طبيعتها الدراميّة والساخرة، كما أنه المدخل المثالي للدخول في العالم القصصي للكاتب التونسي عيسى جابلي، فتجربته الممتدة بين "أزياء لقصائد السيدة سين" (2014)، و"كأن أمضي خلف جثتي" (2016)، و"أرى أصواتًا في الزوبعة" (2021)، تبثّ في قارئها هذا الشعور المقبِّض كمن تلقى لكمة مفاجئة على المعدة هذه المرة.
وهذه النصوص، إذ تتجذر في مكانها وهو ــ قاتم موشك على الانهيار، وزمانها الذي يلمِّح إلى زمن الثورة التونسية، من دون أن يشير لها صراحة؛ تَشي بالخراب الذي أصاب الذات الساردة. يختار المؤلف قلب الحدود بين الميثولوجي والواقعيّ، بين الماضي والحاضر والإنساني والطبيعيّ، يفتح ثغرة بينها، فيتسرب أحدها للآخر؛ كما يؤنسن الأشياء وينتزع من الإنساني روحيّته، ما يضفي على نصوصه ملمحًا فوق طبيعي.
تبدو قصصه تنويعات على خراب السلطة والفرد. وما يثيره هذا من معاني الموت والفراغ، عبر حسٍّ نقديّ يتّخذ السخرية وسيلةً للكشف عن جذر الخراب؛ و"لأنه ولكي نرى المأساة الحقيقية والكاملة ــ حسب أميل زولا ــ لا بدّ من مساءلة ما هو قائم".
في مجموعة "أزياء لقصائد السيدة سين" يتلاعب بالزمن، ويستدعي شخصّيات تاريخيّة لرؤية المدينة المعاصرة، حيث يصحب السارد الشاعر الصعلوك الشنفرى إلى سباق الحمير في مدينة "حميران". وتمتلئ المجموعة باللغة التصويرية التي تعكس عدم قدرة الذات الساردة على استيعاب بشاعة عالمها. بل لعلّ القارئ يسأل نفسه لماذا يلجأ الكاتب إلى ذلك القالب اللغوي ومبالغاته الإنشائيّة؟
لكن الإجابة موجودة في الأحداث، حيث ينقلب كل شيء إلى نقيضه. فالواقع يحبل بكثير في مدن يغطيها الدم والقيح وسباقات الحمير الهزيلة، والحظائر التي يدخلها الجميع طوعًا لن تلد المدن إلا مسوخًا.
والشخصيات تعاني العجز الجنسي في رمزية تحيل لعجز رجال تلك البلاد عن الحب. وبالتالي فالفعل الجنسي مجردًا من الحب يصبح اغتصابًا، أو قتلًا، وفعل الحب لا ينتج عنه إلا كائنات مشوّهة (تلد دادا مباركة طفلًا برأس حمار، فتحولت الزغاريد إلى شهقات تعجب، وأغمي على القابلة).
يتابع السارد تفريغ كل شيء من معناه، حتى يكاد القارئ يسأل: أين هو الإنسان؟
ويأتي الجواب سريعًا في مجموعة "كأن أمضي خلف جثتي" (2016)، وهنا ثمة قصة عنوانها "ميتة تلقائية" يفاوض فيها الناس عزرائيل الذي يفتتح متجرًا، والذي يستعرض لهم أسوأ الميتات وأقلّها ألمًا، على ميتة مريحة. فيختار السارد أن يموت عبر تصفية دمه، وحين يصله عزرائيل بجهاز شفط الدماء يظهر على مؤشر جهاز قبض الروح: هذه جثّة.
هذا هو الجواب الذي تقدمه التجربة القصصية التي بين يدينا، بل إنها تستعرض أشكال الفراغ الداخلي للإنسان، الذي يطلب الموت كحل نهائي وأخير، حيث "الموت هو الراحة للكائن البشري فاللحم مصدر الألم". حتى الرغبة الجسدية في قصة "درس ختامي" تصبح فعل موت وانتهاك تمارسه الذكورة على الأنوثة.
لكن ماذا لو فكر الإنسان بأن يكون حيًّا؟
الجواب موجود في قصة "حياة على وجه الخطأ"، حيث يدور حوار عنيف بين المحقق والشاب الذي ينفي عنه تهمة الحياة، إنه يبرهن مرّةً تلو أخرى على موته. أنا ميت يا سيدي. ومخصيّ، لكن وفي زلّة لسان يقول للمحقق: أحيانًا أحكي. فتثبت عليه التهمة: أنت حي إذًا.
فمن أي ريح هبّ الموت على البلاد؟




لا يحتاج القارئ إلى كثير كي يكتشف الدلالة الرمزية لخراب المكان، فالمدن الصامتة التي يعيش أهلها على الخرافة، المدن الجميلة هي التي تروي القصة بطريقتها، إنها تبدأ في الرعد والمطر والسيول، إنذارًا بالتبدل من حال إلى حال؛ فيظهر "بروكست" الذي تصنعه المدينة و"مدّاد يده" الذي يدخل أرض جنان "وما هي إلاّ أعوام حتى كانت جنان أرضًا قاحلة ولا خضرة، سماؤها داكنة صفراء بلا عصافير".
يختار السارد أن يطلعنا على مدن تائهة، غيمها أسود، فئرانها بنفسجية، كائناتها مسوخ عجيبة. سكانها كالسائرين نيامًا، يتبعون بروكست وكل جلاد وهم يرددون: تقدس الروح، تقدس العجب.
وبما أنهم استحالوا جثثًا، فإن إمكان تحررهم معدوم، الأفق الوحيد أمامهم هو الموت. والأخير يأتي بهيئات كثيرة، أحدها تحويلهم إلى قطاع طرق.
يهيمن على ذهن المؤلف ارتباط الخراب والتشوه الروحي بالوضع السياسي. فهو المسبّب لكل ما يحلّ بالبلاد والبشر. لذا يخترع الخوارق والأحداث العجيبة ليس لاختراق الواقع، بل لجعله أقلّ مما هو عليه. يظهر ذلك بوضوح في قصة "إنك حامل"، لكن المبالغة في الرمزية في نصوص جابلي تفقد في أحيان كثيرة قوتها؛ بسبب اللغة التصويرية المبالغ في استعاراتها.
وبخلاف ذلك، تعكس بعض القصص كما "نبض الجبال" ما آلت إليه حال الإنسان تلميحًا لا تصريحًا، حين يغزو الجراد المكان، ويحاول الناس حمايته منهم، لكن الجراد لم يكن خطرًا كأولئك الذين أتوا فجأة وظهروا في المشهد ببدلات سوداء وربطات عنق.
خيط ناظم يمتد في نصوص جابلي يحكمه الموت بإتقان، ويعكس امتزاج الوضع الاجتماعي بالوضع السياسي. فيه إدانة خفية للناس الذين هللوا لمسوخ ما لبثت أن مددتهم فوق سرير التقطيع؛ لتصنع منهم نموذجًا واحدًا وتلغي إنسانيتهم، عبر مدّ يد السلطة إلى صدورهم مقتلعة قلوبهم. ولا يخلو الأمر، وإن على خجل، من محاولات تمرّد، أو رفض من بعض الأشخاص الذين ينتهون للتسليم. وهذا ما تعكسه المجموعة الثالثة "أرى أصواتًا في الزوبعة" (2021)، والتي يظهر فيها الإنسان ملاحقًا من السلطة، ومن المجتمع. ويدرك المؤلف أن الوصف غير كاف في هذا المجال. وبخلاف المقولة التي ترى "أن الوصف هو إكمال الأشياء"، فإن مبالغاته اللغويّة هدفها الانتقاص من السلطة بكل أشكالها الاجتماعية والدينية والسياسية. ويبدو أن المؤلف قد نجح في ذلك، وإن على حساب الصدق الفني أحيانًا.
إن المفارقة المقلقة في هذه النصوص أنّ اللعب ينتهي إلى النقيض تحت ضغط فكرة إدانة الواقع النابذ للفردية، وقد أنقذت الرمزية في مواقع كثيرة هذه النصوص، وأغرقتها في مواقع أخرى ففقدت فاعليتها.
رغم ذلك، فهذه التجربة القصصية المتفرّدة كُتبت تحت ضغط فترة قاتمة وسرياليّة ساد فيها الدم والموت واليأس بشكل مخيف، ليس في تونس وحدها، بل في العالم العربي أجمع. وليست مفارقة أن يبدأ الإهداء في المجموعة الثانية إلى آلان السوري، الطفل الذي ما تزال صورته على الشاطئ مثل ندبة في الذاكرة.
إن أهم ما يميز هذه التجربة القصصية هو بحثها خلف المظهر الهادئ للأشياء عن العنيف، وبحثها خلف الحياة عن الفراغ، وبحثها داخل الإنسان عن الجثة.
وإذا كان الواقع الذي نعيشه يرجع إلى مسببات كثيرة تجعل منّا ما نحن عليه، فالعمل الفني أشبه برفع للغطاء. لذلك فهو لا يتبع الماضي، ولا يتنبأ بالمستقبل، إنّما يحاول إزاحة الستارة. وقد حدد فرانك أوكونور هذه المهمة بقوله: "إن على القصاص أن يبحث دائمًا عن وجوه أخرى في الوجه الذي يقبله المجتمع من حياة الفرد، ليتمكن من الكشف عما وراء ذلك الوجه".

إحالات:
حوار مع بورخيس: كتبتُ القصة بسبب ضربة على الرأس، مؤسسة العويس الثقافية، نقلا عن "الشرق الأوسط"، 28/ 4/ 2020.

*كاتبة سورية.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.